بعكس ما تمنّى كثيرون، لم يحمل تأليف "حكومة المصلحة الوطنية" أو "حكومة التسوية"، كما يفضّل البعض وصفها، الاستقرار الأمني الموعود، ولم يضع حدًا للموجات الإرهابية الآخذة في التصاعد هنا وهناك..
فبعد فترةٍ من "انحسار" العمليات، تخللتها إنجازاتٌ نوعية حققتها مديرية المخابرات في الجيش اللبناني منعت بموجبها "مجازر" من أن تتحقّق، ضرب الإرهاب من جديد، موجّهًا رسالة لكلّ من يهمّه الأمر، مفاده أنّه "صامدٌ" رغم كلّ شيء، وأنه لن ينسحب قبل تحقيق أهدافه التي باتت تتخطى زرع الرعب بين المواطنين الأبرياء الآمنين، وتصل لحدّ زرع الفتنة والشقاق بين اللبنانيين، في مخطّطٍ لم يعد بخافٍ على أحد..
ضرب الإرهاب من جديد، بالوحشية والوقاحة نفسها، مستهدفًا منطقة بئر حسن هذه المرّة، وتحديدًا المستشارية الثقافية الإيرانية، في سيناريو شبّهه كثيرون بالانفجار المزدوج الذي استهدف السفارة الإيرانية في بيروت، حاصدًا المزيد من الشهداء والجرحى، الذين ينضمّون لقافلة مشرّفة سقطت ضحية لمن يدّعون "الجهاد" في سبيل الله، وما يفعلون سوى تشويه صورة الدين عن بكرة أبيه...
وحشية تجد من يتبنّاها..
كانت صبيحة الأربعاء عادية في بيروت، ولا سيما بالقرب من المستشارية الثقافية الإيرانية، حيث المستديرة المعروفة بأنها دائمًا مزدحمة بالسيارات والمارة. كان كلّ شيءٍ عاديًا، إلى أن دقّت الساعة ودوّى الانفجار الأول فالانفجار الثاني. الدويّ سُمِع في كلّ أرجاء مدينة بيروت، وما هي إلا لحظات حتى تبيّن أنه ناتج عن انفجارَين لا واحد بالقرب من المستشارية، نُفّذ بالاعتماد على سيارتين مفخختين، بعكس ما ذكرته بعض وسائل الإعلام للوهلة الأولى عن انتحاريين على دراجتين ناريتين.
وفي التفاصيل كما روتها قيادة الجيش أنه حوالي الساعة 9.25 من صباح اليوم، حصل الانفجاران بشكل متزامن، الأول داخل سيارة نوع ب.م بالقرب من المستشارية الثقافية الإيرانية، والثاني داخل سيارة نوع مرسيدس بالقرب من المعرض الأوروبي، ما أدى إلى سقوط عدد من الإصابات في صفوف المواطنين، وصلت بحسب وزارة الصحة إلى 6 شهداء و129 جريحًا، بالإضافة إلى حصول أضرار مادية في الممتلكات. وعلى الأثر فرضت قوى الجيش طوقاً أمنياً حول البقعة المستهدفة، فيما حضرت وحدة من الشرطة العسكرية وعدد من الخبراء المختصين الذين باشروا الكشف على موقعي الانفجارين والأشلاء البشرية التي وجدت بالقرب منهما، وذلك تمهيداً لتحديد طبيعتيهما وظروف حصولهما.
وفي وقتٍ تبنّت "كتائب عبدالله عزام" على جري العادة الجريمة الوحشية بكلّ "فخر"، بدأ البحث عن هوية الانتحاريين اللذين نفذا العمل الإرهابي، وعمّمت قيادة الجيش صورة لأحد "المطلوبين الخطيرين"، كما قالت، ليتبيّن أنّه الفلسطيني نضال هشام المغير، وهو من سكان العاقبية قضاء الزهراني، كما أنّه صديق الانتحاري عدنان محمد الموسى الذي فجر نفسه امام السفارة الايرانية، وقد توجّه والده هشام المغير الى مخابرات الجيش اللبناني في الجنوب بعد تعميم الصورة التي وُجدت على هوية مزوّرة كانت في موقع الانفجار، على أن تجري له فحوصات الحمض النووي لمقارنتها مع اشلاء الانتحاري، فاما ان تكون متطابقة او تكون قد زورت الهوية ووضعت عليها، علمًا أنّ معلومات "النشرة" أشارت إلى وجود أربعة موقوفين لدى قيادة الجيش على خلفية الانفجار، بينهما سارقا السيارتين المفخختين، اللذان أقرّا بأنّهما باعاهما في منطقة بريتال.
