منذ أيام خلت شهد العراق حدثاً لافتاً في دلالاته وأبعاده تمثل في زيارة وزير الخارجية الصيني وانغ يي لهذا البلد العربي الذي يستمد أهميته من موقعه الجغرافي وامتلاكه ثروة نفطية كبيرة شكلت على الدوام مصدراً للأطماع الاستعمارية الغربية.
فهذه الزيارة الرسمية لوزير خارجية صيني هي الأولى من نوعها منذ 23 عاماً، وهي تكتسب أهمية بالغة كونها تأتي بعد ثلاث سنوات على انسحاب القوات الاميركية من العراق، وثماني سنوات على احتلالها له، من دون أن تتمكن واشنطن من تحقيق ما كانت تصبو إليه من أهداف سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية.
على أن الزيارة الصينية طرحت الأسئلة بشأن دلالاتها وانعكاساتها في هذه المرحلة التي يشهد فيها العالم والمنطقة تحولات دراماتيكية تؤشر إلى استمرار تقهقر أميركا وتراجع دورها وهيمنتها العالمية لصالح ولادة توازنات دولية وإقليمية جديدة بديلا عن نظام القطب الأوحد، بقيادة الولايات المتحدة، الذي نشأ بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي السابق.
والزيارة الصينية وما تمخض عنها من اتفاقيات في كافة المجالات إنما تشكل تكريساً لهزيمة أميركا، وفشل أهداف حربها في العراق. عندما اجتاحت القوات الاميركية العراق عام 2003 كان هدفها تحقيق سيطرة الولايات المتحدة الكاملة على ثروات العراق النفطية، وجعل العراق تابعا في كل شيء لأميركا، وبالتالي تكريس السيطرة والهيمنة الاميركية على المنطقة، انطلاقاً من العراق، وطرد الصين وروسيا من العراق والمنطقة، وحرمانهما من الاستثمارات فيها، وحصر الاستثمارات بالشركات الاميركية وبعض الدول الغربية التي شاركت في الحرب مع أميركا.
غير أنه بعد هزيمة القوات الاميركية أمام المقاومة العراقية وخروجها من العراق عام 2011 انقلبت الأمور رأسا على عقب، وبدأ العراق يخرج من تحت تأثير الهيمنة الاميركية رويداً رويداً، وأسهمت أميركا في دفع العراق في هذا الاتجاه من خلال عدم استجابتها لطلبات العراق بالحصول على أسلحة متطورة ومحاولتها وضع الشروط القاسية عليه، لقاء تزويده بهذه الأسلحة، تنتقص من سيادة العراق واستقلاله، في وقت كان يتفاقم فيه خطر قوى الإرهاب على الدولة ووحدة العراق وشعبه، الأمر الذي دفع العراق إلى البحث عن مصادر أخرى لشراء أسلحة حديثة ، ولهذا اتجه نحو روسيا والصين الدولتين اللتين تملكان قدرات عسكرية متطورة ولا تفرضان شروطاً تنتقص من سيادة واستقلال العراق، كما تحاول الولايات المتحدة. وطبعا الأمر لم يتوقف على عقد صفقات السلاح، فقد تطورت العلاقات بين العراق وكل من الصين وروسيا على نطاق واسع بعد زيارة وزير الخارجية الصيني، التي جاءت في أعقاب زيارة وزير الخارجية الروسي لافروف، وعقد اتفاقات تجارية وصفقات تزويد العراق بالأسلحة الصينية أشرت إلى أن نتائج حرب العراق أدت إلى خروج أميركا خالية الوفاض تحصد الخيبة والمرارة، وعودة الصين بعد روسيا من الباب الواسع إلى العراق على نحو يتجاوز بكثير ما كانت عليه قبل غزو العراق.
واللافت في الأمر التطور السريع والهائل في العلاقات الثنائية بين العراق والصين، حيث تضاعف حجم التبادل التجاري بينهما اكثر من 20 ضعفاً خلال فترة قصيرة، فتجاوز التبادل التجاري 24 مليار دولار وبنسبة بلغة 40 % لعام 2013 عن عام 2012 حسب الإحصائيات الرسمية الصينية، وهو ما يفسر وجود نحو 25 شركة صينية كبيرة تعمل في العراق في مجالات الطاقة والنفط والاتصالات ، وإعادة بناء البنى التحتية للعراق، الى جانب التعاون بين البلدين في مجال مكافحة الإرهاب، وتوقيع صفقة سلاح تزود بموبجها الصين العراق بأسلحة حديثة ومتطورة.
لا شك في أن هذا التطور في العلاقات الصينية العراقية، معطوفاً على التطور في العلاقات العراقية الروسية وتزامنه مع تقهقر الولايات المتحدة في المنطقة والعالم، سيكون له انعكاسات كبيرة على واقع العلاقات في الدولية والاقليمية، وهو ما يصب في صالح الصين الساعية اصلاً بهدوء إلى التمدد في أنحاء العالم، ولا سيما في قارتي آسيا وإفريقيا على حساب نفوذ الولايات المتحدة والدول الغربية، وتعمل في إطار مجموعة دول البريكس الصاعدة اقتصاديا، على كسر الهيمنة الاميركية وبناء نظام عالمي تعددي جديد يقوم على الشراكة والتعاون واحترام سيادة واستقلال الدول وفق ما ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة.
وما يجعل الصين قادرة على التقدم في سعيها لتحقيق هذا الهدف، ازدياد تأثيرها في السياسة الدولية على خلفية التنامي المطرد في حجم اقتصادها النامي بوتائر سريعة، وتزايد قدراتها المالية حيث أصبحت اكبر دولة دائنة لأميركا من خلال اكتتابها بسندات الخزينة الاميركية، بمبلغ يناهز الثلاثة تريليونات دولار أميركي، وهي حليف قوي لروسيا الطامحة ايضا إلى استعادة نفوذها الدولي ومكانتها العالمية، والتي كانت عليها أيام الاتحاد السوفياتي السابق.
بالمقابل فان انعكاسات تطور العلاقات العراقية الصينية على هذا النحو يصب في مصلحة العراق الذي يصبح قادراً على التخلص من الابتزاز الأميركي وعدم الانصياع لشروط واشنطن واملاءاتها للحصول على السلاح المتطور الذي يحتاج إليه للدفاع عن سيادته واستقلال في مواجهة قوى الإرهاب. فالعراق يستطيع عبر الصين واستطراداً عبر روسيا تنويع مصادر سلاحه والحصول على أسلحة نوعية متطورة تكنولوجيا تغنيه عن السلاح الأميركي، أو تجعله قادراً على تحصيل السلاح المذكور بشروطه .
وهذا ما يمكن العراق من بناء سياسة مستقلة تخرجه من دائرة التبعية للدول الكبرى مستفيداً من التوازنات الدولية الجديدة، وتراخي القبضة الاميركية في المنطقة والعالم.
هذا التطور في توجهات العراق، ولجوئه إلى تنويع مصادر تسليحه هو ما دفع وزير الخارجية الاميركية جون كيري، ومن ثم نظيره الفرنسي إلى المسارعة للاتصال بوزير الخارجية العراقي هوشار زيباري، والتأكيد له على وقوف أميركا وفرنسا إلى جانب العراق في محاربة الإرهاب، ما يسهم في تشجيع العراق على التمسك بهذه السياسة القائمة على تنويع علاقاته وعدم حصرها بدولة من الدول حتى لا يخضع للابتزاز الخارجي.