كان من «فضائل» المحكمة الدولية (الخاصة باغتيال رفيق الحريري) على لبنان، أن كرّست مبدأ عدم احترام خصوصية المواطنين، لتدخل البلاد من بعدها، أمنياً وسياسياً، في جدال عقيم اسمه «داتا الاتصالات». أيها اللبنانيون، أنتم اليوم مستباحون من أجهزتكم الأمنية، ليس لديكم الحق بصون خصوصياتكم... خلافاً للدستور والقانون والنظام العام.
قبل سنوات، عندما كان شربل نحّاس وزيراً للاتصالات، زاره وفد من «المحكمة الخاصة بلبنان» (الخاصة باغتيال رفيق الحريري). ما المطلوب؟ سألهم، فأجابوه: «نريد داتا الاتصالات كاملة... لكل اللبنانيين». كيف! استغرب نحّاس. ما علاقة كل اللبنانيين بالأمر! قرر الوفد، الذي يضم ضابطاً وقاضياً، أحدهما إيطالي والآخر بريطاني، أن «يهوّن» من وقع الصدمة على الوزير: «نحن نحصل على الداتا هذه باستمرار، والوزير الذي كان قبلك لم يكن يمانع، وبالتالي نريد أن نتابع ما بدأناه سابقاً».
بغض النظر عمّا كانوا يفعلونه، سابقاً، سألهم نحّاس بتجرّد: «لكن هل أنت، في بلدك إيطاليا، وأنت أيضاً، في بلدك بريطانيا، هل تسمحون بإعطاء داتا اتصالات مواطنيكم هكذا، لأي جهة كانت، حتى بين بعضكم البعض؟». عضوا الوفد كانا صريحين، فأجاباه: «كلا، نحن لا نفعل، لكن أنتم تفعلون، وقد حصلنا على طلبنا هنا سابقاً، ولهذا نحن نطالب الآن». إجابة مستفزة حد الجُرح لأي مواطن فيه شيء من «الوطنية». يروي نحّاس هذه التجربة لـ«الأخبار» في معرض حسرته على ما يُسمّى «سيادة وطنية». يقول: «قلت لهم اطلبوا الداتا لعدد من الأرقام/ الأشخاص، في منطقة معينة، حيث الشبهة أو الجريمة، ولكن أن أعطيكم كامل الداتا، لكل اللبنانيين، في كل المناطق بلا استثناء، فهذا ليس ممكناً عندي. إن كنتم لا تريدوننا أن نعرف الأسماء المطلوبة من قبلكم، حسناً أفهم هذا، لكن عندها اطلبوا مثلاً داتا لـ 100 اسم ومرروا بينهم أسماء 5 أو 10 من الذين تشتبهون فيهم. هذا نتفق عليه». يعود نحّاس بالذاكرة سنوات، ويتذكر «الإنزال العسكري» لفرع المعلومات، بأمر من اللواء (آنذاك) أشرف ريفي، على وزارة الاتصالات. لا يستطيع إلا أن يربط هذا بذاك.
بعد اجتماعه مع الوفد، لم يتلق نحّاس أي طلب مماثل من المحكمة الدولية، بشكل رسمي. يومها حاول الحصول من أرشيف الوزارة على سجل ما طلبته المحكمة سابقاً، وما حصلت عليه تحديداً، قبل أن يصبح هو وزيراً، فكانت المفاجأة: لا يوجد سجل! في الواقع، كانت المحكمة تحصل على «كل شيء، بالحرف، كل شيء بلا استثناء». فظيع أن لا تملك دولة، عبر وزارتها، سجلاً تدون فيه ما أعطت من «داتا» وغير ذلك. دولة شرّعت كامل خصوصيات مواطنيها لـ»الأجانب»، ووحده الله يعلم ما أخذت تلك المحكمة من معلومات، ثم إلى أين أوصلتها، قبل الحديث عن كيف استفيد منها.
