منذ تشكيل الحكومة اللبنانية برئاسة تمام سلام ويسود ما يشبه الاتفاق على أن هذه الحكومة هي حكومة تنفيذ الخطة الأمنية وإدارة مرحلة الفراغ الذي سيحصل في سدة الرئاسة الأولى، ولهذا فإن النقطة الوحيدة المتفق عليها قد جرى ترجمة تنفيذها سريعاً وهي الخطة الأمنية حيث تم توفير الغطاء الكامل للقوى العسكرية والأمنية مما مكنها من تحقيق، وبسرعة قياسية، انجازات هامة تمثلت في انهاء مظاهر العنف والفلتان المسلح ووضع حد لتحول لبنان الى ساحة لتنظيمات القاعدة وسيارات الموت التي كانت تفخخها وتفجرها في المناطق اللبنانية وصولاً الى اعتقال عشرات المطلوبين الخطرين الذين كانوا يتولون عمليات اعداد هذه السيارات والانتحاريين.
ورغم أن هذا الانجاز الأمني قد أمن نوعاً من الاستقرار النسبي وأعاد ضخ الدماء في الحياة السياسية ومؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية التي كانت معطلة، إلا أن هذا الوضع لم يشمل التوافق على ايجاد حلول حقيقية للاستحقاقات الأخرى التي تواجه البلاد وفي مقدمها استحقاق انتخاب رئيس جديد للبلاد ضمن المهلة الدستورية التي تنتهي في25 أيار الجاري، واستحقاق ايجاد الحلول للأزمة الاقتصادية الاجتماعية المتفاقمة والتي لم يعد بالإمكان إدارة الظهر لها ومطلوب كخطوة أولى اقرار سلسلة الرتب والرواتب المستحقة للاساتذة والمعلمين وموظفي القطاع العام.
لهذا فإن الحراك السياسي بشأن الاستحقاق الرئاسي، والذي دخل على خطه السفير الأميركي ديفيد هيل، لا يبشر بإمكان التوصّل إلى توافق على اسم الرئيس، وأنّ البلاد تسير في اتجاه فراغ في موقع الرئاسة الأولى لفترة زمنية لا يمكن تحديدها، وذلك بسبب العوامل التالية:
العامل الأول: إن البلاد تعيش أزمة عميقة وهذه الأزمة بدأت منذ عام 2005 وهي مستمرة وتتركز حول خيارات لبنان السياسية والوطنية والاقتصادية والاجتماعية وتحتاج الى حلول جذرية لأن التسويات الترقيعية لم تعد ممكنة.
العامل الثاني: ان الطرفين الأساسيين 8 آذار و14 آذار لا يملك أي واحد منهما تأمين النصاب القانوني لانتخاب الرئيس الجديد.
العامل الثالث: ليس بالإمكان التوافق على رئيس تسووي بعد أن أعلن التيار الوطني الحر بقيادة الجنرال ميشال عون رفضه هذا الخيار واصراره على أن يكون الرئيس وفاقياً يملك تمثيلاً مسيحياً قوياً، ومثل هذه المواصفات لا تنطبق اليوم إلا على الجنرال عون الذي يملك أكبر تكتل نيابي مسيحي ويحظى بأكبر نسبة تأييد في استطلاعات الرأي.
العامل الرابع: ان قوى 8 آذار تؤيد الخيار الذي يسلكه عون في حين أن محاولات الأخير كسب تأييد تيار المستقبل في سياق توليفة تقود الى اتفاق على انتخابه رئيسا مقابل مجيء النائب سعد الحريري رئيسا للحكومة، يبدو احتمالاً ضعيفاً لأنه مرتبط بموافقة أميركية سعودية وهو أمر يبدو مستبعداً لكون عون يملك خطاً استقلالياً ويؤيد خيار المقاومة وليس في وارد تغيير موقفه.
