أشرقت الشمس باكراً جداً هذا العام، وبالكاد غابت أشعتها أياماً قليلة عن جبالنا، فتحوّلت حرارة الطقس من نعمة ينتظرها الناس بصبر بعد فصل الشتاء، إلى نقمة يشتهون لو تسمح لهم، ولو لمرّة بعد هذا العام، بالتباهي بفصول لبنان الأربعة وبطقسه المتوسطي الجميل، وهي بين آخر الأمور التي ما زال بإمكاننا التباهي بها أساساً.

حرارة مرتفعة والوضع "تحت الصفر"

وإذا كان الشحّ بالمياه و​الثلوج​ هذه السنة قد أثّر سلباً على فئات كثيرة من المجتمع اللبناني، فيمكن اعتبار أن انعكاساته كانت كارثية على البلدات الكسروانية التي تعتمد على السياحة الجبلية بشكل عام، والثلجية بشكل خاص، كوسيلة لكسب لقمة العيش. هناك، تُسمع صرخة واحدة في الشوارع التي تشتاق إلى توافد الناس من كل صوب إليها، والتي أقفلت كل محلاتها في أيام الأسبوع وفتحت بخجل في عطلة نهاية الأسبوع: "طار الموسم... ما في شي بعوّض عن التلج!"

بعد طول البحث، تمكنّا من إيجاد محلّ لبيع ثياب التزلج ومستلزماته في ​فاريا​ "رمز الثلج" كما تشير اللافتة المرحبّة بالزوار على مدخل البلدة، فكانت ماريانا، الموظفة المسؤولة عنه، جالسة قرب الباب تتمتع بأشعّة الشمس. لم تستطع أن تصف لنا الوضع إلا بعبارة واحدة "معدوم، تحت الصفر"، مشيرة إلى أن "لا أحد يأتي إلى المنطقة بغياب الثلج". وأكدت أن "المحلات تقفل بسبب غياب الزبائن، وبعض تلك التي لم تشتر كمية كبيرة من البضائع تقوم بالتنزيلات"، موضحة أن "الغياب تام لأي زبون في أيام الأسبوع، أما في عطلة نهاية الأسبوع فيطلّ بين الحين والآخر عدد قليل من المتجهين إلى الجبال لممارسة رياضة المشي أو غيرها".

الوضع الأمني أثّر على "الموسم المضروب"

ماريانا تأسّفت لكون وضع البلد أيضاً غير مساهم في تحفيز السياحة الداخلية، فـ"الناس تفضّل أن تبقى في منازلها وتخاف من كل ما يجري على الصعيد الأمني، فالأمور ليست لصالحنا من كل النواحي". وهذا ما أكده أيضاً إيلي فريفر، صاحب مكتب "سنو تاكسي" في فاريا، مشدداً على أن "الإنفجارين الأخيرين أدّيا إلى إلغاء ما تبقى من حجوزات لشهري شباط وآذار"، موضحاً أن "بعض الناس تأتي إلى لبنان وتحب هذه المنطقة ولو لم يكن هناك الكثير من الثلج، لكن الوضع الأمني شكّل عقبة كبيرة بالنسبة لنا وأوقف كل شيء، أضف إلى ذلك الشحّ الإستثنائي هذا العام بالأمطار والثلوج".

ومكتب التاكسي هذا، الذي لا يتوقف عن العمل في المواسم "الطبيعية"، والذي لديه حوالي الـ35 سيّارة، يعمل اليوم بين الحين والآخر ولا يحرّك الا سيارتين أو ثلاثة. فالثلج هو كل شيء بالنسبة للمنطقة، بحسب فريفر، الذي ما زال يعوّل على إمكانية تساقط بعض الثلوج في شهر آذار لإنقاذ ما أمكن إنقاذه من الموسم. أما ماريانا فتعتبر أنه لا يمكن القيام بأي شيء حالياً "ان شاء الله للسنة المقبلة".

وإذا كان "الموسم المضروب" قد أوقف أعمال الكثيرين، فإنه قد ألحق ضرراً أيضاً بأصحاب المحلات الذي لا ينقطع عملهم، كمحلات السمانة والأفران، ويعيد جوزيف، صاحب أحد الأفران، ذلك إلى كون كل شيء في المنطقة مرتبطا بهذا العامل الحيوي، إذ لا بديل عن الثلج بعد أن تخلّى أبناء المنطقة عن الزراعة، في ظل مشكلة المياه.

