لا يؤمن الكيان الإسرائيلي بأن القدس فلسطينية. هذه الارض، بمفهوم الصهاينة، هي عاصمتهم. يُمنّي الإسرائيلي مفاوضيه بضواحٍ شرقية للمدينة المقدسة. وزيارة هذه الأرض المحتلة لا يمكن أن تتم من دون الانصياع لقرار سلطات الاحتلال التي لها الحق في أن تمنع وتسمح لأي كان بدخولها. كذلك يمكنها أن تستغل زيارة أي كان لتسويق التطبيع، خصوصاً إذا كان الزائر عربياً، فكيف إذا كان رأس كنيسة أنطاكيا وسائر المشرق؟
بابا الأقباط الراحل، شنودة الثالث، رفض أن يمر عبر الإسرائيليين لزيارة «الاراضي المقدسة»، مانعاً أيّ قبطي من الذهاب الى القدس ما دامت محتلة. كذلك فعل كل بطريرك لبناني منذ عام 1948، على رغم وجود أبرشية ومطران على رأسها يهتم بالرعية وأبنائها. الكاردينال بشارة الراعي سيكسر هذه المحرمات هذا الشهر، متذرّعاً بمواكبة البابا فرنسيس في رحلته الى المنطقة. قسم هذا القرار الرأي العام اللبناني بين مدافع عن وطنية الراعي، ومعارض للزيارة التي تأتي مخالفة للدستور اللبناني الذي يخضع له الراعي لكونه مواطناً لبنانياً قبل أن يتحول الى رجل دين ويصبح فوق أي «كتاب».
لا يزال القسم الأكبر من الأحزاب يتحفظ على إعطاء رأيه في الزيارة، وخاصة حزب الله. بيد أن مصادر بكركي قالت لـ«الأخبار» إن تواصلاً «غير مباشر» حصل بين الطرفين، «وقد تمنّى خلاله الحزب على البطريرك عدم زيارة الاراضي المقدسة». وبحسب المصادر، فإن رسالة الحزب، «الذي لا يريد إثارة ضجيج إعلامي حول القضية، بسبب عدم رغبته في خلق إشكال مع الراعي، وصلت إلى الفاتيكان». والنتيجة؟ تجيب المصادر أن الفاتيكان سيطلب من الراعي أن تقتصر مرافقة الراعي للبابا على الأردن، «حفاظاً على الخصوصية اللبنانية». لكن مصادر قريبة من حزب الله تنفي جملة وتفصيلاً أن يكون الحزب قد بعث برسالة إلى الراعي، «لا مباشرة ولا بشكل غير مباشر. وفي حال وصلت رسالة كهذه إلى الراعي عبر أحد الأصدقاء، فليس للحزب أي صلة أو علم بها». وتؤكد المصادر أن الحزب لم يتخذ بعد قراراً بكيفية التعامل الإعلامي مع القضية.
لكن الزيارة لا تزال، رسمياً، قائمة. وبناءً على ذلك، سيصدر «اللقاء المسيحي» موقفاً معارضاً لها، بعد أن تنادى أعضاؤه الى اجتماع سريع يصدر عنه بيان «يعبّر فيه عن وجهة نظر مسيحيي لبنان والشرق من توقيت هذه الزيارة ومدلولاتها في هذا الزمن حيث تتعثر مبادرات السلام»، استناداً الى أحد أعضاء اللقاء. يستند المصدر الى مواقف البطاركة الذين رفضوا المرور عبر سلطات الاحتلال، ويعترض على توجيه أي تهمة إلى البطريرك: «هو فقط يريد أن يلعب دوراً محورياً يتجاوز فيه حدود لبنان، ولكن هذا لا يبرر الزيارة». لا يجوز، بحسب المصدر، المقارنة بين الراعي وأي دولة عربية أخرى أو «رؤساء طوائف» أرسوا «شبه علاقة» جيدة مع الكيان المحتل، ولا «التذرع بوجود أبرشية مارونية في القدس، إذ لم يكن أحد يسمع بالمطران بولس صياح. الاعتناء بالرعية لم يكن بضجة إعلامية على العكس من زيارة الراعي».
ردّ فعل مطارنة بكركي أن الزيارة رعوية ولن تتخللها لقاءات سياسية، «غير مبرر. فماذا يعني للمسيحيين أن يذهب بطريركهم الى الارض التي تعتبرها إسرائيل عاصمتها؟». «الفائدة من الزيارة صفر»، يقول المصدر. ولكن الحديث هنا «من باب التحليل وليس التخوين».
يصعب، حتى اليوم، العثور على «سياسي مسيحي» يعترض صراحة على الزيارة. معظم سياسيي 14 آذار يدافعون عن نية البطريرك زيارة القدس. على الضفة الأخرى، يسود الصمت. وحده الرئيس السابق لحزب الكتائب كريم بقرادوني يتمنى على الراعي إعادة النظر في موضوع زيارته، «لأنه سيكون محرجاً جداً خلال هذه الزيارة». ورأى بقرادوني أن هذه الخطوة مغامرة وليست زيارة، معرباً عن اعتقاده بأن الراعي قد يعدل عن قراره بعد عودته إلى لبنان. وأشار إلى أنها «لن تفيد الرعايا المسيحيين هناك، في حين أن هناك مخاطر كثيرة، وهي قد تتحول إلى 17 أيار جديد. لدينا ما يكفي من مشاكل ونحن في غنى عن هذا الموضوع».
في المقابل، يدافع النائب السابق لرئيس مجلس النواب، إيلي الفرزلي، عن الزيارة، «على طريقته». يقول إنه حالياً «متريث». يغوص في التاريخ قبل أن يصل الى خلاصة أن القصة لا يجب أن تكون «من منظار بطريرك لبناني يزور الاراضي المقدسة. هناك مؤامرة كبيرة تستهدف الوجود المسيحي سببها إسرائيل التي برهنت التجارب على أنها بدأت في فلسطين منذ عام 1948». للإسرائيليين أهداف ثلاثة من وراء هذا الاستهداف، بحسب تحليل الفرزلي؛ أولاً «ضرب المسيحيين والإيحاء أن المسلمين هم السبب، وبالتالي إحياء فكرة الإسلاموفوبيا». الهدف الثاني هو «تفريغ المنطقة التي شهدت على ولادة المسيح لتصبح المنطقة بلا روح». هنا يأتي الهدف الثالث وهو «القضاء على الكنيسة المشرقية لتطرح إسرائيل معادلة مكة للمسلمين، الفاتيكان للمسيحيين والقدس لليهود»، الأمر الذي يدفع الفاتيكان الى طلب «غطاء مشرقي، وهو الكنيسة المارونية اللبنانية». لم تقرر الفاتيكان الزيارة من دون غاية، «فهي تعمل بناءً على استراتيجية بعيدة المدى، لذلك يجب عدم حصر القصة في الإطار الضيق».