منذ خروجه من السجن، دأب رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع على منح نفسه دوراً «رسالياً». هو «حامي المسيحيين»، هو «باني مؤسساتهم»، هو «مقاوم في وجه حزب الله»... آخر دور يبشّر «الحكيم» بلعبه هو دور «مخلّص لبنان من كل الشرور». لم يقل جعجع هذه العبارة، لكن من استمع إليه أمس يتلو برنامجه للانتخابات الرئاسية، سيضع عنواناً واحداً لخطابه: «أنا هو المخلص، انتخبوني». أعلن رئيس القوات برنامجه، رغم إدراك الجميع أن وصوله إلى قصر بعبدا يكاد يكون مستحيلاً. ربما كان يكفيه التحوّل إلى ناخب جدي لرئيس الجمهورية، وأن كثيرين سجّلوا له أنه من قلة أعلنوا بوضوح ترشحهم للرئاسة، وكتبوا برنامجاً انتخابياً
الأعلام التي زينت جدران مقر القوات اللبنانية في معراب أمس، لبنانية. الأناشيد التي ارتفعت داخل قاعة الاجتماعات الكبرى، وطنية. أصوات زكي ناصيف وماجدة الرومي هي التي علت، لا أصوات منشدي القوات. غابت الدائرة الحمراء، والأرزة الخضراء، والصلبان المشطوبة. فسمير جعجع لم يقف على المنبر بصفته رئيس حزب، بل بصفته مرشحاً لرئاسة الجمهورية اللبنانية يقدّم مشروعه الانتخابي.
إنه الهدف الثاني الذي يسجله جعجع في مرمى حلفائه خلال أسبوعين. فبعد أن سبق رفاقه في قوى الرابع عشر من آذار بأنه كان أول الداخلين إلى نادي مرشحي الرئاسة اللبنانية، ثبت خطوته بإعلانه أمس مشروع «الجمهورية القوية». وقد يتوج خطوتيه بعد أن يتبنى فريقه ترشيحه رسمياً، ليحجز الرئيس أمين الجميّل والوزير بطرس حرب والنائب روبير غانم في مقاعد الاحتياط ست سنوات أخرى. فمصادر القوات أكّدت لـ«الأخبار» أن النائب أحمد فتفت، الذي مثل الرئيس سعد الحريري في معراب أمس، وضع جعجع في صورة الاتصالات مع الحريري، مبلغاً إياه «قرار تيار المستقبل بتبني ترشيحه»، على أن يصدر القرار بعد عطلة عيد الفصح، واجتماع مسيحيي الأمانة العامة لـ«14 آذار». التمهيد لهذا الإعلان كان واضحاً من خلال مشاركة نحو عشرة نواب من «المستقبل» وعدد من قيادييه في حفل إعلان جعجع مشروعه الانتخابي. صحيح أن «حريريّي الصف الأول» غابوا، إلا أن القاعة المعرابية استقبلت ممثلين عن كل من الرئيس سعد الحريري والرئيس فؤاد السنيورة وأحمد الحريري، إضافة إلى قياديين بارزين في التيار ونحو ثلث الكتلة الزرقاء. وكأن المكان هو منزل الشيخ سعد في وادي أبو جميل، والمناسبة لا تخص إلا التيار الأزرق. رجال سعد الحريري كانوا على سجيتهم، يتنقلون داخل القاعة كأنها ملعبهم. أجمعوا على أن «سمير جعجع يمثلنا». كذلك فإنه «الأقوى في فريقنا، لكونه لم يحد يوماً عن مبادئ 14 آذار، ولم يقدم التنازلات»، قبل أن يستدركوا بأن «الرئيس الحريري ليس هو من يقرر، هو أمر يخص الأحزاب المسيحية في فريقنا».
لا يُشبه وقع اسم سمير جعجع على المستمع أي اسم آخر. قاد ميليشيا القوات اللبنانية فارضاً قوته على الحليف والخصم. يفخر القواتيون بمرحلة تسلم جعجع قيادة القوات. ويستندون إلى تجربته في قيادة ميليشيا، ليقولوا إنه قادر على «بناء الدولة»: «أنشأ (خلال الحرب الأهلية) المؤسسات وفرض الأمن والاستقرار في المنطقة الشرقية». هو أيضاً مقتنع بأنه «العون» لهذه الدولة، كأنه الوحيد القادر على انتشالها من رمالها المتحركة. لم يربط جعجع صراحة بين الاستقرار ووجوده هو في موقع الرئاسة، بيد أن كل كلمة في الـ32 بنداً التي تضمنها مشروعه الرئاسي توحي أنه يقدر على القيام «بما لا يجرؤ الآخرون على فعله».
