على مدى العقدين الأخيرين خرجت أصوات كثيرة تتحدث عن وجود خلل في ادارة الضمان، إلا أن هذه المؤسسة التي تأسست في العهد الشهابي، لم تخرج عن صمتها إزاء ما يحصل في داخلها. سياسة الصمت مستمرّة حتى بعدما كشفت التحقيقات التي أجريت من خارج المؤسسة عن وجود فساد مالي. أما التحقيقات الداخلية، فهي صامتة وتجري برعاية سياسية!
يبدو أن ملف الفساد في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي فُتِح على مصراعيه. النائب العام المالي علي ابراهيم ادعى على مستخدم في مصلحة براءات الذمّة و4 مفتّشين بتهم تزوير براءات الذمّة وتقاضي رشى لإتمام المعاملات. التحقيقات الداخلية التي يجريها التفتيش المالي لدى الصندوق في ملفي شكا والدورة تكشف استشراء عمليات التزوير والاختلاس والرشوة.
في شكّا سرقت مجموعة من مستخدمي الضمان بينهم مدير، أكثر من 1.7 مليار ليرة من أموال المضمونين، وفي الدورة تتواصل التحقيقات في تأخير المعاملات ودفع الرشى للمستخدمين مقابل إحالة معاملات المضمونين على مراكز ثانية حيث تصرف المبالغ المستحقة لهم. غابة الفساد في الضمان «معشوشبة».
انضمّ الضمان الاجتماعي إلى أحاديث الفضائح المالية. قبل أسبوع، لم تكن روايات السرقات والاختلاسات والرشى، سوى مجرّد كلام متداول في السوق الشعبية، وهمسات متناقلة في الصفوف الطويلة على أبواب الضمان. هكذا كانت مناسبات كلام من هذا النوع. برغم ذلك، لم تخرج أي فضيحة إلى العلن. المضمونون، وحدهم، كانوا يشعرون بمستوى الذلّ على أبواب مستخدمين مرتشين، لكنهم لم يمسكوا أي دليل. قبل الأسبوع الماضي لم يخرج أي دليل يكشف عن الشبكات المنتشرة، أو عن أسماء المستفيدين من دون وجه حق، أو عن المختلسين. أما ما اكتُشف سابقاً من هذه الموبقات، فكان يُطمس على أبواب الوزراء، كما حصل قبل أشهر في قصّة براءة الذمّة لشركة «هيونداي»، وكما حصل في العديد من الحالات التي اختفت كأن شيئاً لم يكن. قبل أشهر لم يكن صندوق الضمان ضمن اهتمامات السلطات القضائية، ولم تكن توجه أي اتهامات إلى مشتبه في اختلاسهم المال العام. خلال الأسبوع الماضي «انهمرت» الأدلّة عن كل هذه الممارسات. أثبتت التحقيقات التي لم تنته بعد، أن هناك عددا لا يستهان به من المتورّطين. حتى مساء أمس، كان قرار النائب العام المالي علي ابراهيم، أن يدّعي على عدد من الموقوفين بينهم مستخدم في مصلحة براءات الذمّة، و4 مفتّشين. ادعاءات ابراهيم مستندة إلى التحقيقات التي أجراها فرع المعلومات في قضية افتعال حريق لأرشيف براءات الذمّة لعام 2013، بعدما قبض على شبكة من المستخدمين والسماسرة يتواطأون لتزوير الإفادات مقابل مبالغ مالية يدفعها السماسرة للمستخدمين. وتشير المصادر نفسها إلى أن التحقيقات لا تزال مفتوحة في انتظار ظهور أسماء جديدة من «الوزن الأكبر». وقد لاحظ عدد من مستخدمي الضمان أن بعض المفتشين متغيبون عن العمل، فيما تبحث عنهم الأجهزة الأمنية المكلفة استكمال التحقيقات.
لقصّة الرشى والاختلاسات جزء مختبئ في أروقة الضمان لم يظهر إلى العلن بعد. فبحسب التحقيقات الجارية لدى التفتيش المالي، تبيّن أن رئيس مركز الضمان في شكّا مشتبه في أنه كان يزوّر معاملات المضمونين، بالشراكة مع مستخدمين وطبيب موظف في الضمان. وتشير التحقيقات إلى أن هؤلاء الثلاثة كانوا يترأسون شبكة مؤلفة من 16 شخصاً من خارج مستخدمي الضمان، ومهمتهم المساعدة والمشاركة في أعمال تزوير معاملات وقبض الفواتير وتقسيم المبالغ المالية عليهم. حتى الآن تبيّن أن هذه الشبكة اختلست 1.7 مليار ليرة من أموال المضمونين. قدّموا فواتير أمراض سرطانية بقيم مالية هائلة، واللافت أنهم استعملوا ملفات لأسماء أشخاص ليس لديهم ملفات في الضمان، أي إن التزوير كان وقحاً إلى هذه الدرجة، وأن التسيب كان كبيراً إلى درجة «مشجّعة» على هذه الوقاحة. وبنتيجة التحقيقات، تبيّن أن كل فرد من هذه الشبكة كان يحيل التهم المنسوبة إليه على شخص آخر... أما أكثر ما هو لافت في الضمان، أن الإدارة قرّرت أن تُبعد بعض هؤلاء الأشخاص «المدعومين سياسياً» من مناصبهم في انتظار انتهاء التحقيقات. لم تتجرأ الإدارة على منح هؤلاء إجازة مفتوحة في انتظار جلاء التحقيقات. الإدارة، وكما يقول أعضاء في مجلس الإدارة «انصاعت سياسياً لأحد الوزراء الأساسيين في الحكومة الحالية نظراً إلى كون أحد المتورّطين محسوبا عليه».
وتشير التحقيقات في ملف الدورة إلى أن بعض مستخدمي الضمان كانوا يؤخّرون صرف بعض المعاملات للمؤسسات والمضمونين من أجل استغلال أصحاب العلاقة وإجبارهم على دفع مبالغ مالية مقابل الإفراج عن هذه المعاملات، وإحالتها على مراكز ثانية حيث وتيرة دفع المبالغ المستحقة أسرع.
تعليقاً على هذا الوضع، قال رئيس مجلس إدارة الضمان طوبيا زخيا لـ«الأخبار»، إن الملفات المشار إليها على أنها تتضمن سرقة واختلاسا ورشى «يجب أن ننظر إليها بصورة شاملة من أجل البحث عن المشكلة التي أدّت إلى إنتاج هذه الظواهر. يجب أن ننظر إلى الثغر التي نفذ منها المتورطون في هذه الأعمال وسدّها، سواء كانت تتعلق بمسالك العمل، أو بالتراتبية الإدارية، أو أي إجراءات وتدابير إدارية. يجب أن نكشف عن مصدر التقصير أو الإهمال الواقع في الصندوق ونعالج المشكلة. ما يظهر من وقائع يكشف عن أن الضمان في خطر. فما هي النتائج التي توصّل إليها التحقيق، وما هي التدابير التي أجريت...». أما سبب هذه الظواهر التي تتفشى في الإدارات العامة والرسمية، فيعود بحسب زخيا، إلى «رعاية ممنوحة لها ضمن بيئة مشجعة على القيام بهذه الأعمال. لبنان يتّسم بهذا الوضع، فإذا لم يختلس الموظف يعدّ أمراً منافياً للطبيعة. وتحت عنوان (تدبير الحال) ينخرط الموظف في مهنة سمسرة تتطوّر إلى أعمال اختلاس وسرقة ورشوة».