العامل الخامس: وجود قناعة بان انتخاب الرئيس بات مرتبطاً بجملة التطورات الإقليمية والدولية وما ترسو عليه من معادلات جديدة لها انعكاساتها المباشرة على لبنان والاستحقاق الرئاسي فيه، حيث يرقب لبنان نتائج أربعة استحقاقات مهمة في المنطقة والعالم هي:
1ـ الانتخابات العراقية وما رشحت عنه وكيفية اعادة تشكيل السلطة السياسية.
2ـ الانتخابات الرئاسية المصرية والتي ينتظر أن تشكل الخطوة الأولى في طريق تشكيل مؤسسات الحكم الجديد بعد ثورة 30 والسياسات التي ستعتمدها داخليا وخارجيا والتي تشكل موضع اهتمام الدول الكبرى لاسيما الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية الى جانب دول المنطقة.
3ـ انتخابات الرئاسة السورية وما ستقود اليه من تداعيات على الصعيدين السياسي والميداني.
4ـ الأزمة الأوكرانية المتصاعدة والكيفية التي ستنتهي اليها. هل يتكرر السيناريو الروسي في جورجيا أم تحصل تسوية على اساس ما تطرحه موسكو من اعتماد للنظام الفدرالي.
لم يكن من الممكن أن يكون للعامل الخارجي كل هذا التأثير لولا وجود اطراف داخلية تستجلب التدخل الخارجي في شؤون لبنان وتعمل على الاستقواء به على خصومها في الداخل.
وهذا الواقع يعكس عمق الأزمة التي دخل فيها لبنان منذ عام 2005، أي بعد صدور القرار1559، واغتيال الرئيس رفيق الحريري، وما أدى إليه من تفجير للصراع على خيارات لبنان السياسية والوطنية، واضعاً نهاية لمرحلة ما بعد الطائف الذي شكّل الصيغة السياسية التسووية لإنهاء الحرب الأهلية التي دامت خمسة عشر عاماً.
غير أنه حتى ولو نضجت الظروف الدولية والإقليمية فانه من الصعب انتخاب رئيس جديد من دون احداث تغييرات في بنية النظام اللبناني وسياساته على غرار ما حصل بعد أزمة سنة 1958 وتمثلت بالاصلاحات الشهابية، وكذلك على غرار ما حصل بعد الحرب الأهلية التي نشبت سنة 1975 وانتهت باتفاق الطائف الذي ادخل اصلاحات في بنية النظام لكنها لم تطبق وجرى الالتفاف عليها مما أسس لانفجار الأزمة من جديد.
هذه التغييرات ستكون بالتأكيد حاصل موازين القوى الداخلية والخارجية انطلاقا من الترابط الحاصل بينهما سلباً أو إيجاباً.
ليس هناك من امكانية للخروج من الأزمة من دون انجاز اصلاحات سياسية يأتي في مقدمها تكريس خيار المقاومة وعروبة لبنان واعتماد قانون جديد للانتخابات على اساس النسبية يكسر احتكار التمثيل النيابي من قبل الزعامات الطائفية وأصحاب الثروات، وتالياً فإن الرئيس الجديد للجمهورية يجب أن يكون رئيساً إصلاحياً يؤمن بان قوة لبنان في مقاومته وليس في ضعفه، ويتبنى سياسة اقتصادية اجتماعية تقوم على تحقيق التنمية والعدالة وحماية المال العام والحرص على استخراج النفط والغاز وتوظيف عائداتهما في هذا الاتجاه وتخليص لبنان من عبء الدين وفوائده المرهقة للاقتصاد والمجتمع على حد سواء.
ولهذا فان بلوغ ذلك سيكون ممره عقد مؤتمر تأسيسي جديد على غرار الطائف لإعادة النظر في النظام الطائفي بدءاً بالقانون الانتخابي وإدخال الإصلاحات المطلوبة فيه للخروج من الأزمة المفتوحة.والحيلولة دون عودة انفجارها في المستقبل.