كانوا قرابة الـ500 «شاهد» على «وعد» جعجع في معراب أمس. بينهم 60 صحافياً. من لبنان، وحدها قناة «ام تي في» قررت «مقاطعة جمهورها»، عبر تراجعها في آخر لحظة عن إرسال مراسل لها، أو حتى «نقل الحدث مباشرة، لكوننا رفضنا أن تبتزنا إدارة القناة»، استناداً إلى مصادر معراب. رئيس جهاز التواصل والإعلام في القوات ملحم رياشي، تولى الترحيب بممثل الرئيس نبيه بري النائب ميشال موسى، وممثل الرئيس أمين الجميّل نائبه شاكر عون، «الشيخة» صولانج بشير الجميّل، والحاضرين كافة في «أرض الديموقراطية في معراب»، مقدماً مرشح رئاسة الجمهورية الذي دخل على وقع قسم الجيش اللبناني. على مدى 45 دقيقة، قرأ جعجع مشروعه «الطويل»، عن الـ«برومبتر» (شاشة القراءة). الهدف كان مساعدته «كي لا يضع نظارتيه، رغم أنه عارض وجود الشاشتين»، وقد كان ذلك واضحاً. فجعجع بقي متجهماً معظم الوقت، ضائعاً بين الشاشتين اللتين وضعتا عن يمينه ويساره.
بنود برنامج سمير جعجع الانتخابي تركزت على عناوين عامة جداً: الثوابت الوطنية، اتفاق الطائف، الدولة وحصرية السلاح، القضاء، عقوبة الإعدام، ملف السجون، المؤسسات الأمنية والعسكرية، الاقتصاد والإصلاح السياسي، الشراكة بين القطاعين العام والخاص، الكهرباء والاتصالات، الأسواق المالية، القوانين التجارية، النفط والغاز، السياحة، إنشاء المناطق الحرة وتفعيل المطارات، اللامركزية الإدارية، الصحة، التربية، مكافحة الفساد، ضبط الموارد، المكننة الإدارية، البيئة، التنمية الريفية، الانتشار اللبناني، حقوق المرأة، الربيع العربي، الوضع السوري، القضية الفلسطينية، الشرعيتان العربية والدولية ومزارع شبعا، والدفاع عن لبنان». «إعلان معراب» الذي عملت عليه لجنة سياسية قواتية إضافة إلى لجنة اقتصادية مؤلفة من 5 اختصاصيين قرابة شهر ونصف شهر، لم يحمل جديداً. شعارات 14 آذار التي كررتها منذ عام 2005 هي هي، والحلول التي اقترحها «مثالية» بالنسبة إلى الواقع اللبناني، إلا أن مصادر معراب تُصر على «أن كل بند عمليّ وقابل للتطبيق بشهادة الاختصاصيين». ما كان ينقص الحكيم إلا أن يقول أمس: «أنا هو المخلص، انتخبوني». شارك جعجع في «صياغة أدق تفاصيل المشروع»، مستفسراً عن كل نقطة. أبرز نقطتين تضمنتهما «الجمهورية القوية» هما، أولاً، انتقاد عهد رئيس الجمهورية ميشال سليمان من خلال الهجوم على «الوسطية»، وبالتالي أي مرشح «رمادي» آخر مطروح اسمه كمشروع تسوية. وثانياً، الدعوة إلى إنشاء نظام سياسي جديد في سوريا. فقد أطلق جعجع رصاصة الرحمة على «أنصاف الحلول، أنصاف المواقف، وأنصاف الرؤساء»، على اعتبار أن المرحلة التي نمرّ بها لم تعد تحتمل. جعجع الذي كان من المساهمين في إيصال رئيس «وسطي» إلى قصر بعبدا، يؤمن بأن هذا الشعار «تحول إلى رمادية مميتة». النقطة الثانية التي عبّر بعض نواب المستقبل عن انزعاجهم منها، كانت الدعوة إلى «إرساء نظام سوري جديد يرتكز على الأطر الديموقراطية». أحد النواب الزرق استغرب هذه النقطة، «فما دخلنا نحن لكي نطالب بهذا الأمر؟». يوضح مسؤول قواتي أنه «لا يمكننا أن ندعم الربيع العربي والثورة السورية من دون أن نتناول أشكال الحكم فيها».
وبينما كان سمير جعجع وزوجته النائبة ستريدا يتبادلان أطراف الحديث، ممسكاً أحدهما بيد الآخر، وهما يلتقطان الصور، كانت سيارات قواتية مزينة بالأعلام الحزبية تجوب المناطق مطلقة العنان لأبواقها وأغاني القوات. التبس على الحزبيين الأمر ربما. فجعجع لم يُرقَّ إلى مرتبة الرئاسة بعد. رحلة الألف ميل ما زالت في بدايتها، هذا إن كانت توصل سالكها إلى قصر بعبدا حقاً.