بالتأكيد، لم يكن يحتاج لبنان، كسلطات، إلى محكمة دولية حتى يُحكى عن «فشله» أو «تخلفه». لكن هذه المحكمة جاءت لتسنّ «سنّة سيئة» إضافية. يمكن القول إنها، في موضوع «داتا الاتصالات» تحديداً، عززت ثقافة عدم احترام الخصوصية لدى العاملين في الأجهزة الأمنية اللبنانية. فبعدما أنهت المحكمة عملها، مرحلياً، بما يتعلق بالتحقيقات الجنائية والبحث عن الأدلة، برزت أزمة داخلية _ داخلية في لبنان حملت عنوان «داتا الاتصالات». غالباً ما كان فريق 14 آذار يطالب بمنح الداتا كاملة للأجهزة الأمنية، وتحديداً لفرع المعلومات، الذي كان رافعة ذاك الفريق السياسي. كانت الحجّة باستمرار هي: «توقيف مسلسل عمليات الاغتيال السياسي». فريق 8 آذار كان يعترض، باستمرار، على إباحة كل الداتا للأجهزة الأمنية، بحجة احترام «خصوصية المواطنين». لكن هذا الاعتراض لم يكن يسفر دائماً عن إقرار الحجب. كان الأمن ينجح، باستمرار، في خرق الخصوصية. في إحدى جلسات مجلس الوزراء، قبل نحو عامين، برئاسة نجيب ميقاتي، حصل شجار وارتفعت الأصوات بين وزراء الفريقين على خلفية «الداتا». وزير الاتصالات السابق نقولا صحناوي قال إنه وقّع طلبات تسليم «داتا محددة» وليس «كل الداتا». ردّ عليه ميقاتي: «ليست شغلتك أن تناقش في هذا الموضوع. عليك أن توقّع ما أرسله إليك، وقرار مجلس الوزراء واضح بتفويض رئيس الحكومة». في الواقع، ثمّة قانون، يمكن وصفه بالضبابي وحمّال الأوجه، على غرار الكثير من القوانين اللبنانية، يتيح لميقاتي أن يقول ما قاله. إنه القانون 99/140 «الرامي إلى صون الحق بسرية المخابرات التي تجرى بواسطة أي وسيلة من وسائل الاتصال». لم يكن الخلاف الحاصل، في تلك الجلسة، سوى واحد من خلافات عدّة شهدتها أكثر من حكومة، خلال السنوات الماضية، وما زال هذا المسلسل يتكرر حتى يومنا هذا، في ظل «عدم الثقة» التي ما زالت تحكم القوى السياسية المختلفة، ولا تُستثنى الأجهزة الأمنية المختلفة من عامل «عدم الثقة» هذا أيضاً، على حد وصف مصدر مسؤول معني مباشرة بهذا الملف.
ما القرار الآن؟
نهاية شهر آذار الماضي، حصلت «سابقة» في مسألة «داتا الاتصالات». ربما هي المرّة الوحيدة، التي يقرّ فيها تسليم كامل «الداتا» (حركة الاتصالات في كل لبنان) للأجهزة الأمنية، من دون أن يترافق ذلك مع ضجيج سياسي وإعلامي وتراشق تهم. إذاً، الصمت هو الحدث. ما الحكاية؟ باختصار، وبحسب مصادر نيابية معنية بالقضية، قرر وزير الاتصالات الجديد بطرس حرب إعطاء «الداتا» كاملة للأجهزة الأمنية، على خلاف ما كان يحصل في الحكومة السابقة. القاعدة التي كان يُعمل بها، قبل حرب، هي إعطاء حركة الاتصالات المحددة بمنطقة الحدث الأمني، مثل انفجار أو اشتباك أو اشتباه بمطلوبين في مكان محدد، أما اليوم، فكل داتا الاتصالات مباحة. هكذا، أيها اللبنانيون، لا خصوصية لاتصالاتكم اليوم، كل اتصالاتكم بيد الأجهزة الأمنية، والغريب أن الفريق الذي لطالما كان يعترض، يبدو اليوم خافت الصوت، يتعامل مع المسألة كأنها «أمر واقع». في جلسة مجلس الوزراء التي أقر فيها ذلك، حصل اعتراض من وزراء حزب الله والتيار الوطني الحر، مع تحفظ وزيري حركة أمل، وذلك بسبب أن القرار «يمسّ الحرية الشخصية للمواطنين». تدخل رئيس الجمهورية، في الجلسة، واقترح تقصير المدّة المقترحة للحصول على «كامل الداتا» من سنة إلى ستة أشهر، وأقر البند بالتصويت. لكن مهلاً، وبعيداً عن الخلافات بين القوى السياسية، هل يعلم اللبنانيون، وكل من يعنيه الأمر، أن هذه القرارات اللبنانية مخالفة للقانون اللبناني نفسه؟
