لا يتفق التحرّش الجنسي مع سلوك «المحافظ» عادة، لكن هدى سنكري أثبتت أنه يفعلها. صوّرت فيديو للرجل الذي قال لها كلاماً «اعتقدتُ أنك سمعتِه في المرة الماضية»، ولم تفعل. فصارت هي من «يحفر لنفسها» حفرة عدم تجديد عقد العمل في مختبر صحي مجاني يستقبل عشرات المرضى من فقراء مدينة الميناء يومياً
كالعادة، نحن نحتاج إلى ضحايا لكي يرتفع الصوت.
ليس صحيحاً ما قاله رئيس مجلس النواب نبيه بري قبل أيام، من أن المجلس لا يشرّع تحت الضغط. نحن، كلّنا، لا نتحرّك إلا تحت الضغط. عندما يطاول الظلم لقمة العيش، نلتفت إلى أن ما نتعرّض له يومياً، ليس بديهياً. نستعيد الأوصاف المناسبة للأفعال التي نتعرّض لها ونذكّر أنفسنا بصوت مرتفع: التحرّش الجنسي في مكان العمل ليس غزلاً، ولا تودّداً، ولا عرضاً لموعد غرامي تقبله الفتاة أو ترفضه بحرية. هو ابتزاز. هو احتقار يطاول كرامة من يتعرّض له، امرأة كانت أو رجلاً. والأهم، أنه جرم يفترض أن يعاقب عليه القانون... لو كان هناك قانون واضح يسمّي الأمور بأسمائها ويدين التحرّش الجنسي.
ما كشفت عنه هدى سنكري، المتعاقدة مع بلدية المينا لإدارة مختبرها الصحي، هو ما أعاد تذكيرنا بهذه البديهيات التي تتعامل معها كثيرات بسلاح «السطلنة» (التغابي)، كما فعلت سنكري بداية مع محافظ الشمال وبيروت بالوكالة ناصيف قالوش، عندما طلب منها زيارته في مكتبه بعد الدوام، وفق ما روت في الفيديو الذي نشره أمس موقع «التحري» الالكتروني.
ما ترويه الشابة بجرأة، ليس اعتداء على الحياة الشخصية، كما حاول البعض الإيحاء للضغط على موقع «التحري» لعدم بثّ الفيديو. هو، مادياً، استغلال لمنصب عام يسمح لصاحبه بإيقاف موظفة عن عملها الذي تعتاش منه، وتهديد مختبر صحي بالإقفال. ومعنوياً، هو انتهاك لكرامة إنسان، لا يريد أكثر من الحصول على حقه في العمل من دون إذلال، وخصوصاً إذا كان يحبّ هذا العمل ويجسّد طموحه المهني كما هي حال هدى.
ولأنها تحبّ عملها، وتريد الحفاظ عليه، «تسطلنت» كما تفعل غالبية الفتيات اللواتي تعرّضن لمواقف مماثلة من دون أن يتجرأن على القول، لكن، كما تتغابى الفتيات للحفاظ على كراماتهنّ، يتغابى الرجال أيضاً للوصول إلى مآربهم. لا يفهمون «السطلنة» رفضاً للعرض المهين، بل يكرّرون المحاولة. والمحافظ قالوش، كما نستمع إليه في الفيديو لا يحب «اللف والدوران». قال ما عنده، وانتظر منها الجواب «والكلام اللي قلت لك إياه المرة الماضية، فكرت عم تسمعيه»، لكنها لم تكن تفعل. عندما قصدته في مكتبه، في 14 كانون الثاني الفائت، كانت تحاول أن تسجّل له بالفيديو ما سبق أن فعله معها في اللقاء السابق الذي جمعهما بناءً على اتصال منه.
تروي القصة منذ البداية، ومفادها بأنه مع صدور قرار حلّ بلدية الميناء في أيلول الماضي، انتقلت صلاحيات الرئيس محمد عيسى إلى المحافظ ناصيف قالوش. وبسبب وجود عدد من المشاكل في البلدية بين اللجنة الصحية وهدى سنكري من جهة، وحاجة الأخيرة إلى توقيع المحافظ على عقدها السنوي الجديد من جهة ثانية، لجأت إلى قالوش فوعدها خيراً. قصدته في مكتبه، وانتظرت أربع ساعات حتى التقته، فأعطاها رقم هاتفه الشخصي وطلب منها الاتصال به ليلتقيها بعد الدوام. وبعد أيام، اتصلت بها سكرتيرته، وحدّدت لها موعداً في يوم خميس، وهو يوم لا يحضر فيه عادة إلى السرايا. وخلال اللقاء، تحرّش بها وقبّلها في رقبتها قبل أن تخرج من مكتبه غاضبة.
لجأت بعد ذلك، من خلال الوساطات، إلى الرئيس نجيب ميقاتي (وكان لا يزال رئيساً للحكومة بالتصرّف) الذي اتصل بقالوش وطلب منه تجديد عقد هدى، لكن الأخير لم يفعل، بل جدّد عقد موظفين آخرين واستثناها من الأمر. عندها قررت ألّا تسكت عن الظلم الذي لحق بها من خلال تصوير الفيديو الذي يثبت أن قرار عدم تجديد عقد عملها سببه الابتزاز الجنسي الذي يمارسه عليها، كما تقول.
