على غرار الإبن الشاطر مَثُلَتْ الحكومة أمام مجلس النواب، فنالتْ الثقة على بيانٍ لو شئنا إخضاعه لهيئة علمية ولغوية لكانت اتهمت الحكومة والمجلس معاً: إما بثقافة الجهل، وإما بالتواطؤ على الذكاء الفكري والقاموس اللغوي.
هذا... إذا ما استثنينا ما ذهب إليه بعض الدستوريين بأنَّ الحكومة تستجدي الثقة من مجلس يحتاج الى من يمنحه الثقة، بعدما جدّد هو لنفسه، ومنح الثقة هو لنفسه.
وإذا استثنينا أيضاً ما حقَّقه البيان الوزاري من انقلاب على اللغة والمفاهيم العلمية وما شهدته جلسات الثقة من انقلاب على العقل والمنطق السياسي على قاعدة: الرجال عند أغراضهم نساء.
وإذا استثنينا ثالثاً ما طالعَنا به رئيس الحكومة رداً على المتكلمين، من كلام واعٍ وموقف حكيم ومسؤول، يبرز الرئيس تمام سلام رجل دولة من الطراز الأول.
فإننا نتوقف في البيان عند فقرة المقاومة التي قامت القيامة حولها ولم تقعد إلاّ على نصٍّ أخطر ما فيه أَنه بفعل سوء التركيب، بدا وكأنه يدعو الى المقاومة لتأكيد الإحتلال، هذا فضلاً عن إعطاء المواطنين حقاً يفوق حق الدولة وواجبها في استعادة الأرض.
لا يحتاج الأمر الى لجنة من أهل الإختصاص لنبيّن للحكومة الكريمة المعنى العكسي للنصّ فبدل القول مثلاً: بمقاومة الإحتلال الإسرائيلي، جاءت عبارة «حق المواطنين في المقاومة للإحتلال الإسرائيلي» تشكل التباساً قد يعني: المقاومة من أجل الإحتلال...
وثمة فارق ملحوظ بالمعنى والمضمون بين تحديد مسؤولية الدولة ومسؤولية المواطنين ولا يقول لنا قائل: بأن «واجب الدولة وسعيها لتحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا الخ... هو بحجم الواجب نفسه الذي «يؤكد على حق المواطنين في «المقاومة للإحتلال» الإسرائيلي وردّ اعتداءاته واسترجاع الأرض...».
وفيما كانت صيغة الشعب والجيش والمقاومة تُحدّد صراحة ثلاثية مترابطة أقلّها ضمناً رعاية الجيش للمقاومة والتنسيق معها، وتحديد هوية حصرية وهيكلية لها، سقطت كلمة الجيش من معادلة البيان الوزاري لتبقى كلمة المواطنين الملتبسة التفسير، إطاراً مبهماً للعمل المقاوم على الحدود اللبنانية، تستغلّه عشوائياً كل جماعة أصولية أو تكفيرية أو جبهة أو حزب أو تنظيم سواء كان لحزب الله أو لحزب الشيطان.
نشدّد على هذه الفقرة في البيان لأنها تتعلق بعمل المواطنين بما تبطّن من اجتهادات وأخطار قاتلة، وما تشكل من ذرائع مستباحة تعرّض الأمن القومي والكياني للإهتزاز.
أما البنود الأخرى التي تتعلق بتعهدات الحكومة، فهي أولاً أشبه بكلام الليل الذي تعهدت به لأمير المؤمنين هارون الرشيد جاريةٌ لعب السكر بها، وما لبِثَ كلامُ لَيْلِها أن محاه النهار، ولأن نهارات الحكومة ولياليها أيام معدودة تكذّب وعودها، مثلما أن كل بيانات الحكومات منذ الإستقلال حتى اليوم كانت هي الأخرى بمثابة تعهدات تتفَوَّه بها الجواري أمام المؤمنين وأمراء المؤمنين.
ولا يعنينا أيضاً ما في البيان من بنود أخرى ساخرة، كمثل التشديد على «وحدة الدولة» فيما الحكومة عاجزة عن تأمين وحدة الحكومة، أو حين تدعو الى الإلتزام بسياسة النأي بالنفس فيما تستمر ممارسة النأي عن النأي بالنفس.
بل سننأى بنفسنا عن محاسبة هذه الحكومة بحكم كون عمرها لن يتجاوز المئة يوم إلا إذا كانت تحاول تزوير تاريخ الولادة مراهنةً على الفراغ الرئاسي وإذ ذاك يصبح عمر التكليف الذي استغرق عشرة أشهر شبيهاً بالأشهر العشرة التي قضاها نابوليون في منفى جزيرة «ألبا»، والتي عاد بعدها الى باريس منتهكاً سلطة لويس الثامن عشر، إلا أنه بعد حكم المئة يوم عاد منفيَّاً مرة ثانية من جزيرة «ألبا» الى جزيرة القديسة هيلانه.