كرس حكم تاريخي صدر عن مجلس شورى الدولة حق أهالي المفقودين بالاطلاع على نتائج التحقيقات الرسمية التي أجرتها الحكومة اللبنانية قبل عقد ونصف، وأعلنت عبرها أن جميع المفقودين قتلوا خلال الحرب الأهلية. ويكسب القرار ذوي الضحايا جولة في معركة مستمرة منذ أكثر من ثلاثة عقود لكشف مصير أحبائهم، ولا سيما أن حكم مجلس الشوري يشمل محاضر الاستماع إلى مسؤولي الميليشيات التي قامت بأعمال القتل
أفرج مجلس شورى الدولة عن واحدة من أبرز المراجعات المكدسة في «جواريره»، تتعلق بحق أهالي المخطوفين والمفقودين والمخفيين قسراً خلال الحرب الأهلية اللبنانية بالاستحصال على نسخة عن كامل ملف التحقيقات التي أجرتها لجنة التحقيق الرسمية للاستقصاء عن مصير جميع المخطوفين والمفقودين.
القرار الذي صدر بتاريخ مطلع الشهر الجاري عن الغرفة الأولى في المجلس برئاسة القاضي شكري صادر وعضوية المستشارين فاطمة عويدات وميريه عماطوري، يكرس للمرة الأولى الحق بالوصول الى المعلومات بشكل عام وحق ذوي المفقودين بمعرفة مصير أحبائهم، وقد قضى هذا الحكم بإبطال القرار الضمني الصادر عن رئاسة مجلس الوزراء برفض تسليم ملف التحقيقات التي قامت بها لجنة التحقيق الرسمية للاستقصاء عن مصير جميع المخطوفين والمفقودين لذوي المفقودين وإعلان حقهم بالاستحصال على نسخة عن الملف الكامل عملاً بحق المعرفة. وقد توصل المجلس الى هذه النتيجة بعدما أعلن حقاً أساسياً جديداً هو حق ذوي المفقودين، على أساس أن هذا الحق هو حق طبيعي متفرع عن حقوق الإنسان بالحياة وبالحياة الكريمة وبمدفن لائق، وعن حق العائلة باحترام الأسس العائلية وجمع شملها وعن حق الطفل بالرعاية الأسرية والعاطفية والحياة المستقرة، وهي حقوق كرستها المواثيق والشرائع الدولية التي انضم إليها لبنان، ما يستتبع إعلان حق ذوي المفقودين بالاطلاع على كل التحقيقات لكشف مصيرهم وأن هذا الحق لا يقبل أي تقييد أو انتقاص أو استثناء إلا بموجب نص صريح، الأمر غير المتوفر في القضية الحاضرة.
وكانت لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان وجمعية دعم المعتقلين والمنفيين اللبنانيين (سوليد) قد تقدمتا في 24/12/2009، بواسطة وكيلهما المحامي نزار صاغية بدعوى الى مجلس شورى الدولة بهذا الخصوص.
رئيسة لجنة أهالي المخطوفين وداد حلواني قالت لـ«الأخبار» إن قرار مجلس شورى الدولة يفتح ثغرة في الجدار المنيع الذي بنته الحكومات اللبنانية المتعاقبة لمنع وصول أهالي الضحايا الى الحقيقة، تاركة مصير آلاف أسر المفقودين معلّقاً لعقود، في انتظار معرفة مصيرهم».
وتضيف حلواني «لم تتلقّ العائلات سوى القليل من الدعم، وعانت في صمت وانتظرت الأخبار التي لم تأت». وقالت «يبقى الطلب الأول والأكثر إلحاحاً للأسر حتى بعد مرور سنوات عدة على الاختفاء، وهو معرفة مصير أقاربهم المفقودين».
ولفتت حلواني الى أن هذا الحكم يجدّد الثقة بالقضاء اللبناني ويجعلنا أكثر رهاناً على استقلاليته من أجل كشف مصير المفقودين، ولن نسكت في حال امتناع الحكومة اللبنانية عن تنفيذ مضمون القرار القاضي بتسليمنا كامل ملف التحقيقات، وسنعتبر حجب المعلومات عنا بمثابة مشاركة فعلية في جريمة الخطف المتمادية والتي لا تسقط بمرور الزمن أو بالتقادم.
وذكّرت حلواني رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان بخطاب القسم الذي تعهد فيه بكشف مصير المفقودين، مشيرة الى أن أمام الرئيس فرصة أخيرة لتنفيذ ما تضمّنه هذا الخطاب قبل انتهاء ولايته الدستورية. وأضافت: «في خضم الفرحة الكبيرة بتحرير الراهبات، والتشديد على ضرورة تحرير المطرانين المحتجزين في سوريا، لم نسمع من فخامته أي إشارة الى مصير المفقودين أو بارقة أمل بحل قضيتهم، فإذا كانت الدولة اللبنانية قادرة على العمل من أجل تحرير أشخاص خارج الحدود اللبنانية، فمن الضروري أيضاً أن لا تنسى المخفيين قسراً في لبنان». وأردفت: «يا ريت بتمّ تعيين لواء لكشف مصير المفقودين»، وذكّرت حلواني الرئيس تمام سلام بوعده بالعمل على هذه القضية عندما تسلم الملف من اللجنة. كذلك طالبت وزير العدل اللواء أشرف ريفي بسحب قرار إنشاء لجنة للمفقودين وإنفاذ مطلب الأهالي بإقرار اقتراح قانون يكفل إنشاء مؤسسة وطنية للمفقودين تعمل بشكل علمي ومستقل ومحايد لكشف مصير المفقودين.
