لم يكن «التكريم الوطني» الذي أقامه النائب ميشال المر على شرف ابنه الياس المر مجرد لقاء عابر. الاثنين الماضي، أعاد «أبو الياس» رسم خارطة السياسة اللبنانية، وفي رسمته هذه، يكاد نائب المتن الشمالي يزاحم الرئاسات الثلاث... وأكثر
يهوى النائب ميشال المر اللقاءات السياسية، ولطالما أتقن أصول حبكها. خلال توليه وزارة الداخلية في التسعينيات، أنشأ ما يسمى «ديوان الأربعاء» الذي كان يحضره نحو مئة نائب، على غرار لقاء الأربعاء الذي يعقده رئيس مجلس النواب نبيه بري في عين التينة حالياً. قبل ثلاثة أيام، أعاد المر «ديوانيته» الى ذاكرة الكثيرين، رغم أنها انعقدت يوم الاثنين في منزله في الرابية. لم يقتصر التغيير على المكان والزمان، بل انسحب على الحضور أيضاً، وكاد المر يترأس الطاولة التي جمعت الرئاسات الثلاث وزعماء الكتل النيابية لولا غياب بري الذي مثّلته زوجته. أعاد المر إحياء عزّه، يوم كان يقول بكل ثقة: «لو كنت مارونياً، لكان مكاني في قصر بعبدا». أما المناسبة، فتكريم «أبو الياس» لالياس احتفالاً بترؤسه هيئة تابعة للانتربول الدولي في حضور الأمين العام لمنظمة الانتربول رونالد نوبل.
منذ نحو عشرين يوماً، زار المر الأب القصر الجمهوري وفي يده دعوة الرئيس ميشال سليمان الى «التكريم الوطني». رحّب سليمان بالأمر مشترطاً حضور الياس بنفسه لدعوته وجهاً لوجه. فكان له ما أراد. لاحقاً وزّعت الدعوات على «الدولة اللبنانية» برمتها وسفراء الدول الذين حضر منهم الروسي الكسندر زاسبكين والإيراني غضنفر ركن آبادي. لبّى غالبية سياسيي لبنان الدعوة، فحضر رئيس الحكومة المكلف تمام سلام، رئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد، رئيس حزب الكتائب أمين الجميل، وزير الداخلية مروان شربل، السيدة رندة بري، النائبان ستريدا جعجع وهاغوب بقرادونيان... وطبعاً رئيسة اتحاد بلديات المتن الشمالي ميرنا المر. لم يكتف أبو الياس بمن سبق، أراد تطعيم «المناسبة الوطنية» بحضور القادة الأمنيين والعسكريين: قائد الجيش جان قهوجي، المدير العام للامن العام اللواء عباس إبراهيم، المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء إبراهيم بصبوص، المدير العام لأمن الدولة اللواء جورج قرعة ومدير المخابرات العميد إدمون فاضل. كذلك حضر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ورئيس جمعية مصارف لبنان فرنسوا باسيل الذي كرّم بدوره المر الابن، أول من أمس. أما رئيس الحزب الاشتراكي وليد جنبلاط ورئيس كتلة المستقبل النيابية فؤاد السنيورة فتغيّبا لأسباب أمنية، ورئيس تكتل التغيير والإصلاح بداعي المرض، علماً بأن منزل الأخير على بعد بضعة أمتار من بيت المر. وعلى عكس رئيس الهيئة التنفيذية سمير جعجع الذي مثّلته زوجته، لم يرسل عون وجنبلاط والسنيورة ممثلين عنهم، فيما سرت تساؤلات عدة عن دعوة رئيس كتلة الوفاء للمقاومة رغم اتهام المر الابن لحزب الله بمحاولة اغتياله، وعن تلبية رعد للدعوة رغم كل كلام المر بحق الحزب وتصريحاته التي أظهرتها وثائق «ويكيليكس» و«الحقيقة ليكس». كذلك فوجئ البعض بقدرة القيادات السياسية على التنقل بحرية أحياناً ونسيان العذر الأمني الدائم عندما يشاؤون.
