في جلسة مجلس النواب التي عقدت يوم 23 أيار (مايو) الماضي، توقع بعض «المتفائلين» ان يكون الرئيس الجديد للجمهورية صناعة لبنانية خالصة، لكن هذه التجربة فشلت وأسفرت نتائج الانتخاب عن الآتي: نال المرشح الدكتور سمير جعجع 48 صوتاً، والسيد هنري حلو 16 صوتاً مقابل 58 ورقة بيضاء.
وهذا يعني ان اللبنانيين فشلوا مرة جديدة في انتخاب رئيس جديد من صنع محلي، والدليل ان لقب صاحب الفخامة ذهب الى مجموعة الاوراق البيضاء.
ما هي الخطوة التالية؟
حدد رئيس مجلس النواب نبيه بري يوم الاربعاء المقبل لإجراء الدورة الثانية من الانتخابات وفقاً لما نص عليه الدستور. وهذا يعني الافساح في المجال لعقد «صفقة توافق» بين الكتل النيابية التي يتألف منها مجلس النواب.
لكن حتى هذا الامر قد لا يحدث بالضرورة، ليفتح باب التدخلات الاقليمية والدولية كما جرت العادة في معظم الانتخابات السابقة، إلا في مناسبة وحيدة ربما، وكان ذلك في 1970 مع انتخاب الرئيس الراحل سليمان فرنجية بأكثرية صوت واحد، وذهبت مثلاً هذه الانتخابات في تاريخ انتخابات رئيس جديد للجمهورية.
وليس بالأمر الجديد انتظار «إيماءات» الخارج كي يتمكن اعضاء البرلمان اللبناني من انتخاب الرئيس الثالث عشر. وفي هذا المجال يقول السفير البريطاني في بيروت توم فلتشر: «ثمه عادة لبنانية بالاتكال على الخارج، وعادة خارجية بالتدخل في الشؤون اللبنانية. وأتمنى أن تقتنع غالبية البلدان بعدم جدوى التدخل في هذا الاستحقاق. وبرأيي ان الناخب الاكبر يجب ان يكون الشعب اللبناني لأنه سيكون من العار للبنان اختيار رئيسه في غرفة مظلمة من جانب بعض مدخني السيجار».
كلام لافت للسفير البريطاني في بيروت يجب التوقف عنده في سياق إجراء مراجعة نقدية لما شهدته جلسة مجلس النواب الاخيرة.
فأولاً: مرة جديدة يثبت صناع القرار او من تبقى منهم انهم في عجز كامل عن حكم انفسهم بأنفسهم. ولشدة اعتمادهم على بعض «الإرادات» الاقليمية والدولية فقد ادمنوا الفشل في تسيير شؤونهم ذاتياً. فهذه التبعية لـ «الوصاية» الاقليمية او الدولية، او الاثنتين معاً، ادت الى تعطيل ممارسة المبدأ السيادي الذي يتم التغني به ليل نهار.
ثانياً: اكدت الجلسة الاولى مدى عمق الشرخ القائم بين «الفصائل اللبنانية» على اختلافها في طول البلاد وعرضها من وطن الـ10452 كيلومتراً مربعاً. وهذا ما يؤكد بدوره من جديد عدم تمكن اي فريق بمفرده من حكم البلاد والعباد. وفي ظل التباعد القائم بين مختلف ألوان الطيف اللبناني، تنشأ دعوة واضحة وصريحة لاستدعاء «الخارج» والعمل على فض النزاعات القائمة بين اللبنانيين، وحالة اللوم في هذه الحال لا تذهب الى اي طرف خارجي يتولى الوصاية، ويفرض ارادته على اللبنانيين، بل الى كل الفصائل مهما تقلبت الأحوال وتبدلت الظروف والمعطيات.
ثالثاً: حيال حالة التمزق الوطني القائمة داخلياً يبدو ان المخرج الوحيد هو البحث عن صيغة توافقية جديدة يمكن ان تتوافر في شخص آخر مؤهل لقيادة الجمهورية في هذا الظرف العصيب والدقيق. والسؤال يبقى: اين وكيف يمكن العثور على «شخصية توافقية» يجتمع حولها مختلف اضداد السياسة في لبنان؟
وغرق الوطن من جديد في مجموعة من المفردات والتوصيفات الخاصة بالرئيس العتيد. ودخل فقهاء وجهابذة السياسة المحلية اللبنانية في متاهة التعريفات والخصائص كالقول مثلاً: ان الشخصية «التوافقية» غير الشخصية «الوفاقية»! والفارق؟ يقولون: ان صفة «التوافقية» تنطبق على ما يتم التوصل اليه من تسويات تجعله مقبولاً من اكبر قدر ممكن من اللبنانيين. وماذا عن «الشخصية الوفاقية»؟ يأتيك الجواب: هو من يستطيع ان يجمع حوله كل اللبنانيين او الغالبية الكبيرة منهم.
