يظهر التأثر في عيون ليلى (اسم مستعار) حين ترى ابنها جورج، طفل الـ5 أعوام، يلهو مع بنات عمّه في حديقة منزلها الصيفي في إحدى قرى شمال لبنان... فهي كانت تريد إجهاضه لولا اتصال في "آخر لحظة" بطبيبها وهي جالسة تنتظر موعدها في أحد "المختبرات" للتخلص من الطفل، فقال لها: "لا أنصحك بذلك... اتكلي على الله وارجعي إلى بيتك".
تتذكر ليلى ليالي القلق المستمر التي عاشتها لأنها كانت قد أخذت حقنات للإجهاض قبل التوجه إلى المختبر. فكانت تردد صباحاً ومساءً: "ماذا لو ولد الطفل مشوهاً؟"... حتى ولد جورج سالماً وسليماً.
إلا أن قصص الأطفال ما قبل الولادة لا تلتمس كلها الخواتيم السعيدة، إذ إن وسائل التخلص منهم باتت سهلة جداً: فملايين الأجنّة باتت تقتل حول العالم بأسلحة كيميائية (حبوب تباع في الصيدليات، في أغلب الأحيان دون أي توصية من طبيب في مختلف بلدان العالم)، أو بأسلحة "طبية" متنوعة، وبات مسؤولو "الدول الكبرى" يخوضون حملاتهم الإنتخابية رافعين شعار "نعم للإجهاض"، و"الإجهاض للجميع"، حتى باتوا أيضاً يغطون كلفة الإجهاض لمواطناتهم لكي لا تحمل أي امرأة عبئاً للتخلص من طفلها.
أمور تجري في السرّ!
القانون اللبناني يعاقب، في المبدأ، كلّ من يستخدم أي وسيلة من الوسائل المجهضة بأي طريقة، فالمُتاجر بالأدوية المجهضة يعاقب أيضاً.
إلا أنه، ورغم وضوح القانون، فمن المعروف أن ما يجري في لبنان اليوم هو "غض للنظر" وتجنّب الحديث عن المشكلة، بحسب ما يؤكد المحامي اسكندر جبران، المتابع للملف.
ويشرح أن هنالك "أمورا كثيرة تجري في السر والخفاء في عيادات كثيرة وبعض المستشفيات، مليئة بالمجازر بحق الأطفال الذين لم يولدوا، وهي تسهم بتغطية الجرائم التي تقوم بها تحت ستار سبب علاجي أو مرض معين أو عدم نجاح الحمل فتتحول عملية إفراغ الرحم (هذه الحالة تتم حين يموت الجنين في الرحم لأسباب لها علاقة بعدم نجاح الحمل) إلى عملية إجهاض".
ويؤكد أنّ "أيّ إخبار عن عملية إجهاض إلى السلطات والشرطة يجب أن تتحرك على إثره تلقائياً النيابة العامة وتدعي على أي شخص عمد إلى الإجهاض وذلك في إطار ما تنصه المادة 539 من قانون العقوبات اللبناني"، ولكن... كم من العمليات نسمع بها كل يوم!
ويتابع: "منذ تسعينات القرن الماضي هناك اقتراحات قوانين لإجراء تعديلات في القانون تبيح الإجهاض، ولكن هناك نواب لديهم ذرّة ضمير وقفوا بوجه هذه الإقتراحات، فبقيت كلها في الأدراج ولا يجرؤ أحد على طرحها من أجل التوازن الطائفي"، مشيراً إلى أنه "للأسف قد جرت تعديلات على موضوع وسائط منع الحمل لكن تشريع القتل ما زال مرفوضاً في لبنان".
ويعتبر أن "التبدل في المواقف وفي تشريع القوانين التي تسمح بالإجهاض حول العالم، ولا سيما في الغرب، ليست إلا دليلا على مزيد من الإنحدار لدى المجتمعات الغربية، لأن الإنسان في بعض هذه المجتمعات بات رقماً ولم يعد محترماً كما يجب ولو حاولت هذه الدول تأمين المتطلبات الحياتية للفرد، إنما كرامته البشرية هي غير مصانة"، معتبراً ان هذه الدول "تمادت في التشريعات التي تبيح الإجهاض، ما معناه القتل، وفي إقرار قوانين مخالفة لقوانين الطبيعة".
أعداد الإجهاض في لبنان "مخيفة"
القانون وجد لكي يدافع عن الأكثر ضعفاً... فعندما يعطي القانون القرار للأم أو للأب أو للإثنين، للإجهاض أو عدمه، فهو يذهب ضد طبيعة القانون بحد ذاتها. وحينها، يتذرع القانون بحق الأم في أن تقرر مصير الولادة، ولكنه يتجاهل حق الجنين في أن يولد. فحق الولادة هو أساس كل الحقوق التي ينالها الشخص.
