قبل أيام من تأليف الحكومة، وقع رئيس الجمهورية ميشال سليمان مرسوماً استثنائياً ينقل مبلغ 16 مليون دولار من احتياط الموازنة للنفقات الطارئة، إلى موازنة مجلس الإنماء والإعمار، لتنفيذ المرحلة الأولى من أربعة مشاريع في مسقط رأسه عمشيت وجوارها. المرسوم يكشف عن مزج الرئيس بين النفقات الضرورية والمشاريع التي لا اعتمادات لها في مشروع الموازنة
لبنان بلا موازنة منذ عام 2005. هكذا مرّت تسع سنوات من الإنفاق خلافاً للدستور والأصول القانونية. خلال هذه الفترة، شُرّعت أبواب الخزينة العامة أمام «البِدَعْ القانونية» خدمة للسياسيين ومشاريعهم، وبما يتيح للممسكين بالسلطة التحكّم في صرف المال العام، والتفلّت من الرقابة.
«البدعة» الأولى في هذا المجال، كانت عام 2007 حين أصدر مجلس الوزراء قراراً بتنفيذ مشروع الموازنة العامة قبل إقراره في مجلس النواب وفقاً للأصول التي تفرض تصديق قطوع حساب السنة السابقة. أما «البدعة» الثانية، فقد جاءت عبر اختراع سلف الخزينة التي تتيح الإنفاق من دون اعتمادات، وهي تستند إلى مشاريع موازنات أيضاً .
«البدعة» الثالثة كانت الأكثر إيلاماً، إذ سرعان ما تحوّلت إلى أداة للإنفاق السياسي المحصور بيد رئيسي الجمهورية والحكومة والوزير المختص. هذه الأداة، أي «المراسيم الاستثنائية التي تقرّ بكتاب من الأمانة العامة لمجلس الوزراء»، استُعملت كثيراً خلال فترة تصريف أعمال حكومة الرئيس نجيب ميقاتي إلى درجة أنها أصبحت أداة وقحة لإنفاق المال العام من دون رقابة. فكانت المراسيم تصدر بناء على موافقات الأمانة العامة لمجلس الوزراء، ثم يصدرها رئيس الجمهورية بعد توقيعها. كل «بدعة» حاولت التغطية على سابقاتها، لكن كل «ترقيعة» كانت تحفر أعمق في الدستور والقانون.
«بدعة البدع» أخيراً ــــ وربما ليس آخراً ــــ المرسوم الاستثنائي 11103 الصادر عن رئاسة الجمهورية قبل أيام من تأليف حكومة تمام سلام. يفترض أن يستمد هذا المرسوم «استثنائيته» انطلاقاً من الضرورة والمصلحة الوطنية المبنية على مبدأ «استمرارية المرفق العام»، وهو مبدأ يحصر الإنفاق بما هو ضروري فقط. إلا ان اللافت أن المرسوم المذكور خصص مبالغ من الخزينة العامة لإنفاقها على مشاريع جديدة بما يعني عدم وجود «استمرارية» لأي «مرفق عام»، ما يعني خلطاً بين «الجديد» و«الضروري»، لكن يبطل العجب عندما يُعرف السبب، إذ إن الملايين الـ 16 مخصصة لمجموعة مشاريع ستنفّذ في عمشيت وميفوق ولاسا وقرطبا، اي البلدة التي أنجبت الرئيس وجوارها!
المرسوم الصادر عن بعبدا في 24 كانون الثاني 2014، ذُيّل بتوقيع سليمان، ورئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي، ووزير المال محمد الصفدي. وهو استند إلى «مقتضيات المصلحة العامة» وإلى مبدأ استمرارية العمل بانتظام واطراد في مرفق عام»، وإلى «الموافقة الاستثنائية المعطاة بموجب كتاب الأمانة العامة لمجلس الوزراء رقم 176». وبموجب المرسوم، فقد نُقل مبلغ 24.12 مليار ليرة من احتياط النفقات الطارئة والاستثنائية في موازنة 2014 (ليست هناك موازنة 2014، بل مشروع موازنة)، وعلى أساس القاعدة الاثني عشرية، إلى مجلس الإنماء والإعمار لتنفيذ «المرحلة الأولى من مشاريع مستشفى ميفوق، مدرسة عمشيت، مدرسة لاسا، إكمال طريق بئر الهيث ـــ قرطبا في منطقة جبيل». وتشير المادة الثانية من المرسوم الى أنه سيعرض لاحقاً على مجلس الوزراء على سبيل التسوية.