تغييرٌ في اللهجة؟
في المواقف السياسية، كان لافتًا بعض التغيير في اللهجة بُعيد الانفجار الإرهابي، الأمر الذي ربطه البعض بجو الوفاق الوطني الذي تعيشه الساحة السياسية مع تأليف الحكومة الجديدة. وفي هذا السياق، توقف كثيرون عند التصريح "الغاضب" الذي خرج عن الوزير السابق خالد قباني، المحسوب على تيار "المستقبل"، وهو يقوم بإجلاء أطفال دار الأيتام الإسلامية الذين جُرِح عددٌ منهم بنتيجة الانفجار، حيث قال أنّ "ما هكذا تكون الثورة، وهذا إجرامٌ مُطلَق وإجرامٌ عبثي"، كما أنّ رئيس الحكومة السابق سعد الحريري لم يكرّر في بيانه معزوفة أنّ هذه التفجيرات تأتي نتيجة تورّط "حزب الله" في الحرب السورية، بل ركّز على أهمية التضامن الوطني في مواجهة الإرهاب، ولو وجدها "مناسبة" لتجديد الدعوة للحزب للانسحاب من سوريا.
أكثر من ذلك، قرأ الكثيرون "إيجابيات" في مواقف وزير الداخلية الجديد نهاد المشنوق، الذي زار موقع التفجير بمرافقة أمنية وسياسية تقدّمها مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في "حزب الله" الحاج وفيق صفا ووزير المال علي حسن خليل، حيث شدّد على وجوب اتخاذ إجراءات سياسية وعملية لتجفيف معابر الموت، متحدّثًا عن وجود معابر لبنانية للسيارات المسروقة المرسلة الى سوريا لتفخيخها، داعيًا القوى السياسية إلى التعاون لانهاء بؤر الموت في البقاع، محذراً من أنّ هناك من يسهل لكتائب عبدالله عزام العمليات "والتسهيل لا يقل اجراما ولا أهمية وهؤلاء المسهلون هم اللبنانيون".
بيانٌ مقتضب..
وسط ذلك، اتجهت الأنظار إلى البيان الوزاري الذي عقدت لجنة صياغته جلستها الأولى، على وقع التفجير الارهابي المزدوج، حيث لفت كلامٌ قبيل الجلسة لوزير الصحة وائل أبو فاعور دعا فيه إلى الانصراف عن "الرفاهية" في هذا الإطار، مشدّدًا على أنّ البيان الوزاري ليس أهمّ من دماء الشهداء، مشدّدًا على وجوب الاسراع في تأمين الوفاق السياسي.
وفي وقتٍ ذكرت المعلومات أنّ رئيس الحكومة تمام سلام قدم مسودة بيان في الاجتماع من ثلاث صفحات خالية من البنود الخلافية وسط توافق على الاسراع في انجاز البيان، أعلن الأخير بعد رئاسته الاجتماع الأول للبيان ان الاستحقاق الامني سيكون "في مقدم ما سنواجهه"، وان "المدخل العملي لمواجهة هذا الاستحقاق ان نكون موحدين متضامنين لنواجه هذه المآسي". وشدد سلام في حديث الى "تلفزيون المستقبل" على ضرورة عدم التأخر في انجاز البيان الوزاري، مقدرا ان "الذين توصلوا الى الاتفاق على تشكيل الحكومة لن يعرقلوا البيان الوزاري"، ووصف الجو في اجتماع اللجنة بانه كان جيدا.
وفيما اعتبر رئيس المجلس النيابي نبيه بري أنّ على البيان الوزاري للحكومة الجديدة التركيز على الجانب الامني من دون التوقف عند الخلافات السياسية، آخذاً بالانطباعات الايجابية التي ارخت بثقلها على الوضع الداخلي بعد تأليف الحكومة، لفت تأكيد الوزير محمد فنيش أنّ "حزب الله" لن يتخلى عن ثابتة المقاومة في البيان، في حين تحدّث الوزير نهاد المشنوق لصحيفة "النهار" عن "مناقشة هادئة لعناوين متفجّرة" جرت خلال الاجتماع، لافتاً إلى وجود نقاط لقاء ونقاط خلاف، مرجّحًا الوصول إلى نتيجة.
كلمة أخيرة..
بعد كلّ "الخضّات" التي تعرّض لها، أراد "الإرهاب" توجيه "رسالة" لمن يعنيه الأمر بأنه لا يزال موجودًا ولا يزال بالمرصاد، على قاعدة: "أنا أفجّر إذًا أنا موجود".
قال "الإرهاب" كلمته، وتوعّد بالمزيد، في بلدٍ لم يعد يحتمل المزيد، ولكن، ورغم كلّ شيء، بارقة أمل ولو صغير برزت، مع المواقف التي تخطّت "الاستنكار" لتصل إلى "التضامن"، التضامن الوطني البعيد عن الحساسيات السياسية الضيقة، التضامن الذي لا بدّ منه للمواجهة عمليًا، باعتبار أنّ الوحدة الوطنية وحدها الكفيلة بضرب "رأس الإرهاب"..