وكان وزير العدل السابق شكيب قرطباوي قد أعد مرسوماً لإنشاء «الهيئة الوطنية المستقلة للمفقودين»، لكن عائلات المفقودين تعترض على هذا الإجراء، وتطالب بإنشاء هذه الهيئة عبر قانون صادر عن مجلس النواب، وخصوصاً أن الجمعيات المعنية بهذه القضية كانت قد أعدت مع عدد من الخبراء ومؤسسات دولية مشروع قانون بهذا الخصوص. وتطالب العائلات بأن تضع «الهيئة الوطنية المستقلة للمفقودين» قائمة مركزية وشاملة بأسماء جميع الأشخاص المفقودين، ومنحها الموارد والصلاحيات اللازمة لتكون قادرة على تنسيق عمليات البحث عن المفقودين ودعمها والإشراف عليها، ومن ثم إبلاغ العائلات بما توصلت إليه، وأن تمتلك المهارات والموارد اللازمة لجمع المعلومات عن مواقع الدفن، أي المقابر الفردية أو الجماعية التي قد يكون دُفن فيها رفات أشخاص مفقودين.
وتعهدت الحكومات اللبنانية المتعاقبة على أعلى المستويات النظر في قضية المفقودين، وتقديم الأجوبة والدعم لعائلاتهم، وأُنشئت ثلاث لجان مختلفة لمعالجة الموضوع. اللجنة الأولى: «لجنة التحقيق الرسمية للتقصي عن مصير المخطوفين والمفقودين» في كانون الثاني 2000. وأنشئت اللجنة الثانية لتلقي شكاوى أهالي المخفيين بمرسوم وزاري عام 2001، ومُدِّدت مهمتها مرتين وانتهت في شباط 2002. وأنشئت اللجنة الثالثة «اللجنة اللبنانية السورية المشتركة» في آب 2005 ، ولا تزال قائمة حتى الآن، مع أنها لم تعقد أي اجتماع منذ تموز 2010.
وبالعودة الى قرار مجلس شورى الدولة، يتبين أن الجهة المستدعية طلبت إبطال قرار رئاسة مجلس الوزراء الضمني بالرفض الصادر نتيجة طلبها الاستحصال على نسخة كاملة عن ملف التحقيقات بشأن مصائر المفقودين والمخطوفين، وهي تدلي بحق ذويهم بمعرفة مصيرهم المكرس في المواثيق الدولية التي أقرها لبنان، وفي الأعراف الدولية، وبأن حق المعرفة أصبح مبدأ عاماً في القانون الدولي.
ولقد أدلت رئاسة مجلس الوزراء المستدعى بوجهها بانتفاء موضوع المراجعة، إذ إن الجهة المستدعية تسلمت كامل الملف المتعلق بالتحقيق المنظم من لجنة التحقيق المكلفة بالاستقصاء عن مصير المفقودين والمخطوفين بموجب قرار صادر عن رئيس مجلس الوزراء، في معرض الدعوى التي أقامتها أمام قاضي الأمور المستعجلة في بيروت بوجه مطرانية الروم الأرثوذكس وجمعية المقاصد.
ويستفاد من المستندات المبرزة في الملف أن الجهة المستدعية تقدمت بتاريخ 29/4/2009 باستحضار أمام قاضي الأمور المستعجلة في بيروت، بوجه مطرانية الروم الأرثوذكس، طلبت بموجبه اتخاذ قرار بتعيين خبير لتحديد موقع المقابر الجماعية ضمن المدافن المشار إليها في تقرير اللجنة الرسمية للاستقصاء عن مصائر المفقودين واتخاذ قرار بتسييج موقع المقبرة الجماعية وتعيين لجنة لحراستها قضائياً، وأنه في سياق التحقيق صدر عن قاضي الأمور المستعجلة قرار بتاريخ 23/10/2009، كلف بموجبه كاتب المحكمة بالانتقال الى رئاسة مجلس الوزراء للاستحصال على صورة عن كامل الملف المتعلق بالتحقيق المنظم من لجنة التحقيق المكلفة بالاستقصاء عن مصير المخطوفين والمفقودين بتاريخ 25/7/2000، بما فيه صورة عن التقرير الطبي الصادر عن لجنة الأطباء الشرعيين المكلفين»، وأنه تنفيذاً لهذا القرار، تسلّم كاتب محكمة القضاء المستعجل في بيروت، بتاريخ 18/11/2009، صورة عن تقرير لجنة التحقيق الرسمية للاستقصاء عن مصير جميع المخطوفين والمفقودين المؤلفة بموجب القرار رقم 10/2000 تاريخ 21/1/2000 (التقرير الطبي) ونسخة عن قرار تأليف اللجنة برئاسة العميد الركن سليم أبو اسماعيل، ونسخة عن التقرير المقدم من الطبيب الشرعي الدكتور لطف الله أبو سليمان وإفادة معاينة من د. فؤاد فارس.