الأب جورج الترس، المتخصص بأخلاقيات علم الأحياء، يصف الإجهاض بـ"العمل الخطير"، مشدداً على أن "العلم ينقض كل التبريرات التي يعطيها المجهضون: فالخلايا الأولى التي تتشكل تابعة لكائن بشري متصل بالأم ولكنه كائن مختلف عنها". ويؤكد أن "الجنين هو إنسان، ولا يحق لنا أخلاقيا التعدي عليه، فلديه كرامته وقيمته ككائن بشري... فما ذنب الطفل بمشاكل الأهل الإقتصادية أو العلاقية أو غيرها من المشاكل؟".
ويتابع: "أرقام الإجهاض مخيفة في لبنان رغم عدم وجود احصاءات واضحة، ولكننا نعرف ذلك من خلال الناس والأطباء الذين يفتحون "الدكاكين" بهدف الكسب المادي"، معتبراً ان "الإجهاض هو قتل غير مسموح به، وبالتالي فلا يجب أن "ننوّم" ضميرنا بأي شكل من الأشكال... فليس كل ما هو مقبول من الأكثرية مقبول أخلاقياً".
ويشير إلى أنه، من وجهة النظر الدينية، فمسيحياً "الأمر مرفوض تماماً، لأنه تخلص من كائن بشري بمرحلة بداية وجوده وهذا العمل مخالف لكرامة الشخص البشري ولوصية "لا تقتل"، من هنا تنطلق الكنيسة في الحديث عن الإجهاض وتنظر إلى الإنسان كنظرة مساواة وعدالة. فالطفل منذ اللحظة الأولى، وهو في رحم أمه هو انسان وله قيمته وكرامته، ولذلك تدافع الكنيسة عنه وتحميه". ويؤكد أنه، بناء على ذلك، فإن "الإجهاض خطيئة مميتة تتطلب من المسيحي التوجه إلى سرّ الإعتراف". أما بالنسبة للإسلام "فللإجهاض حكم عام، وهو الحرمة ما دام يتعلق بالإعتداء على حياة إنسان أو مشروع إنسان إلا في حالة الضرورات المتعلقة بحياة الأم. إلا أن حكم الإجهاض مرتبط بمراحل الجنين بدءاً من تلقيح البويضة إلى نفخ الروح فيه. واتفق، وفقاً للإسلام، على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد 4 أشهر فيصبح حينذاك إنساناً سوياً بالإنسان ما بعد الولادة ويستحق نفس الحقوق". ولكن الترس يؤكد أن "الأحاديث في الإسلام لا تدل أبداً على جواز الإجهاض والإعتداء على الجنين قبل نفخ الروح لكنها تدل على أن الحرمة الشديدة تثبت في حالة الإعتداء على الجنين بعد الأربعين، أما الحرمة الكبرى التي تصل إلى مثل حرمة قتل الإنسان بعد الولادة فتثبت بعد مرور 120 يوماً على ضوء حديث ابن مسعود".
... ليس كتلة من الخلايا
وفي كل الأحوال، فالكائن الإنساني في حضن أمه هو أكثر من بريء بالمطلق، وهو ضعيف، مجرد من السلاح، لا يوجد لديه صوت ليعترض، لذلك ينمو في رحم الأم. فبعد 18 عشر يوماً على الحمل، يصبح للجنين قلبا ينبض. وبعد شهر من بدء الحياة: ملايين الخلايا تعمل بذاتها، وبعد شهر ونصف تتحدّد الأصابع، وبالتالي فهو ليس مجرّد كتلة من الخلايا.
أحد الأطباء الذين التقينا بهم، والذي رفض الكشف عن إسمه، يشير إلى أنه لا يمارس الإجهاض بشكل نهائي وبالمطلق، موضحاً انه من الأطباء النادرين في لبنان الذين يقومون بذلك لأسباب ضميرية. ويقول: النساء الحوامل اللواتي يأتين إلى عيادتي يعلمن جيداً أنني لا أمارس الإجهاض، وغالباً ما يأتينّ بتردّد لأنهنّ بحاجة إلى اتخاذ قرار فيسألنني لكي أقنعهنّ بعدم قتل الجنين. وبعض اللواتي غادرن عيادتي بعد حديث، مطوّل في بعض الأحيان، عن الإجهاض، جمعتني ظروف الحياة بهم مرّة جديدة على الطريق أو في أماكن أخرى، فرأيتهنّ برفقة الولد اللواتي لم يكنّ يردنه منذ سنوات عدّة وهذا الأمر يملأني فرحاً لأنهنّ غالباً ما يشكرنّني على مساعدتهنّ على اتخاذ هذا القرار".