غير طبيعي

الحديث عن البديل بات ضرورياً اليوم، خصوصاً في ظل ما يُقال عن دخول لبنان تحت تأثير الإحتباس الحراري وتغير المناخ، رغم تقليل بعض أهالي المنطقة من صحّة هذه المعلومات، لكون بعض الطاعنين في السنّ ما زالوا يذكرون مواسم شحّ في الثلج منذ حوالي الـ45 سنة، وبالتالي، فإنهم يضعون ما جرى هذا العام بكونه ضمن النطاق الطبيعي. إلا أن مدير محطة "المزار" للتزلج كريستيان رزق، يؤكد أنه منذ 25 سنة إلى اليوم، لم تمرّ سنة كهذه لم تُفتح فيها حلبات التزلج يوماً واحداً.

ففي موسم الـ2009-2010، افتتحت الحلبات في 22 كانون الأول وأقفلت في 14 آذار، وكان موسماً قصيراً، عبارة عن 51 يوما، فقال الجميع حينها أن لبنان دخل في التصحّر، فأتى العام التالي لينفي هذه المعلومات، إذ ضربت الحلبات رقماً قياسياً لناحية أيام التزلج التي قاربت الـ115 يوماً.

لكن أصحاب الفنادق يحثّون المسؤولين عن مراكز التزلج لإيجاد حلّ للمسألة، إذ لا يمكن فقط انتظار كرم الطبيعة، بل يجب العمل على إنشاء حلبات إصطناعية أو ثلج إصطناعي في حال شحّ موسم ما، وهذا الأمر يحتاج إلى رأسماليين كبار "ووحدهم أصحاب تلك المراكز بإمكانهم القيام بذلك"، وفق ما يؤكد المسؤول عن فندق سان أنطونيو رياض زغيب. فبالنسبة له، "الناس باتت تتوجه إلى دبي للتزلج وأصبحت تشكل نوعاً من المنافسة لنا رغم كون حلبتها إصطناعية".

وعن سعي الفنادق لتنظيم مبادرات لجذب السياح بغض النظر عن حالة الثلج، يؤكد أن "هناك مبادرات فردية وانخفاض ملحوظ للأسعار، لكن 90% من عملنا يعتمد على الثلوج". ويقول: "نحتاج إلى قرار يأخذه أصحاب المحطات، فمن الجيد مثلاً القيام بمشروع للتمكن من التزلج على مدار السنة". لكن هذا الأمر يستبعده رزق لأن مشروعا كهذا "يحتاج إلى مياه وكهرباء وحرارة منخفضة ورطوبة، والطقس في لبنان لا يساعد على ذلك".

حلبة إصطناعية قيد الدرس

وبحسب المعلومات، فإن بعض القيمين على السياحة الثلجية في أوروبا، يقومون بتحضير الثلج الإصطناعي لإطلاق مواسم التزلج لكن ذلك يتم في مناخ ملائم، أما الذين يتمثلون بثلج دبي الإصطناعي، فهذا الأمر بات ممكناً في الإمارات ولكن ضمن هنغار وليس وسط الطبيعة. ويقول أحد المسؤولين في حلبات التزلج أن الدخول بمغامرة مشروع الثلج الإصطناعي هو بمثابة الجنون خصوصاً وأن لبنان يعتبر وكأنه في حالة حرب وسط الإشكالات الأمنية التي لا تتوقف، فلا سياحة داخلية ولا سياحة خارجية، وبالتالي فإن هذا الإستثمار الكبير سيكون خسارة على الذين سيقومون به. لكن العمل جار اليوم، وفق ما يؤكد كريستيان رزق، على دراسة إمكانية القيام بثلج إصطناعي لأشهر الشتاء الثلاث بشكل جدي، وتقوم بها شركة مساهمة، وذلك بمبادرة من أصحاب الحلبات دون تدخل وزارة السياحة.

وسط عدم اعتماد سياحة بديلة عن التزلج في بلدة "رمز الثلج" و"عاصمة السياحة الجبلية – كفرذبيان"، يبقى التعويل الأكبر على إمكانية القيام بمبادرة ما لتأمين الثلوج في مواسم الشحّ، لكي لا يتكرّر هذا الوضع الإقتصادي الكارثي الذي تمرّ به منطقة بكاملها، نظراً لكون الإقتصاد فيها مرتبطا بعضه ببعض في سلسلة قوامها هذه النشاطات الشتوية. وإذا كان لبنان قد استحق اسمه على مدى الأجيال نسبة لجباله الطبيعية البيضاء، فهو يتمنى اليوم أن يكون موسم تعرّي قممه مجرّد مرحلة عابرة يطل عليه بعدها موسماً أبيض جديداً، وألا يكون فعلاً قد دخل في دوّامة التصحّر والجفاف.

تصوير فوتوغرافي حسين بيضون (الألبوم الكامل هنا)

تصوير تلفزيوني يورغو رحال