خلال الدقائق العشرة التي صوّرتها هدى، وكان يوم دوام عادي، نلاحظ قالوش واقفاً خلف مكتبه. وقد حاولت سنكري مراراً، وبذكاء، دفعه إلى تكرار ما قاله في لقائهما الماضي. صحيح أن كلامه لم يكن مباشراً بالصراحة التي نقلتها هدى عنه في اللقاء الأول، إلا أن عباراته كانت دالّة: «مش عم بمضيلك لأنك ما عم تحكي معي»، «إنتو بتطمعوا باللي بيحبكن»، تسأله: لحّقت؟ فيجيبها «إيه لحّقت... بيِسْوا من 5 دقائق». «بعدك عم تغلطي، ما حدا عم يحفرلك إلا إذا أنت بدّك من دون ما تدري»، «الكلام اللي قلت لك إياه المرة الماضية، فكرت عم تسمعيه»... هذا فضلا عن حركات جسده، التي أكد أكثر من خبير أمني لهدى أنها تتضمن «أكثر من جرم».
حصلت هدى على موافقة والدها قبل إعلان قصتها
بعد تصوير الفيديو، بات على هدى الانتقال إلى الخطوة التالية. نُصحت من قبل محام تعرفه باللجوء إلى الجمعيات التي قد تمثل سنداً لها إذا جرت محاولات للفلفة القضية بسبب الضغوط السياسية التي قد تمارس. وقد ساعدتها على التواصل مع عدد من هذه الجمعيات الناشطة ناريمان الشمعة، لكن ردود الفعل لم تأت على قدر الآمال «البعض كان خائفاً ولديه مصالحه، ومنهم من عبّر عن مخاوفه، وخصوصاً أننا لم نقدّم كل المعطيات حفاظاً على سرية الموضوع، وهؤلاء نعذرهم» تقول الشمعة، التي تعبّر عن صدمتها بعدد من المحامين الذين اعتذروا عن عدم تولي القضية.
هدى، التي كانت قد ترشّحت عام 2009 للانتخابات النيابية، تحتفظ في هاتفها برقم الزميلة غادة عيد، التي كانت قد استضافتها في برنامجها للإضاءة على السيدات اللواتي يترشحن للانتخابات. اتصلت بها، وطلبت لقاءها لتروي لها قصتها طالبة المساعدة. طلبت منها عيد، التي تدير موقع «التحرّي» الالكتروني، التقدّم بشكوى قبل نشر الشريط لكي تأخذ الأمور مسارها القانوني الطبيعي، وهذا ما حصل.
أول من أمس، توجهت هدى إلى وزارة الداخلية والتقت الوزير نهاد المشنوق، الذي طلب مهلة لليوم التالي لكي يقرأ الشكوى ويشاهد الفيديو. وأمس، استقبلها مجدداً، وقال لها إنه لن يستبق التحقيقات، لكنه وعدها بأن ينصفها. وهذا يعني، أنه في حال ثبوت استغلال قالوش لمنصبه، وتعرّض هدى للابتزاز الجنسي، سيحوّل التفتيش المركزي قالوش إلى القضاء لمحاكمته، لكن المؤسف أن لا قانون في لبنان يعاقب على التحرّش الجنسي، والمواد المتصلّة بهذا الموضوع في قانون العقوبات مطاطة وتحتمل التأويل. لذا تعوّل هدى على ملاحقة قالوش بسبب استغلاله لمنصبه.
من جهته، يخفّف قالوش في اتصال مع «الأخبار» من قيمة الفيديو، نافياً كلّ ما ورد أعلاه. فيقول إن الفيديو «مفبرك وممنتج بطريقة مختلفة»، وإنه عرض عليه قبل فترة على سبيل الابتزاز، لكنه لم يرضخ، معلناً أنه هو أيضاً سيرفع دعوى بالتشهير على هدى. ويؤكد أن لديه أدّلة تثبت أقواله وأنه استقبلها في حضور شهود. أما هدى فتؤكد أن قالوش لم يعرف بأمر الفيديو إلا يوم الاثنين الفائت، عندما صوّرت شهادتها لموقع التحرّي وانتشر الخبر في بعض الأوساط.
وفي الأيام الفاصلة بين تسليم الفيديو لموقع «التحرّي» (الاثنين الفائت) وانتشاره أمس، «تعرّضنا لضغوط وإغراءات من أجل لفلفة القضية» تقول عيد، لكننا «طبعاً، لم نمتثل».
أبرز ما تعرّضت له هدى، محاولات الإساءة إلى سمعتها، لكن هذه الشابة الجريئة كانت قد حصلت على دعم من والدها، الذي اعطاها الضوء الأخضر لتخرج وتحكي أمام الناس. تقول «رأيت الدموع في عينيه، عندما أخبرته عما أنوي القيام به، لكنه عاد وقال لي افضحيه حتى يتقي الله ببنات الناس». هدى، التي قالت أمس لوزير الداخلية «هذه قضيتي بين يديك، تصرّف بها كما لو كانت قضية ابنتك»، لا تنسى أن تعتذر من عائلة قالوش «وأقول لهم، هو لم يرحمني».
وفي وقت متأخر من ليل أمس، وبعد محاولات عديدة للاتصال به، أصدر المشنوق بياناً قال فيه إنه «اتخذ الإجراءات الإدارية اللازمة. ورفض المشنوق التعليق أكثر من ذلك على الموضوع حرصاً على دقّته وضرورة التعاطي مع المعلومات المنشورة بموضوعية ودون تشهير ووفقاً للقوانين المرعية الإجراء».