لكن: اين وكيف يمكن العثور على مثل هذا «الشخص»؟
على كوكب الارض اليابسة، او في أعماق البحار والمحيطات؟
كان واضحاً منذ البداية ان الجلسة الاولى لن تنجح في انتاج الرئيس الجديد نظراً الى حالة التعثر القائمة، وأنها كانت «بروفه» لتوزيع قوى المجلس النيابي، وليطرح السؤال الآتي: ما الذي يمكن ان يحدث بعد كل ما جرى؟
من المنتظر ان ينشط الحراك السياسي في كل الاتجاهات في الداخل والاقليم والخارج الابعد، وهنا يأتي دور «الكولسة» الاقليمية والصفقات بين الداخل والداخل وبين الخارج والخارج. لقد قضى التوجه العام الخارجي بإشاعة نوع من الهدوء على جهة لبنان الذي لم يعد يشكل حالياً على الاقل تلك الاولوية البارزة بالنسبة الى الكبار الاوصياء تقليدياً على ساحات النفوذ والهيمنة في لبنان.
وفي استعراض سريع للسياق التاريخي منذ الاستقلال الاول في 1943، نلاحظ الآتي:
ان ثورة 1958 التي قامت ضد الرئيس كميل شمعون ادت الى بروز «التحالف» مع التيار الناصري الجارف في تلك الفترة وأوصلت قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب الى سدة الرئاسة. بعد ذلك دخل الوطن في دوامة الحروب الاهلية ما بين 1975 و1990 ولم تنته الازمة إلا بـ «اتفاق الطائف» وما اعقبه من سجالات لا تزال قائمة، وهي تدور حول مدى تمكن «اتفاق الطائف» من التوصل الى حلول جذرية للمعضلة اللبنانية، ليتضح في ما بعد ان الاولوية الاولى والمطلقة للطائف هي وقف اطلاق النار! والبحث عن السلام الجديد والمفقود للوطن الصغير.
ثم تعاقبت الاحداث وتوالت، لتصل الى تاريخ 7 ايار (مايو) 2006، فامتزج سلاح «حزب الله» بالاسلحة الاخرى التي تضيق بها الساحات والزواريب اللبنانية الضيقة، وأنتج هذا التطور «اتفاق الدوحة» الذي أفضى بالتفاهم إلى «الرئيس التوافقي العماد ميشال سليمان».
والتساؤل العفوي والتلقائي: اي تطور يمكن ان يحدث لإخراج لبنان مما هو فيه وعليه، والعمل على العثور على جواب عن هذا التساؤل، سيتحكم بمفاصل الحياة الوطنية والسياسية سعياً نحو مخرج ينقذ ماء بعض الوجوه؟
هذا السؤال مع مجموعة اخرى من الاسئلة سيلازم الحياة السياسية العامة للأسابيع والشهور المقبلة. لكن ما من طرف يستطيع ان يقدم الضمانة لعدم خروج الوضع اللبناني بكامله عن السكة التي يسلكها... وحدوث مفاجآت على اختلافها قد يفقد السيطرة العامة على الوطن؟
بانتظار «بلورة ما» للوضع اللبناني المأزوم، ما هي العوامل والعناصر المتداخلة معه؟
«الاقربون اولى بالمعروف»: سورية. وذلك عملاً بمقولة: اننا نعايش زمن اللامعقول عندما يصبح معقولاً.
فهل كان في تصور احد مهما بلغ من الخيال ان سورية، وبعد ما يقرب من اربع سنوات من حرب طاحنة ومدمرة، تشهد إجراء انتخابات رئاسية، وأن يكون طليعة المرشحين الدكتور بشار الأسد، وأن يتقدم مرشح آخر من المنتمين الى معارضة الداخل الى الانتخابات التي حدد موعدها يوم 4 حزيران (يونيو) المقبل. ومن مفارقات هذه المرحلة ان عيون اللبنانيين، او بعضهم على الاقل، موزعة بين رئاستي الجمهورية اللبنانية والجمهورية العربية السورية!
