أمس في الـ2008، أي منذ سنوات ست، بعدما حشر سياسيو لبنان في طائرة نحو الدوحة بعد فراغ كرسي بعبدا، طرحنا سؤالاً واحداً مع انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية وهو: من انتخب الرئيس؟ شاغلو الصالة من النوّاب يمارسون(؟) فعل الإقتراع ثمّ الإصغاء لخطاب القسم الذي أنقذ بعض التجاذب والإنقسامات، أم الذين إصطفّوا على البلكون أو الشرفة من سفراء الدول الذين كانوا مشغولين بلبنان كثيراً منذ ال 2005 حيث دوّختهم ملفات ثلاث: مقتل الرئيس الحريري، إخراج سوريا من لبنان والمقاومة.
هل نبري أقلامنا مجدّداً ونشحذ ألسنتنا لنصّوص مشابهة متكرّرة، تتبدّل فيه أسماء المرشّحين لكرسي بعبدا أم نعاين الفراغ ونداويه في حمّى الإستحقاق الرئاسي الذي يشغل البرامج الإعلامية والشاشات فنوحي للآخرين واهمين وكأننا في أميركا أو أوروبا أو في بلدٍ يشارك فيه الشعب كلّه في صناعة الرئيس؟
كيف مرّ الوقت مسرعاً يا فخامة الرئيس مستهلكاً نصف العهد الرئاسي في التناكف والتجاذب وإنتظار تأليف الحكومات والبيانات الوزارية ثمّ استهلك ما تبقّى منه في البحث عن طبيعة العلاقة مع أو قرب اللهيب السوري؟ ولماذا إنقطع الحوار في لبنان، والرئيس يحضّر حقيبته لمغادرة القصر متمسّكاً بالدستور والحوار والتوفيقية والنأي بالنفس وكلّها لم تنشل لبنان ممّا هو فيه؟ رفض حزب الله المشاركة في حوار بعبدا ؟ أمر منتظر. لماذا؟ لأنّ حوار بعبدا، يقع مع نهاية عهد، وسيتطرّق الى موضوع معقّد يتجاوز بعبدا وقوّة لبنان وهو الإستراتيجية الدفاعية أي سلاح حزب الله. الموضوع صار إقليمياً ودوليا وهو لم يوضع بشكلٍ بارد فوق أية طاولة مع أنّه فوق كلّ الطاولات، لكونه ملف حاضر في الموقد السوري الذي لم يبلغ برودة الرماد بعد. القوّات اللبنانية رفضت بدورها المشاركة بالحوار. محقّة ربّما لأنّ لا نتائج مرجوّة منه منذ بدايته في مجلس النواب، قبل إنتقال الطاولة الى بعبدا مع القناعة بأنّ الحوار حول طاولة مستديرة أو بيضاوية هو باعث إيجابيات ولو شكلياً في الأزمنة الصعبة وهو يغطيّ القرارات الكبرى أحياناً. كيف؟ عندما يهبّ نوّاب لبنان من دون خجل الى التجديد لأنفسهم كما جاء في التبرير لأسباب أمنية وضرورات لم يقتنع بها أحد؟ وهنا قد أعترض مع سياسي كبير ونظيف مثل الرئيس الدكتور سليم الحص إذ يقول: أرشدوني الى بلدٍ ديمقراطي آخر في العالم غير لبنان فيه مجلس وزاري ودستور وبرلمان ويتحاور فيه عشرة أشخاص يمثّلون طوائفهم أو أحزابهم الطائفية حول قضايا تخصّ بلدهم؟ هذا سؤال وجيه يجعل لبنان إستثناءً لا قاعدة وكأنّه مشروع شراكة سياسية دائمة هي في طور التأسيس أو في إعادة التأسيس، من دون أن ننسى أن لكلّ ممثل من هؤلاء طائفته وجيشه المعلن أو النائم ونشيده الحزبي ومدارسه وجامعاته وتلفزيوناته وإذاعاته وموظّفوه الراسخون في الإدارات وعلاقاته الإستقوائية بخارج ما قد تمنحه قوّة إستعدائية ما تجاه شركائه.
أين الحوار إذن؟ في الكواليس ينصبّ فقط على الإستحقاق الرئاسي بحثاً عن رئيس، وهل سنصدّق أنفسنا بأنّنا نبحث عن رئيس؟ في بكركي بدأ الشغل بين مرشحين يحتار المرء في أيّ من القطبين يضعهم بما يلبس الإستحقاق هنداماً محليّاً. ولكنّ القوات اللبنانية أي قطب المؤكّد قاطع ؟ صحيح لكنه شارك بالهاتف على الطريقة الأميركية لذرائع أمنية. هناك إستحالة للإمساك بالوقائع كما في إظهار النوايا والتلويح بالمقابلات والتصريحات المحشوة بالأسرار والتهذيب المفرط والصمت المريب من المرشّحين، خصوصاً وأنّنا في مرحلة من إزالة الصدأ وذوبان اللحام في التحالفات الثابتة التي أتعبت لبنان بآذاره المنقسم بين معادن 8 و14 وهي معادن وأدوات تبدأ بالخشب صعوداً نحو الذهب والإلماس مروراً بالتنك ممّن يستهلكون الوطن لملء جيوبهم وديارهم من طريق نهب شعبه كما من خيرات السعودية أو خيرات إيران . وبين عهد ينتهي وعهد ننتظر مثل البلهاء في عمق المياه لا في ما يطفو على السطح. ننتظر ماذا؟ الجواب: ننتظر سوريا والسعودية وإيران وأميركا وفرنسا وقطر وروسيا وحتى منجمات شاشات لبنان.