قانون أعوج ــ مخروق
لا شيء في القانون 99/140 يتحدث عن مدة سنة أو ستة أشهر، بغية اعتراض المخابرات (الاتصالات) بناء على قرار إداري، وإنما النص يشير إلى مدة «لا تتجاوز الشهرين». فبحسب المادة 8 منه: «لكل من وزير الدفاع الوطني ووزير الداخلية أن يجيز اعتراض المخابرات، بموجب قرار خطي معلل، وبعد موافقة رئيس مجلس الوزراء، وذلك في سبيل جمع معلومات ترمي إلى مكافحة الإرهاب، والجرائم الواقعة على أمن الدولة والجرائم المنظمة. يُحدد القرار وسيلة الاتصال موضوع الإجراء، والمعلومات التي يقتضي ضبطها، والمدة التي تتم خلالها عملية الاعتراض، على أن لا تتجاوز هذه المدة الشهرين، وعلى أن لا تكون قابلة للتمديد إلا وفق الأصول والشروط عينها». إذاً، حكاية مدة السنة أو الستة أشهر ليست سوى «بدعة». مخالفة صريحة للقانون. يُذكر هنا، بحسب مصادر قضائية رسمية، معنية بتحديد قانونية اعتراض المخابرات، فإن هذا القانون مستوحى بنسبة كبيرة منه من القانون الفرنسي المماثل، مع إضافة أن وزير المال هناك يحق له ذلك أسوة بوزيري الدفاع والداخلية. ترى، لماذا استثناء هذا من القانون اللبناني؟ الجواب: «هناك يا عزيزي تعنيهم جداً مسألة الضرائب المالية، ومكافحة الفساد، وبالتالي يمكنك أن تفهم لماذا لم يضف هذا إلى النسخة _ القانون في لبنان».
لم تنته المخالفات القانونية بعد. فالمادة 16 من القانون المذكور تنص على أنه «تنحصر مهمة التنصت بوزارة الداخلية». هنا يُذكر أنه قبل نحو عامين، افتتح وزير الداخلية السابق مروان شربل، في منطقة العدلية _ المتحف، غرفة التنصت الخاصة. عدّت هذه الخطوة، يومها، بمثابة وضع حد للتنافس غير الشرعي بين الأجهزة الأمنية اللبنانية المختلفة (والمتناحرة في فترات معينة). قيل ان المسألة حُصرت في تلك «الغرفة». لكن، وخلافاً للقانون، فإن كل الأجهزة الأمنية، بلا استثناء، تفتح اليوم على حسابها «غرفاً» خاصة، بل قل «دكاكين» لا أحد يعلم بها إلا أهلها، بهدف التنصت! هذه المعلومة تنقلها «الأخبار» عن مصادر قضائية رفيعة، معنية بالقانون الناظم، إضافة إلى مصادر نيابية، ممن يواكبون قضية التنصت و«داتا الاتصالات». مرّة جديدة، أيها اللبنانيون، لا أحد يضمن أن يكون في الأجهزة الأمنية من يتنصت عليكم، يدخل إلى خصوصياتكم، بعيداً عن أي رقابة قانونية. سيخرج ربما من يقول أين الثقة؟ ولكن هل تعني الثقة عدم احتمال «خرق استخباراتي» داخل الأجهزة نفسها؟ ألم يحصل هذا ويوقف ضباط بتهمة العمالة؟ وبغض النظر عن هذا... أين ما يحصل من القانون؟ هنا أصل القضية. يجيب مصدر قضائي رفيع: «الأجهزة نفسها لا تثق ببعضها البعض، وبالتالي لو التزموا كلهم بغرفة التنصت التي تديرها وزارة الداخلية، بحسب القانون، فسوف يطلع الجميع على ما يفعل الجميع. ولكن لأنهم يتنافسون أحياناً، بعيداً عن الصالح الوطني، فلهذا يفتح كل منهم دكانه الخاص بعيداً عن القانون». ربما يكون على المعنيين اليوم فتح تحقيق شامل في هذا الأمر. المسألة ليست مزحة، فخصوصيات اللبنانيين، المصانة بالدستور (الفقرة «ج» من مقدمة الدستور: لبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية تقوم على احترام الحريات العامة) وبالمواثيق والأعراف الدولية... لن يكون مقبولاً أن تكون مشرعة وبلا حماية وبلا قانون.
