تسعة أعوام كأنها يوم أمس الذي عبر والذاكرة تكاد تطغى على واقع الآن. تلاشى الصوت ولا يزال يضجّ، والهدير الهائل في الساحة ذات 14 آذار 2005. صور ذلك اليوم التاريخي اعتادتها العيون والصور الباقية في البال أقوى وأوضح. نهار لا تغيب شمسه عشناه في "النهار" وكان جبران تويني يزقزق فرحاً. يطل من نافذة مكتبه فيتهلل لمشهد تدفق اللبنانيين من كل صوب وناحية على الساحة والشوارع والطرق والجسور تغص بهم سائرين ثائرين في اتجاه واحد. ينزل جبران بحيوية قدماه تطيران فرحاً إلى الساحة. يصعد إلى السطح. يلتقط بنفسه صوراً لمشهد اختراق حواجز جعلوا الجيش يقيمها لمنع المتظاهرين من التقدم. رآهم وصوّرهم يقدمون وروداً إلى الضباط والجنود والجيش يترك السيل البشري من شباب وفتيان وكبار يخترقون الحواجز. يعود جبران إلى المكتب، إلى الساحة. غير مصدق. يقول مستعجلاً لمن يصادفهم: "شفتو؟ خللو إيمانكن كبير". سيل اللبنانيين الأحرار يتجمع ويتسع ويلوح بأعلام ولافتات ملأت ساحة ملأت فضاءها الهتافات: "حرية، سيادة، إستقلال".
بأقدامهم وحناجرهم ذلك النهار ردوا تحدي جماعة "شكراً سوريا ( النظام)". مراراً ذلك النهار التقت عيون الذين سيصيرون شهداء. جبران ينظر إلى سمير قصير ويبتسم، وسمير ينظر إلى جبران ويبتسم كأنهما في عالم تحقق الأحلام. على المنصة كان الذين سيصبحون شهداء والذين سيبقون أحياء. لم يكن أحد يعرف ما ينتظره. بيار الجميّل ووليد عيدو وأنطوان غانم وغيرهم... وقف جبران تويني على المنصة ورفع يده وصاح وردّد خلفه شعب 14 آذار "نقسم بالله العظيم...".
تسع سنوات كأنها أمس. أين صار قَسَم جبران؟ أين صار شعب 14 آذار ذاك النهار، الشعب الذي نزل إلى الساحة بلا كثير حسابات وصنع التغيير، سلّم الأمانة وانصرف كل إلى انشغالاته؟
كان لا بد من قيادة. جاءت الأحزاب وجاءت القيادات والسياسيون ومعهم حساباتهم، الذاتية أحياناً الصغيرة أحياناً كثيرة، والرافعة مصلحة الجماعة، طائفة أو حزباً أو تياراً، فوق مصلحة لبنان الفكرة الكبيرة- حلم 14 آذار. بعد جردة الحساب كل سنة واعتراف بالأخطاء ستتكرر الجردة والإعترافات. لن يرحم الخصم القاسي الحديدي ولن يتهاون في استعمال القوة والدهاء وكل أنواع الضغط والإغراء في آن واحد. في المقابل سيسود الحذر في التعامل بين مكوّنات قوى التحالف الـ14 آذاري وكل فريق يعمل على أساس "يا رب نفسي". سيفرض "حزب الله" بالدم والرصاص والتهويل بلبلة على خصومه وتهجيراً يفرض عليهم بدوره التفاهم في ما بينهم عن بعد إذا أمكن، وعند الضرورة. سينادي القادة بالديمقراطية لكنهم سينأون بأنفسهم عن مشاركة كانت ممكنة مع الكوادر المستقلين، والمثقفين والناشطين غير المنضوين، كلٌ لأسبابه واقتناعاته، إلى حزب أو تنظيم سياسي معين رغم أن دورهم كان رئيسياً في إنجاح "انتفاضة الإستقلال" الرائدة والملهمة لشعوب العالم العربي بصرف النظر عن النتائج. سمع الناس أحاديث عن "مجلس وطني" أو ما يشبهه ولم يروا شيئاً ولا بديلاً.
الحق على من؟ موضوع آخر. المهم أن الأحزاب والقيادات ستتفرد كل مرة عند كل استحقاق ويُفاجئ بعضها بعضها بمواقف وقرارات تزيد حيرة الناس وقنوطهم. وثمة أمانة عامة لقوى 14 آذار تبدو غالب الأوقات متنكبة في السياسة دور الإطفائية ما أمكن، ودور الصارخ في برّية، المذكّر لعل التذكير يفيد بما أراد اللبنانيون قوله في ذلك اليوم العظيم.