ننتظر سوريا؟ ساعدها الله. نعم ننتظرها ولو كانت حجراً نتقاذفه وكأنّنا مسكونين بالخارج. فبعد تسع سنواتٍ من الإنقسامات السياسية الحادة وكيل التهم والتجريح والمسؤوليات بين سياسيي لبنان في مسؤولية سورية ثمّ في مأساة سورية بل نكبتها منذ ثلاث سنوات، لم يبق سوى أحجارٍ نتناولها من خرائبها المتنقّلة ثمّ نتقاذفها سياسيين في ما بيننا، فيعيّر ويحقّر مرشّحنا الآخر بأنّ ما هو عليه وفيه من سلطان وجاه ومال جاء برعاية سورية وينسى هذا الواحد بأنّ ما يقوله ينطبق عليه كما الآخر. فلحم أكتافهم من سوريا.
أمس كان المسيحيون يشكون من خواء بعبدا من الصلاحيات وكأنها قربة فارغة. وأمس كانوا يشتكون بأنّ الرئاسة في لبنان مثلّثة الرؤوس. فكيف نفهم هذا السباق القوي بحثاً عن رئيس قوي جديد ؟ ما معنى الجديد وما معنى القوي غير فراغ الكلام وتقطيع وقت اللبنانيين في مآسيهم؟ الجديد يكون إضافةً الى القديم أو يكون جديداً ملفوفاً مثل هدايا العيد لم يألفه اللبنانيون. كيف يكون ذلك؟ لأنّ أحداً من الذين يرغبون في الوصول الى بعبدا ليس مجبراً أن يعلن ترشيحه رسمياً ولا حتّى أن يعلن نيّته السعي للوصول الى هذا المنصب الذي هو حكم فوق كلّ الرئاسات الأخرى. فكلّ ماروني بالغ وعاقل يمكنه إعتبار نفسه مرشحاً لبلوغ كرسي بعبدا. وهنا إشارة الى بسمتين سريّتين تتشابهان فوق وجهي نبيه برّي ووليد جنبلاط.
هذا المناخ التراشقي لمعظم أهل السلطة ملّه اللبنانيون وهم لطالما كانوا وما زالوا يتمنون لو تفتح سوريا ملفاتها في الطبقات السياسية التي توالت على بلادهم طيلة عقود ثلاثة للوقوف على حقيقة مواقف هؤلاء وسهولة تنازلاتهم للخارج عندما يلمع منصب أو تظهر حظوة في الأفق نعم أيّ أفق في خزائن لبنان. مجدداً هذا تاريخ مسبوك بعلاقات الإستقواء بالخارج أو الإستعلاء عليه والتشاوف به وهو قد يصل ليصبح ثقافة في إقتناص المناصب والثروات والحظوات أيضاً من الخارج أيّ خارج وكلّ خارج سوري أوغيره. الإشكالية باقية في ثقافة الإنتماء. فسورية مسكونة بدمائها وجروحها وقد لا تكون الحرائق قد تركت بين يديها بعد ملفّات للتجريح الذي لم تألفه ولم تقدم عليه في أقسى الظروف أو هي تأنف مدرسة كشف الأغطية على نقيض مدرسة ويكيليكس التي فاجأت الآذان المحلية والإقليمية، أو أنّها دولة تؤمن بعد بأنّ لا قطيعة في السياسات والعلاقات في ما بين الدول، وخصوصاً إن تلاصقت الجغرافيا وتداخلت الشعوب. ولنقل أيضاً أن رفع الأغطية القديمة لا قيمة لها كونها بدورها حافلة بأخطاء من أمسك من المسؤولين السوريين بترتيب السلطات وتوزيع مغانمها على اللبنانيين الواقفين دهوراً أمام الأبواب أو حاملي التقارير والهدايا وهم من شكّل مشاهد السلطات في لبنان المعاصر. ها نحن وصلنا الى حدود إنهيار بين الجارتين تفرز أجواء ومخاطر جديدة تقوى وتشتدّ تشعرنا بأنّنا نبحث عن رئيس للبنان في قلب الحرائق والخرائب فارعووا واعقلوا.
مجدّداً لا تنتظروا رئيساً يخرج من الشاشات أو من الصالونات أو من الكواليس أو من التراشق بالنازحين السوريين، ولا تنتظروه من المفارقات والإزدواجيات والمتناقضات بين ما يقوله المرشّحون جهاراً في الشاشات أوهمساً في الصالونات. لا تنسوا أنّ تحت النوافذ وفي هواتفكم الخليوية آذان تسمع كلّ شيء ليس عن سورية وحدها، بل عن كلّ من يمدّ أصابعه نحو عجنة الرئيس في لبنان.
نحن لم نبلغ بعد الخروج من الخارج. نحن نكرّر النصوص في إنتخاب الرئيس وأرجح الظنّ أنّنا ذاهبون الى فراغ قد يؤسّس لفراغ مشابه لمتفرّج جديد يعاني من فوق مآسي ساكني المغارة فينزل مشاركاً الى تحت ما تبقّى من البقايا.
نم أيّها الحبر وأحزن.