ومقارنةً بمرسوم استثنائي آخر صدر في الفترة الزمنية نفسها، يتبيّن الفرق بين الضروري في الظروف الاستثنائية، والجديد. ففي 30 كانون الثاني 2014، صدر المرسوم الرقم 11130، وهو مبني على «مقتضيات المصلحة العامة»، وعلى «استمرارية المرفق العام» من أجل نقل مبلغ 89 مليون ليرة من احتياط النفقات الطارئة والاستثنائية في الموازنة إلى الهيئة العليا للتأديب لسداد مبالغ لها اعتمادات محدّدة مثل أعمال المراقبة الإدارية والمواد الاستهلاكية والمحروقات وزيوت للتدفئة ولوازم إدارية ونفقات تشغيل وسائل النقل وفواتير مياه وكهرباء وصيانة وإعلانات وبريد وتجهيزات...
الفرق بين المرسومين، أن الأول يتحدث عن مشاريع جديدة ليست ضرورية ويمكن استمرار المرفق العام من دونها أو مع تأجيلها إلى حين تأليف حكومة تقرّها، واللافت أنه ليس لهذه المشاريع أي اعتمادات في الموازنة العامة، بل نقلت المبالغ مباشرة إلى مجلس الإنماء والإعمار لتنفيذها مباشرة بواسطته (!). أما المرسوم الثاني، فهو ينقل مبالغ محدّدة بسبب حاجة الإدارة العامة إليها، إذ لا يمكن أن تستمرّ هذه الإدارة في القيام بمهماتها من دون لوازم إدارية ومن دون محروقات ومن دون مياه ولا كهرباء...
والفرق بين الضروري وغيره يرد في التعميم رقم 2013/10 (صادر عن رئيس مجلس الوزراء بتاريخ 19 نيسان 2013) الذي يشير إلى أن ما يدخل في نطاق تصريف الأعمال، استناداً إلى أحكام المادة 64 من الدستور، «هي تلك القرارات التي من شأن عدم اتخاذها أن ينتج عنه فراغ كامل أو تعطيل لكل أعمال السلطة التنفيذية ووقف لإدارة مصالح الدولة». كذلك تدخل في نطاق تصريف الأعمال «الأعمال التصرفية التي تجد مبرراتها في حالة الضرورة والظروف الاستثنائية وتأمين النظام العام وأمن الدولة الداخلي والخارجي، وتلك التي يحتمل سقوطها ان لم تتخذ في مهلة محددة بالقوانين». ويضيف أن «كل عمل أو قرار إداري يخرج عما تقدم أعلاه أو يتجاوز حدوده يعد باطلاً لمخالفته القانون، مع ما يترتب على ذلك من مسؤوليات على مختلف المستويات». وتشير دراسة أجراها رئيس لجنة المال والموازنة النيابية ابراهيم كنعان إلى أن «قمة الهرطقة، ما طُلب إلى الوزراء التقيد به لجهة إيداع بعض القرارات المتخذة خلال فترة تصريف الأعمال، رئاسة مجلس الوزراء للاستحصال على الموافقة الاستثنائية لفخامة رئيس الجمهورية ودولة رئيس مجلس الوزراء». وتسأل الدراسة: «بالاستناد إلى أي نص دستوري أو قانوني أعطي فخامة رئيس الجمهورية ودولة رئيس مجلس الوزراء صلاحية إعطاء الموافقة الاستثنائية؟ مع العلم بأن المادة 53 من الدستور تحرم فخامة الرئيس صراحة حق التصويت على مقررات مجلس الوزراء، ودولة الرئيس ليس سوى أول بين متساوين في اتخاذ المقررات في مجلس الوزراء، لدرجة أن صوته لا يعد مرجحاً إذا تعادلت الأصوات. ووفقاً لأي نص دستوري أو قانوني تختصر السلطة الإجرائية بفخامة الرئيس وبدولة الرئيس؟».
الإجابة واضحة، ولا يمكن أن تكون بعيدة جداً عن مضمون المرسوم 11103 الذي وُقّع قبيل أيام قليلة من تأليف الحكومة، أي بعدما بات الجميع في جو أن الأزمة الحكومية باتت على وشك أن تُحلّ، وبالتالي، فإن «تهريبه» على هذه الشاكلة يثير كثيراً من الأسئلة المشروعة، وخصوصاً أن المنطقة التي استفادت منه محسوبة على الرئيس، الذي يتردد انه ينوي ترشيح نجله عنها في الانتخابات النيابية المقبلة.