يسوّق"حزب الله" مباشرة ومداورة لحسنات التوصل إلى تفاهم أو توافق على رئيس جديد للجمهورية يضمن انصراف الحزب إلى المهمات الكبيرة التي تنكّب لها سورياً وإقليمياً، فوق دوره الضابط في لبنان. لا يدع الحزب يوماً يمر من دون تقديم إغراء إلى خصومه السياسيين بفوائد السير معاً واستكمال درب تكيّفهم مع الواقع الأقوى منهم.
ألم ينتج أسلوب التهدئة المتبادلة والابتعاد عن مواضيع الخلاف حكومة جديدة كان بدا لكثيرين أنها لن تبصر النور أبداً؟ ألم تتمكن الحكومة الجديدة من تحقيق إنجازات كانت أقرب إلى المستحيلات مثل إنهاء جولات القتال في طرابلس، بما في ذلك إنهاء ظاهرة "الحزب العربي الديموقراطي" ورفع الغطاء عنه، وكذلك مدّ الخطة الأمنية إلى بؤر في البقاع الشمالي لم تعرف في تاريخ لبنان الحديث إلا التمرد على السلطات اللبنانية؟ ألم تتمكن هذه السياسة من إشاعة جو أمني مقبول فتوقفت التفجيرات وغابت الحوادث الأمنية الكبيرة، الأمر الذي أتاح التفات المواطنين إلى أوضاعهم المعيشية والسعي إلى تحسينها، كما سمح للمشرّعين والمسؤولين عموماً بوضع قوانين وقرارات ملحّة كانت نائمة في الأدراج منذ سنوات طويلة؟
بالتالي ما الأفضل، في منطق الحزب، هذا الجو الإيجابي الذي يعم لبنان على رغم ضخامة أزماته والحريق الكبير في الجوار السوري، والتقاء الجهود تالياً لتتويج سياسة الانفتاح بانتخاب رئيس جديد؟ أو إكمال درب التحدي، والإصرار عند كل نقطة وفاصلة في الخطاب السياسي على التحدث عن سلاح الحزب الذي يشكل خروجاً على منطق قيام الدولة، وكذلك عن تورط الحزب في الحرب الدائرة في سوريا، تورطاً يهدد أسس العلاقات بين المجموعات اللبنانية ويفتح لبنان على أخطار مستقبلية لا يمكن حصر هولها وتحديد زمنها؟ يترجم التوافق، طبعاً في منطق الحزب ووفق حملة التسويق الجارية على قدم وساق، قيام "تفاهم خماسي" هذه المرة بدل "الرباعي" الشهير عام 2005 بانضمام "التيار الوطني الحر" إلى الأطراف السابقين.
ولكن في غياب قرار واضح وحاسم مرحلياً لدى قوى 14 آذار، يعتمد فريق من هذه القوى أسلوب كسب الوقت في انتظار تبلور صورة الوضع، آخذاً في الاعتبار المواجهة الكبيرة الدائرة بأشكال شتى في المنطقة ككل وحسابات الدول المعنية بها، خصوصاً في ضوء المعلومات عن توافق أميركي – عربي تجلى خلال زيارة الرئيس باراك أوباما السعودية، على إبعاد لبنان عن الأتون السوري، وإن تحقيقاً لمصلحة إسرائيل التي تتوجس من احتمال فتح الجبهتين اللبنانية والسورية معاً في وجهها.
إلا أن فريقاً آخر في "التحالف السيادي" يرفض هذا المنحى. ويذكّر بأن النظام السوري اتبع النهج نفسه على عهدي الأسد الأب والإبن في لبنان، إذ كان يخيّر الأفرقاء اللبنانيين بين العيش في جهنم من الاضطرابات الامنية والسياسية والمعيشية، أو نعيم الهدوء والسكينة بشرط القبول بأن يكون قرار الحرب والسلم وكذلك قرار الدولة في أيد خارج الدولة اللبنانية. في هذا السياق يأتي ترشيح رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع للرئاسة ممثلاً الموقف الصافي لقوى 14 آذار. جعجع الذي دفع غالياً من عمره ثمن خياره رفض التكيف مع الأمر الواقع، يتابع على الخط السياسي نفسه الذي أوصل إلى إخراج الجيش السوري من لبنان عندما التقى الوزن المسلم الكبير مع إرادة غالبية عند المسيحيين لم ترضخ للأمر الواقع السوري.
خرجت سوريا، بقوات نظامها العسكرية من لبنان، لكن إيران حضرت مكانها من خلال "حزب الله" في حسابات أصحاب الرأي الرافض. يرى هؤلاء أن الإصرار على الأهداف مهما بلغت التضحيات لا بد أن يؤدي إلى تحققها ولو بدا الأمر أشبه بمعجزة. من كان يصدق أن جيش الأسد سيخرج من لبنان، وبالصورة التي خرج بها؟