تجلسُ الفلسطينية المقدسية "أم رائد" وهي تحتضن صورة أبنائها الأسرى الأربعة في منزلها الذي اشتاق لصوتهم، وتتذكر سنوات الألم والمعاناة التي تعاقبت عليها، وليالي الوجع الطويلة التي عاشتها، بعد أن اعتقلتهم قوات الاحتلال الإسرائيلي على فترات، منذ عام 2004 وحتى العام الماضي.
"الصمت يدُب في المنزل الذي لا يخلو من ذكرياتهم، ودموع شوقي وحنيني لأبنائي كانت تسيل دون توقف حتى ساعات الصباح على أمل لقاء قريب، وحرية جديدة"، هكذا تصف سميرة الحلبي (61 عاماً) من قرية كفر عقب بمدينة القدس المحتلة، الليالي التي لم تعرف فيها طعم النوم، كغيرها من أمهات فلسطين اللواتي عانينَ وصبرن ولم تكسرهن إرادتهن في انتظار حرية أبنائهم من سجون الاحتلال، أو ممن ودعنهم شهداء محمولين على الأكتاف.
ولم يميز الاحتلال الإسرائيلي في استهداف الفلسطينيين أو اعتقالهم بحسب ديانتهم، إذ أنّ "أم رائد" تعتنق الديانة المسيحية، وتعاني كما غيرها من الفلسطينيات المسلمات، سيما وأنهنّ كلهن في الهم والمعاناة سواء.
ذكرياتها في صورة
"أم رائد" واحدة من اللواتي لا زلن يتجرعن مرارة الاحتلال وعذاباته، إذ اعتقل الاحتلال الإسرائيلي أبناءها الأربعة، رائد (19 عاماً) وقضى داخل الأسر عاما ونصف، وكان يعمل مع الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال قبل اعتقاله، ونائل (25 عاماً)، اعتقل بعد رائد، وأمضى 4 سنوات، على إثر إضرابه التضامني مع الأسيرة هناء الشلبي. وناصر (24 عاماً) اعتقل هو أيضاً، وأمضى سنتين داخل الأسر، ومن ثم أُعيد اعتقاله مرة ثانية، وأمضى 7 شهور، ورامي (26 عاماً) وهو الأخير، اعتقل وأمضى سنتين داخل الأسر.
تبدأ "أم رائد" صباحها كل يوم على غير المعتاد، بعد أن تقف أمام صورة فلذات كبدها الأربعة، وهي تلقي عليهم تحية الصباح وتقول: "صباح الخير يما، كيف حالكم انتو، كيفك يما يا رائد، ويا نائل، ويا ناصر، ورامي، اشتقتلكم يما".
تقول "أم رائد" والدموع تنهمر من عينيها لـ"النشرة": "عندما كنت أقف أمام صورتهم وأتحدث معهم، أبدأ الحديث مع ابني رائد ومن شدة شوقي وحنيني له أطيل الحديث معه وأكاد لا أتوقف عنه، لكنني أخشى أن يزعل نائل مني وأوجه رأسي إليه وأبدأ الحديث معه ويطول، كما هو الحال أيضاً مع ناصر ورامي".
زغرودة الفخر والاعتزاز
الفلسطينية المسيحية، تعاقبت عليها فصول المعاناة لسنوات، وكانت تخفي دموعها وحسرتها على فراق أبنائها أمام زوجها، الذي لم يبق غيره معها في المنزل الذي تحول إلى مسرح لمداهمات جنود الاحتلال. تصف لحظات اقتحامه من قبل الجنود لمنزلها لاعتقال ابنها رامي بالوحشية، بعد أن هجموا على غرف المنزل، وعاثوا فيه خراباً، لكنهم لم يمنعوها من عناق ابنها رامي، وأطلقت زغرودة على مسمع جنود وضباط المخابرات الإسرائيلية الذين اقتحموا المنزل، في صورة تحدِّ وصبر، قائلة لهم: "هذه زغرودة لكافة أولادي ولكل الأسرى المعتقلين".
وتابعت وهي توجه الحديث لابنها رامي أمامهم: "انت بطل يما، أنا برفع راسي وبفتخر فيكم، سلم على اخوتك ناصر ونائل ورائد".
وعن شعورها لاعتقال أبنائها الأربعة الذين لم تجتمع معهم ولو لمرة واحدة على مدار سنوات، تقول "ام رائد": "شعور صعب أن أصفه لك، لكنه شعور كل أم فلسطينية، تفخر بأبنائها لأنها ربتهم على حب الوطن ومقاومة الاحتلال".
مثال للأم الفلسطينية
ورُغم صبرها على انتظار أبنائها، لم تترك "أم رائد" أي اعتصام أسبوعي، أو فعالية تضامنية مع الأسرى، إلا وتشارك فيها، وهي تحمل صورة أبنائها الأربعة التي أصبحت تعيش في تفاصيل حياتها وكل أوقاتها، وحتى أنها طبعت صورهم على بعض البلايز.
وتضيف: "كل الأسرى أبنائي، هذا أقل ما يكمن أن نقدمه لأجلهم، وفاء لهم، وحتماً الحرية موعدهم" .
وأفرجت قوات الاحتلال الإسرائيلي عن جميع أبنائها، وكان آخرهم رائد قبل أربعة شهور، لكن ورغم الإفراج عنهم، يصر الاحتلال على تهديد العائلة بمعاودة اعتقال أبنائها مرة أخرى، في محاولة للنيل من صمودهم وتضحياتهم، وإرادة أبنائها الذين تجرعوا مرارة الأسر والاعتقال وهم يتنقلون من سجن إلى لآخر.
وأنهت "ام رائد" حديثها بالقول: "رسالتي للأم في كل العالم وللأم الفلسطينية على وجه الخصوص، الصبر والصمود، الوطن يحتاج منا الكثير، كونوا شجاعات أبطال أنتم وأبنائكم في سبيل تحريره".