خلال حديثنا المطول معه، أخبرنا قصصاً كثيرة عن خبرات جرت في عيادته، وإحداها هي التالية: "منذ 19 سنة أتت امرأة إلى عيادتي لأنها لم تكن تريد انجاب توأمها لأنها لا تريد المزيد من الأطفال، فشرحت لها أن الإجهاض هو عملية قتل إنسان، وبالتالي فإن قتل التوأم هو كقتل أي من الأطفال الآخرين، فخرجت من العيادة... وبعد 19 سنة رأيتها فأتت وتحدثت إليّ، فسألتها عن التوأم، قالت: "واحد راح، والتاني صار شبّ يقبرني".
ويتابع: "البعض يريد الإجهاض لأسباب إقتصادية، والبعض الآخر لإمكانية ولادة ولد مريض"، ويتساءل: "قد يولد ولد مريض، ولكن من الذي يقول أن المريض ليس إنساناً؟ أو لا يحق له بالحياة؟ أو من يمكنه أن يقول أن هذا الولد المريض لن يغيّر حياة أهله مثلاً إلى الأفضل؟ ومن الذي يقول أن حياته ستكون سيئة؟"، مشيراً إلى أن "كثيرين بدأوا يفكرون اليوم تحت شعار "إذا زعجك شيلو" ويساعد ذلك على إمكانية الوصول إلى الأدوية المجهضة بسهولة تامة". وفي هذا الإطار يؤكد الطبيب أن "هذه الأدوية هي مجهضة، وبالتالي هي كأيّ عملية أجهاض أو أيّ وسيلة إجهاض أخرى، أكان في العيادة أو في المستشفى".
الإجهاض "مش مزحة"
ويعتبر أن "المشكلة ليست في الولد المريض بل في المجتمع المريض، والأهل المرضى. فالولد الذي لم يولد لا يمكنه الدفاع عن نفسه... ولكن على الأهل أن يحافظوا عليه كأمانة، لأنه كذلك. إلا أن المجتمع ينظر للولد المريض نظرة شفقة، فلو كانت الدولة تقف إلى جانب الأهل، ما كان هؤلاء ليطلبوا الإجهاض".
ويشدد على أنه "يجدر بالأطباء أن يدركوا بأن الحياة ليست ملكهم وبالتالي فلا يحق لهم أن يعطوها ولا أن يأخذوها، بل عليهم المحافظة عليها ومساعدتها"، ولكنه يلفت إلى أن "الأطباء أبناء هذا المجتمع، فإذا كان المجتمع قد خسر قيمه ومبادئه ويعاني مما يعانيه اليوم فلا يمكن القاء الملامة عليهم. ففي مجتمعنا، نفكر بإزاحة كل ما يعيق راحتنا لكي نرتاح أكثر، إلا أن الولد ليس ملكاً للأهل. ولكنهم يفكرون عكس ذلك اليوم، لذلك لا يربي أحدا أولاده. فعندما يكون لديك ملكية معينة، غالباً ما تتركها في الخزانة وتمتلئ بالغبار، أما إذا كان لدى الإنسان أمانة من أحد، فهو يحافظ عليها بعناية لكي لا تضيع ولا تتحطم... فالولد أمانة".
وعن القوانين اللبنانية التي تعاقب كل من يقوم بعملية إجهاض، يؤكد هذا الطبيب أن "القوانين موجودة ولكن لا أحد يطبقها ولا احد يسهر على تطبيقها"، معتبراً أن "المشكلة ليست بالتنفيذ، وهو أمر رائج اليوم، لكن في اعتبار بعض الناس أن كل شيء بات مسموحاً... فماذا ينفع النقاش في هذه الحالة؟ وبالإضافة إلى ذلك فلا أحد يشرح للمرأة أنه في بعض الأحيان يؤثر الإجهاض على إمكانية حملها من جديد وأن لهذه العملية آثاراً نفسية كبيرة قد تعاني منها في وقت لاحق الأم المجهضة... فالإجهاض ليس مزحة رغم انتشاره".
قد يكون موضوع الإجهاض مؤشراً جديداً على الإستخفاف بالقانون في لبنان... فكم من القوانين التي لا تطبق اليوم "وعلى عينك يا تاجر"؟ وكيف نتغنى بدولة القانون إذا كانت حياة الإنسان قبل وبعد الولادة معرّضة لشتّى أنواع الخطر؟