ذكَر اللواء السفير أحمد الحاج في كتابه «من الجندية الى الدبلوماسية» أن الرئيس فؤاد شهاب سأله مرة: لماذا اللغة العربية صعبة ومعقّدة؟ فأجابه الحاج: لأن الذي وضع قواعد الصرف والنحو هو سيبوية الفارسي».
ومع أن أحمد الحاج قد أجاب الرئيس شهاب بلغة اللواء لا بلغة السفير، فإن اللغة العربية التي وضع قواعدها نحويّ فارسي، هي أسهل اللغات إطلاقاً بما هي عليه من غزارة في الدلالات، والغنى بالمجازات والإستعارة والكناية والتَوْرية والتشابيه، ومع هذا فقد استعصت هذه اللغة على لجنة البيان الوزاري، مثلما هي عصيّة على الملوك والرؤساء والحكام والنواب والوزراء، لأنها فوق مستوى جهلهم الثقافي.
إنه ذنْب اللغة العربية التي جعلت الذين تحلّقوا حول طاولة البـيان الوزاري يظهرون أمام الرأي العام المثقف، أنهم متّفقون على اختلاف، ومختلفون على اتفاق، لأن منهم من تعذّرَتْ عليه اللغة، ومنهم من تنكّر لها لأن الذي وضع قواعدها فارسي، ومنهم من تلعثم لسانه لكثرة ما أثقله بكل لهجات القبائل العربية الشديدة اللَّغْط.
ولعل الذنْب الأكبر هو ذلك المرض العربي: العقلي والثقافي والسياسي والفكري المعاصر، الذي قال فيه الشاعر أدونيس محاوراً في مكتبة الإسكندرية منذ حين: «إِنَّ العرب انقرضوا إبداعياً... وإنَّ هناك ما يفوق المليار ونصف المليار «عربي» ليس منهم مفكر واحد...».
ولأن العربية لم تعد اللغة الصالحة للتفاهم بين العرب والعرب، فقد أدَّت عشوائية اللغة الى حروب عربية - عربية، لا مجال معها الى معاهدات صلح بلغة مشتركة، على غرار ما كان بين الصين واليابان حين لم يتم توقيع معاهدة السلام والصداقة بينهما إلا باللغتين الصينية واليابانية.
ولأن اللبنانيين عروبيون جداً، وقد أكدوا عروبتهم بنص دستوري منعاً للتشكيك، فقد راحوا بما اكتنزوا من أسرار اللغة يستخدمون كل تعابيرها والإجتهادات والإشتقاقات، للإنشقاق الوطني، والتقاتل الحزبي، والنزاع الطائفي، والتصارع المذهبي، حتى غدت الفرقة المسالمة خيراً من اللقاء المتـنافر - «والناس بخير ما تباينوا - وحين «غضب الله على قوم وأورثهم الجدل» كانت المجادلة عندهم تقاتلاً.الذين لا يتَّفقون على «بيان ولا يتَّفقون على «إعلان» ولا يتفقون على «حوار» فكيف يتفقون على وطن؟
نعم... ما همّ أن يستقيل رئيس الحكومة، وأن تستقيل معه الحكومة البتراء، وأن يستقيلوا كلّهم جميعاً، لم يعد هناك إصلاحٌ إلا بالتغيير، إنه تغيير هذا المجرّب الذي لا يزال يجرِّبنا بأرواحنا وحياتنا وآمالنا والمصير، ونحن لا نزال نقع في مهالك التجربة راضين كسقراط يتجّرع السمّ تنفيذاً لحكم الموت.
ولا خلاص إلا بِمَنْ يحسنون كل قواعد اللغة العربية وأصولها ومعانيها وآدابها وتاريخها، وليس بمن هم مخطوفون على لغتهم وثقافتهم وهويتهم لتتلاعب بهم أصابع الثقافات الخارجية بخيوط الدمى، لعل استرداد هؤلاء المخطوفين يفوق طاقة اللواء عباس ابرهيم ، وحتى النبي ابرهيم «لما جنّ عليه الليل» بأشباههم، قال في سورة الأَنعام القرآنية: «إني وجَّهْتُ وجهي الى ربي».