مضى وقت طويل والعالم تحكمه الادارة الاميركية بشكل أحادي، حيث كانت تحدد خطوطه الحمراء، وتقيم الانظمة فيه، الا أنه وعلى اعتبار أنّ "السياسة كانت على الدوام هي علم الاحتمالات"، فلم يكن من المتوقع عودة القطب الروسي ليواجه السيد "الاميركي" من جديد وخصوصا بعد ان كان قد انتهى هذا المشهد مع انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991.
فحقبة الخطوط الحمراء التي اعتاد الاميركي وضعها دائما على مستوى العالم في مختلف المجالات، انتهت مع استيقاظ "الدب الروسي" من سبات دام لعقدين ونيف مع بروز الازمة السورية التي شهدت أول خلاف اميركي روسي حاد، بعد خسارة الأخير للورقة الليبية. وبما أنّ هذه الأزمة بدأت تلوح فيها بوادر تسوية لمصلحة الحلف الروسي-السوري الذي بدأ يفرض واقعا جديدا في الميدان، فقد قرر الاميركي تحريك أوراق جديدة يخضع من خلالها القطب الروسي.
وانطلاقا من النظرية أنّ السياسة هي علم الاحتمالات، فقد استطاعت الولايات المتحدة الأميركية ان تشغل روسيا، بنقل الصراع بينهما الى الحدود الروسية وتحديدًا إلى أوكرانيا، التي يعتبرها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضمن امن بلده القومي لما لها من ابعاد استراتيجية. وبالتالي فان الادارة الاميركية التي دعمت "الثوار" الذين اطاحوا بالرئيس الاوكراني فيكتور يانوكوفيتش الحليف الاستراتيجي لروسيا، لم تتوقع ان تبادر الاخيرة الى ضم منطقة القرم الى الاتحاد الروسي مع انطلاقة الاحداث باوكرانيا، مما شكل انقلابا على المحاولة الاميركية السيطرة على المنفذ الروسي الى البحر الاسود، وما استتبعته روسيا بخطوة استباقية تمثل بمطالبة سكان المناطق الشرقية لاوكرانيا والناطقين باللغة الروسية الى الانفصال عن السلطات الجديدة في كييف.
وبعد تسارع الاحداث الاوكرانية، بدأت ادارة الرئيس الاميركي باراك اوباما بفرض عقوبات على شخصيات روسية وشجعت الدول الاوروبية على القيام بالمثل في محاولة منهم للضغط على روسيا وكنوع من التغيير في الاستراتيجية المعتمدة باوكرانيا، وما استتبعه من محاولة لضبط الشارع، وانهاء حالة ما سمّتهم "بالانفصاليين الموالين لروسيا" من خلال حث السلطات الجديدة في كييف على استخدام القوة المفرطة لضبط الوضع باسرع وقت ممكن. فإعتبرت روسيا ان من واجبها وحقها ان تدافع عن مواطنيها الذين يتحدثون اللغة روسيا، بكل الوسائل المتاحة، وانطلاقا من هذه المتغيرات، فان موسكو بعثت برسائل للمجتمع الدولي على انها قد تستخدم القوة العسكرية على غرار ما حصل في جورجيا في العام 2008. وبما أنّ الأميركي الذي ما زال يتصرف على انه القطب الوحيد في العالم قد اغفل عمدا او عن سوء تقدير حجم الدور الروسي وقدرته على مقارعة اميركا والاتحاد الاوروبي وليّ ذراعه في المناطق التي تعتبر ضمن نفوذه.
وجاء استخدام الجيش الاوكراني للقوة العسكرية في سلافيانسك الأوكرانية في وجه المطالبين بالانفصال، ضربة قاسمة للجهود السياسية الروسية بانهاء هذه الازمة عبر القنوات الدبلوماسية، ولم يترك امام بوتين سوى الخيار العسكري في ظل التعنت الاميركي باعطاء السلطات الاوكرانية الحق باستخدام القوة في سبيل الحفاظ على "وحدة اوكرانيا".
اما على صعيد العلاقات الاوروبية-الروسية، وما شهدته من توتر، فقد كان لافتا تصريح الرئيس الروسي الذي اكد فيه أن "العقوبات على بلاده ستؤثر على شركات الطاقة الغربية"، مما سيؤدي الى ازمة مستقبلية على مستوى تصدير الغاز الى اوروبا، بانتظار ما سينتج عن المفاوضات العلنية مع المانيا والسرية مع غيرها من الدول الاوروبية التي سيتأثر اقتصادها سلبًا، في طل تدهور الحالة الاقتصادية في هذه البلاد.
وبالتالي فان محاولة القطب الاميركي اشغال روسيا عند حدودها، تهدف لكسب نقاط تفاوضية جديدة للاستفادة منها في منطقة صراع اخرى، باءت بالفشل عند إقدام الروسي على تفويض الايراني ملف الشرق الاوسط الذي يتصف "بالسخونة"، حتى لا يضطر تحت اي ظرف ان يتنازل عن اي مكسب له في المنطقة، في حين ان بوتين سيركز على حصد اكبر عدد من الملفات انطلاقا من الازمة الاوكرانية التي جعلت منه زعيما ثابتا في مواقفه، في ظل اهتزاز القرار الاميركي في السنوات الاخيرة.
اذا هي مسألة خطوط حمراء سيحددها قطبا النزاع، ولكن هذه المرة الحرب الاميركية-الروسية لن تكون كسابقاتها باردة، ولكن في نفس الوقت لن تكون مباشرة، والرابح فيها سيكون المبادر والحاسم في تدخله المباشر في اوكرانيا تحديدا، والتي ستؤدي الى بروز قوى عالمية فاعلة وما يستتبعه من تغيير في الخارطة العالمية ونشوء اصطفافات جديدة حول قطبين فاعلين، تلغي اي احادية في القرار العالمي.