من الصعب على شخص أو مجموعة أو تنظيم أن يغيروا من سيرتهم ونهجهم والأعراف التي اعتادوا عليها، ولو على حساب الآخرين. هذا بالضبط حقيقة السلوك السياسي للقوى التي حكمت منذ الطائف وحتى العام 2005 واستفادت من السيطرة السورية ومن نِعَم ما جادت عليها تركيبة خدام – الشهابي – كنعان في السياسة والإقتصاد والأمن. وهذا ما يفسِّر أيضاً سلوكها منذ العام 2005 مع الشريك المسيحي، هو المؤسس للكيان ولمشروع وطن الحريات والمساواة والحداثة، والضيق الذي تشعر به في كل مطالبة للقوى المسيحية الرئيسية صاحبة التمثيل الواسع بحقوقها وبالتوازن والشراكة في النظام.
مذ كان في فرنسا وقبل عودته، سعت هذه التركيبة لإبقاء الجنرال عون منفياً إلى ما بعد الإنتخابات، وسعت مع فرنسا الشيراكية التي أرسلت موفدين إلى دارة العماد من أجل حثه صراحة على عدم العودة قبل الإنتخابات. ثم نسجت تركيبة الحريري- جنبلاط- بالتعاون والتكافل مع حزب الله وحركة أمل التحالف الرباعي بغطاء فرنسي إيراني، وعلى الحضور المسيحي السياسي السلام أو يرضى المسيحيون بدور الملحق والتابع!
هذه العقلية التي بموجبها تقاسمت قوى الأحادية الإسلامية الجبنة والمغانم والمواقع، هي المربكة اليوم إزاء الإرادة الواضحة لبناء النظام على أساسٍ سليم وصحيّ، وفي تصحيح قواعد اللعبة. أساس المشكلة كلمة قيلت خلال التفاوض على انتخابات العام 2005 في الرابية وتختصر كل شيء. "منعطيك" كذا وكذا، ولا يزالون يكررونها "منعينلك"، "منسميلك".. المشكلة في هذه "النحن" النافية للشراكة مع الآخر، ومن موقع ما صنعته القوة العسكرية والمخابراتية السورية.. وهذا ما تواصل بعد الإنسحاب السوري، وحتى لحظة الخلاف مع الرئيس المكلف تمام صائب سلام.
ضمن هذه القراءة تكون العقدة الحقيقية هي "عقدة زمن غازي كنعان" المتحكّمة بقوى الطائف التي يفرزها قانون انتخاب متخلف، وليس "عقدة" ميشال عون كما يحاولون أن يصوروا. فالممارسات الخاطئة لا يمكن أن تشكل عرفاً ثابتاً مهما طال استخدامها. ومقاومتها هي تصحيح للمسار وليس "عقدة". الجميع يعرف في لبنان أن هذه الطبقة، وبالتكافل والتضامن مع ضباط المخابرات السورية، أفرغت الدولة من مضمونها وأطلقت مسيرة نهب المال العام والهدر والفساد وبيع أرض لبنان، وأدت قسطها للعلى في الفشل في بناء الدولة. وعندما يأتي من يبرز نموذجاً ناجحاً في الإدارة، تلتفُّ حول نفسها لإقصائه وإبعاده، بعدما أسقط أوراق التين عن ضعفها وفشلها. فكيف يمكن إئتمانها على ثروة وطنية هائلة في أبعادها هي الغاز؟؟
تتواطأ أو تنجرف وسائل الإعلام في بروباغندا "العقدة". المانشيتات والتقارير تتحدث عن "عقدة" ميشال عون و"التشدد" في المطالب. ولا يقول أصحاب هذا الإدعاء والمروجون له لماذا يتفرد تيار المستقبل بتمثيل السنة وحزب الله وحركة أمل بالتمثيل الشيعي ووليد جنبلاط بالتمثيل الدرزي، أما حقوق المسيحيين، المتنوعين سياسياً، يريدون السيطرة عليها وتمزيقها وتشتيتها.
إن كانت هذه الطبقة لا تريد الميثاقية، ولا تريد الحضور المسيحي الفاعل في الدولة والنظام، وتضيق ذرعاً بتنوع سياسي حقيقي، فلتقلها صراحة ولا تختبئ خلف الشعارات الكلامية الفارغة. إن استقرار لبنان يمر عبر التوازن، وعبر تعدد سياسي في كل الطوائف. حتى ذلك الحين، يستطيع أن يطمئن غازي كنعان في قبره، لأنه ترك تلامذة نجباء أمناء على إرثه الأسود في لبنان.
لكنهم لن يفرحوا كثيراً... لقد خرج المسيحيون من القمقم، ومن الصعب إعادتهم إليه!