تستيقظ راوية فجراً على صوت صراخ... إنه والدها من جديد. تهرع إليه لتسأله عما يجري، فيسألها: "من أنت؟، ابتعدي من هنا"... وبعد دقائق، تنتهي هذه الأزمة، ويعود إلى النوم، هذه الذكريات التي حرم المرض منها والدها ومحاها من رأسه. سنوات عدّة أمضتها راوية بخدمة والدها الذي أصيب بمرض الألزهايمر، وهي تأبى أن تضعه في أي مكان متخصص لحالته، وتتحمل نسيانه، وتحمل همّه، آبية أن يهتم به أي شخص آخر باستثنائها هي.
ليس أمراً طبيعياً
اليوم، يعاني حوالي 30 ألف لبناني من مرض الألزهايمر، ويعاني معهم أفراد عائلاتهم ومقدمو المساندة لهم، خصوصاً لغياب علاج شافٍ منه وارتباط العلاج فقط بتخفيف وبتأجيل تفاقم حالة المريض رغم الأموال الطائلة التي تدفع عالمياً لإجراء البحوث العلمية سعياً للتوصل إلى دواء ومعالجة.
ويعتبر هذا الداء الأكثر انتشارا بين مجموعة من الأمراض التي تعرف بحالات الخرف، وهو يصيب الدماغ ولا يمكن تغيير مساره حيث يؤدي الإنحلال التدريجي لخلايا الدماغ إلى تلف القدرات الذهنية وخاصة الذاكرة. كما يؤثر أيضاً على السلوك، والمزاج والمشاعر وعلى قدرة القيام بالنشاطات الحياتية اليومية.
وفي هذا السياق، تشرح المديرة التنفيذية لجمعية "الألزهايمر" ميرنا منيمنة أن "الخرف ليس أمراً طبيعياً يأتي مع تقدم السنّ، على عكس الفكرة المنتشرة في لبنان"، موضحةً أن "التقدم بالسن هو عامل من عوامل الخرف لا العكس، فهذا منطق خاطئ ويجب تغييره". ولذلك، تقوم الجمعية اليوم بدور كبير على الصعيد الوطني لنشر الوعي حول الخرف والألزهايمر وعلاماته الأولى لكي تبدأ متابعة المريض منذ بداية التشخيص، مما يساعد على تحسين نوعية حياته. وبالإضافة إلى ذلك، فهناك أدوية تؤدي إلى تأخر تطور المرض رغم أنها لا توقفه.
تشدد منيمنة على أهمية عدم نبذ مريض الألزهايمر، بل المحافظة عليه ضمن جو عائلة تحتضنه، مشيرة إلى أن الجمعية تقوم أيضاً بحلقات دعم ومساعدة مقدمي الرعاية لمرضى الألزهايمر لكي يتمكنوا "من تحمل الضغوطات المترتبة عن الإعتناء بالمريض، فبعضهم يتعلق به بشكل كبير، ولا يمكنه أن يعيش من دونه، والبعض تبدأ لديه عوارض الإنهيار العصبي لكثرة الضغط".
وتشرح منيمنة أن "لا إحصائيات عن الألزهايمر في لبنان، لكن بشكل تقريبي فإن 78% من الذين يفوق عمرهم الـ65 سنة يعانون منه، إذاً، نقدّر عدد الحالات في لبنان بالـ30 ألف حالة، فقط 20% منها تم فيها تشخيص المرض"، موضحة أنه تم القيام بفحص الألزهايمر لـ300 شخص فوق الـ65 سنة، وتم تشخيص 80 حالة، واصفة هذا الرقم بأنه كبير.
تقدم في التشخيص لا في العلاج
عشر علامات تؤشر إلى بداية الألزهايمر، وهي: تراجع الذاكرة القريبة المدى، والقدرات في أمور الحياة اليومية، بالإضافة إلى مشاكل في اللغة والتعبير، وضياع في الزمان والمكان. وتبدأ بالظهور علامات ضعف في الحكم على الأشياء وتراجع في التفكير المجرّد بالإضافة إلى وضع الأشياء في غير مكانها وتغير في المزاج والتصرفات، وتغير في الشخصية، إلى جانب تراجع المبادرة الفردية.
ومن عوامله، التقدم بالسنّ حيث أن غالبية المرضى هم في الخامسة والستين وما فوق، بالإضافة إلى تاريخ المريض الصحي العائلي، ومعاناته من أمراض تؤثر على الشرايين أو على الأوعية الدموية الموجودة في الدماغ.
يرى الطبيب نبيل نجا أن ارتفاع نسبة هذا المرض أمر منطقي بسبب ارتفاع عدد كبار السنّ، مشدداً على ضرورة نشر الوعي بسبب التغير الحاصل اليوم في التركيبة الإجتماعية اللبنانية، حيث أن الكبير في السنّ يُترك بمفرده أو برفقة عجوز آخر ولم يعد يسكن مع عائلته الكبيرة.
وينصح نجا الناس باستشارة الطبيب عندما يشعرون في أول عوارض تراجع الذاكرة، لأن النتائج تكون أفضل مع العلاج المبكر.
ويشرح أنه منذ 14 سنة من التجارب والأبحاث العلمية حتى اليوم، تم إحراز تقدم كبير على صعيد التشخيص ولكن ليس على صعيد العلاج، مشيراً إلى ان "الألزهايمر هو أكثر مرض يخصّ الدماغ يدرس في العالم، ويدفع على دراساته سنواياً مئات مليارات الدولارات، ونحن في لبنان، نشارك ونساهم في دراسات عالمية حوله".
ومن الحالات القليلة والنادرة جداً في لبنان، فقط تمكن من تشخيص حالة الألزهايمر لدى لبناني، وقد علم هو بذلك ويعي أن المرض ما زال في مراحله الأولى، وهو المواطن أسبير غنطوس الذي عينته الجمعية سفيراً لمرضى الألزهايمر في لبنان. ويقول غنطوس: "الموت شيء طبيعي، ومن خلال إيماني بمشيئة الله، إني أواجه هذا المرض بأحسن الطرق وأتقبل الواقع الذي أنا موجود فيه"، مشيراً إلى أن رسالته إلى كل الأشخاص هي أنه ما زال قادراً على متابعة حياته، داعياً إلى عدم نسيان ذلك لدى الإهتمام بمرضاهم.
يبقى عدم نسيان من بدأوا بالنسيان واجباً على الجميع، لا سيما على من يتعاملون كل يوم مع مرضى الألزهايمر، احتراماً لكرامة الإنسان التي ترافقه كل حياته، بغض النظر عن قدراته الجسدية والفكرية والإنتاجية.