في العشاء الذي عقد على شرفه، لم يكن الياس المر نجم «الديوانية». طغى شباب أبو الياس ونشاطه على ألقاب ابنه وكرسي رئاسة الجمهورية. أدار المر طاولة الحوار بحنكة لم تفاجئ الحاضرين. فُتحت المائدة الحكومية على وسعها، وسط تأكيد سلام للحاضرين عدم استطاعته التلكّؤ في التشكيل لمدة طويلة. ووفق أحد الحاضرين، قال الرئيس المكلّف بما يشبه اليقين: «إذا ما مشي عون بالحكومة بيمشي جعجع». لكن ذاكرة المر الأب لم تخنه بعد، فسارع الى تذكير سلام بالاتفاق الثلاثي في ثمانينيات القرن الماضي (بين القوات عبر إيلي حبيقة والاشتراكي عبر وليد جنبلاط وحركة أمل عبر نبيه بري، برعاية سورية) وقول عبد الحليم خدام يومها عن الرئيس الجميل الذي رفض الدخول في الاتفاق: «يا بيمشي (أي يوافق)... يا بيمشي (يرحل)». ابتسمت ستريدا جعجع، فاستفاض المر بالكلام: «يومها نحن مشينا وبقي الجميل وجعجع اللذان تمردا على قرار القوات اللبنانية»... إلا أن المفارقة اليوم أن الجميل موافق على الاتفاق على عكس جعجع. لم يكد الرئيس المكلف يرتشف الماء حتى بدأ أبو الياس نقاشاً آخر حول المداورة في الحقائب، فاغتنم بقرادونيان الفرصة للمطالبة بإعادة وزارة النفط الى الطاشناق التي شغلها الوزير السابق شاهي برصوميان. انتفض سلام وكأن حلاً لمعضلة الحكومة لمع لتوّه في الأفق: «ومن تقترحون لتولّيها؟»، فأجاب نائب الطاشناق: «سيبوه هوفنانيان مثلاً». لمعت عيون سلام وسليمان وانهمرت الأسئلة على بقرادونيان: «هل هذا اقتراح ميشال عون؟ هل يقبل بطاشناقي في النفط؟ ما هو ردّ فعل التكتّل على هذا الطرح؟». نفى ممثل الطاشناق أن يكون قد ناقش وعون هذا الاقتراح، مشيراً الى أنه يمزح فحسب، إلا أنه لم يصدقه أحد، وبات اسم هوفنانيان موضع تداول جميع وسائل الإعلام في اليوم التالي. ولكن مهلاً، في صالون المنزل من لا يزال ينتظر تكريمه. نهض أبو الياس عن طاولة عشائه ليظهر مجدداً أمام الكاميرات بعد غياب طويل، وكانت كلمة ترحيبية بالحضور وكبار مسؤولي الانتربول.
يوم الاثنين، أثبت المر لخصومه وحلفائه اللدودين أنه لا يزال يمسك بالخيوط السياسية الداخلية، كاملة. وباستطاعته جمع لبنان برؤسائه وزعاماته في عشاء صغير داخل أسوار منزله العائلي. ليس المر مجرد نائب في المتن الشمالي، ولا هو أحد أعضاء فريقي 8 أو 14 آذار، وبالتالي ليس بوسع من تدغدغهم طموحات الرئاسة إلا الحضور مبتسمين. لطالما كان المر «طباخ الرؤساء»، وساهم بطريقة أو بأخرى في إيصال كل من الياس سركيس وبشير الجميل وإميل لحود وميشال سليمان الى سدّة الرئاسة. كان في وسع التيار الوطني الحر محاصرة نفوذ المر عام 2005، إلا أن عون اختار إعادة إحيائه. والمفارقة هنا أن الجميع حضر عشاء الرابية الاثنين الماضي، باستثناء عون ونوابه.