بل أبعد من ذلك: يذهب البعض في الداخل اللبناني وفي خارجه الى القول بأن انتخاب الرئيس العتيد في لبنان قد أُرجئ بانتظار «تطورات ما» في المنطقة، ومنها انتظار الانتخابات الرئاسية في سورية وما قد تحمل من مفاجآت بعضها في الحسبان والآخر بغير الحسبان.
وإذا كان صحيحاً ان «الوصاية السورية على لبنان» والتي تواصلت على مدى ثلاثة عقود ويزيد، لم تفقد «دورها» ولا «شرعيتها» في شكل نهائي، يبقى ان «الناخب السوري» ما زال عاملاً في الشأن اللبناني بمعزل عن عواطف معينة من هنا وهناك، وبالتركيز على التحليل الموضوعي قدر المستطاع.
واذا كانت اعادة انتخاب بشار الاسد «مضمونة» في صفوف مؤيديه، فقد تحدثت مصادر متابعة عن قرب وعن عمق للملف السوري عن وجود بعد آخر لهذه الخطوة. وتذهب المعلومات الى حد الخروج بالاستنتاج الآتي:
ان تجديد رئاسة بشار الأسد لسورية، وفي هذا الوقت بالذات، انما يؤشر الى الخطوات الاولى في مسيرة «تقسيم سورية»!
وهذا التحليل يتقاطع مع الفصول الاخرى من المشهدية السورية والقائلة: ان عدد السوريين الباقين في الداخل والذين لم ينزحوا الى دول الجوار وفي الطليعة لبنان، يشكلون التمثيل العادل والمنصف لآراء الشعب السوري وتوجهاته. لذلك فتكريس الاسد في «ولاية جديدة» انما يختلف هذه المرة عن كل سابقاته. ذلك ان استمرار الحرب اليومية في مختلف المدن والمحافظات السورية، وتواصل عمليات الكر والفر بين نظام صمد لكنه لم يتمكن من انتزاع سيطرته على كامل التراب السوري، ومعارضة، بل معارضات فشلت في توحيد صفوفها ومواقفها، يعنيان ان الوضع كما عليه يبدو مرشحاً لأجل غير محدد. واذا لم يتمكن بشار الاسد من حكم سورية كما كان عليه الوضع فهو «لا يمانع» في الانكفاء الى «جيب» محدد في الجغرافيا والطوائف والمذاهب.
والحديث عن احتمالات تقسيم سورية ليس من قبيل التمنيات بل هو نتاج النظرة العملية لمسار الامور، وعمليات الفرز التي ادت اليها المعارك الطاحنة في مختلف انحاء سورية. وفي العادة، فإن خطط تقسيم المنطقة، كما غيرها في أرجاء العالم المترامي الاطراف، لن تصدر بمراسيم او بقرارات، بل ان تكريس الامر الواقع على الارض هو الذي سيتحكم بهوية المرحلة الآتية على سورية وعلى لبنان، وعلى دول المنطقة بأسرها.
وثمة معلومة في السياق نفسه:
في آخر اجتماع عقد بين الرئيس بشار الأسد ووزير خارجية تركيا احمد داود اوغلو واستمر لست ساعات، قال اوغلو: ان الرئيس رجب طيب اردوغان طلب مني ابلاغكم بأن تركيا لا تريد رؤية سورية تقسم على اياديكم.
رد الأسد قائلاً: بلّغ رئيس وزرائك ان التقسيم عندما سيقع لن يقتصر على سورية فحسب، بل ان تركيا ستكون في طليعة الدول المهددة بالتقسيم.
بدأنا بلبنان وبانتخاب الرئاسة فيه وننتهي به، لنلاحظ ان الوضع سيشهد الكثير من التحركات واللقاءات على غير صعيد، وفي اكثر من مكان، املاً بالتوصل الى «توافق» على شخصية الرئيس القادم للجمهورية.
لكن الكثير من المؤشرات يؤكد ان انتخاب الرئيس الثالث عشر لن يكون سهلاً ولا وشيكاً، وأن «الرئاسة في لبنان» وضعت الآن في الثلاجة، بانتظار ان يقضي الله امراً كان مفعولاً.