في المقابل، أدلت الجهة المستدعية بأن المستندات التي تسلّمتها اقتصرت فقط على تقرير اللجنة وهو عبارة عن صفحتين ونصف وتقريري الطبيبين الشرعيين ولم تتضمن محاضر الاستماع إلى المسؤولين عن الميليشيات في زمن الحرب ولم تشمل أي معلومات حول كيفية وصول اللجنة الى تحديد مواقع المقابر الجماعية التي ذكرتها في تقريرها، علماً بأن من الضروري والمنطقي أن تكون اللجنة قد وثّقت الأعمال والاستقصاءات التي كلفت القيام بها والتي استندت إليها للوصول الى النتائج والخلاصات الواردة في تقريرها النهائي، وأن الدولة لم تبرز قائمة محتويات التقرير،
واستند مجلس شورى الدولة في تكريس أحقية طلب أهالي المفقودين في معرفة مصيرهم، إلى التوجيهات القانونية الحديثة ولا سيما اجتهادات المحاكم وآراء المحافل الدولية والإقليمية والوطنية، وإلى أنه مبنيّ على الحق في الحياة الأسرية وحقوق الطفل والحق في الانتصاف القضائي السريع.
ويضيف قرار شورى الدولة «إن الخطاب القانوني الدولي والمقارن أجمع على استخلاص حق المعرفة من مجموعة من الحقوق المدنية المكرسة في المواثيق الدولية، وعلى الأخص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية واتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة واتفاقية حقوق الطفل وهي مواثيق أقرها لبنان.
كما استند القرار الى مجموعة من الاجتهادات التي كرستها المفوضية العليا لحقوق الإنسان، وبعثة حقوق الإنسان في المجلس الاقتصادي والاجتماعي في الأمم المتحدة، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وغرفة حقوق الإنسان في البوسنة والهرسك، والهيئة الوطنية للجرائم الفدرالية في الأرجنتين خلال المحاكمات المعروفة بـ«محاكمات الحقيقة»، والجمعية العمومية للأمم المتحدة.
وخلص القرار «بما أن حق معرفة مصير المخطوفين والمفقودين هو حق طبيعي لأعضاء أسرهم، أكانوا متوفين أو على قيد الحياة بحيث يترتب على ذلك في الحالة الأولى قيام الأسرة بمراسيم الدفن والحداد بشكل لائق يتوافق مع الكرامة الإنسانية للمتوفى، وفي الحالة الثانية استكمال المراجعات لمعرفة مكان احتجاز المفقود وإمكانية رؤيته والعمل على الإفراج عنه إذا كان مخطوفاً أو تأمين وسائل الدفاع عنه إذا كان مسجوناً، كذلك تأمين العناية الطبية والمواكبة العاطفية... وهي من الحقوق الأساسية التي أقرتها الشرائع الدولية والدستور اللبناني. وإن الدولة لم تنفِ حق ذوي المفقودين بمعرفة مصيرهم من خلال تسليمهم ملف التحقيقات التي أجرتها لجنة التحقيق المنشأة للاستقصاء عن مصير المخطوفين والمفقودين سنة 2000، إنما هي أدلت بأنها سلمتهم كامل الملف المتعلق بالتحقيق المذكور في معرض دعوى أمام قاضي الأمور المستعجلة. وبما أن حق ذوي المفقودين بمعرفة مصيرهم هو حق طبيعي متفرع عن حق الإنسان بالحياة وبالحياة الكريمة وبمدفن لائق عن حق العائلة باحترام الأسس العائلية وجمع شملها، وعن الطفل بالرعاية الأسرية والعاطفية والحياة المستقرة، وهي حقوق كرستها المواثيق والشرائع الدولية التي انضم إليها لبنان، ما يستتبع إعلان حق ذوي المفقودين بالاطلاع على كل التحقيقات لكشف مصيرهم وإن هذا الحق لا يقبل أي تقييد أو انتقاص أو استثناء إلا بموجب نص صريح، الأمر غير المتوفر في القضية الحاضرة.
وبما أنه يقتضي تبعاً لذلك إبطال القرار الضمني المطعون فيه الصادر عن رئاسة مجلس الوزراء وإعلان حق الجهة المستدعية بالاستحصال على نسخة عن الملف الكامل لتحقيقات لجنة التحقيق الرسمية للاستقصاء عن مصير جميع المخطوفين والمفقودين.