دور الهيئة القضائية
قبل سنوات، ومع بروز مشهد الخلافات على قضية «داتا الاتصالات» وتوابعها لبنانياً، سافر وفد لبناني إلى فرنسا، برئاسة رئيس مجلس شورى الدولة القاضي شكري صادر، برفقة ضباط مختصين، لملاحظة التجربة الفرنسية في الموضوع نفسه عن كثب. عاد الوفد بعدما اكتشف أن فرنسا لا تبيح لأجهزتها الأمنية «الداتا» إلا بتحديد زماني ومكاني، من دون كشف كامل. هناك انتبه الوفد إلى أن رئيس مجلس الوزراء الفرنسي، بحسب ما تكرّس في العرف، يرسل الطلب المحال إليه (من وزارات الدفاع والداخلية والمال) إلى هيئة قضائية مستقلة، لأخذ رأيها بقانونية الطلب، وتناسبه مع الدستور وحق المواطنين بسرية مخابراتهم الهاتفية، وذلك قبل إصدار قراره النهائي في الموافقة أو عدمها. (هناك حتى رئيس مجلس الوزراء لا يجرؤ على القفز فوق رأي أهل القانون). أما في لبنان، وحيث ينص القانون 99/140 على هيئة قضائية مستقلة أيضاً، فإن رئيس مجلس الوزراء يعطي موافقته على التنصت أو منح «الداتا» كاملة، ثم بعد ذلك يرسل الطلب «الاستشاري» إلى الهيئة القضائية. إنه في لبنان مجرد رأي «استشاري» (نظرياً وعملياً)!
في لبنان، وبحسب نص القانون الأعوج، فإن رأي الهيئة القضائية هو لـ«الاستئناس» فقط. بل أكثر من ذلك، فحتى «الاستئناس» لا يؤخذ به، وإلا ما معنى موافقة رئيس مجلس الوزراء على طلب اعتراض الاتصالات، وبدء التنفيذ، ثم مراسلة الهيئة القضائية بالأمر لاحقاً؟ مسألة أقرب إلى «المسخرة» في الواقع. قضاة الهيئة المذكورة في لبنان، وبعدما حاول البعض تحميلهم مسؤولية الموافقة وعدمها، شرحوا للسياسيين أن القانون يجعل منهم مجرد «هيئة استشارية». وبالتالي «لا يحق لأحد تحميلنا مسؤولية ما يحصل في الداتا وغيرها». هذه الهيئة تضم، بحسب القانون، كلاً من الرئيس الأول لمحكمة التمييز ورئيس مجلس شورى الدولة ورئيس ديوان المحاسبة. ثلاثة قضاة من هيئات قضائية منفصلة ومستقلة. في هذا الإطار، علمت «الأخبار» أنه بعد إحالة رئيس ديوان المحاسبة القاضي عوني رمضان على التقاعد، قبل مدة وجيزة، استمرت الطلبات الأمنية بالورود إلى الهيئة عبر رئيس الحكومة، فكان ينجزها إدارياً القاضي شكري صادر، لكن من دون إصدارها لكون الهيئة ناقصة العضوية. اللافت أن الأجهزة الأمنية، وقبلها الحكومة، لم تكن تنتظر رد الهيئة، وبالتالي كان يُباشر بالتنصت وأخذ «الداتا» كاملة من لحظة موافقة رئيس مجلس الوزراء! إنه دليل آخر على «تسخيف» القوانين ودورها في هذه البلاد.
من أجل المحكمة الدولية!
مصادر نيابية، واكبت مسألة «داتا الاتصالات» خلال السنوات الأخيرة، قالت لـ«الأخبار» إن هذا الموضوع عندما فُتح قديماً «كانت الغاية منه خلق أدلة للمحكمة الدولية، التي جعلوها قائمة على حركة الاتصالات، وآنذاك راحت بعض الأجهزة الأمنية في لبنان تلاحق عملاء إسرائيل بواسطة هذه التقنية (الاتصالات) على نحو لافت، مع علمهم بأن الجميع سوف يرحبون بالقبض على العملاء، والغاية هي التذكير بذلك لاحقاً عندما تعتمد المحكمة الدولية الاتصالات كأدلة... القضية كان يطغى عليها العمل السياسي _ الاستخباراتي». وتضيف المصادر نفسها: «عندما وصلت تقنيات التنصت والتعقب المتطورة إلى الأجهزة الأمنية اللبنانية، على اختلافها، أوقفت شبكات العملاء وعصابات الإجرام بواسطة اعتراض الاتصالات وحركتها والتنصت وما شابهها، وكان يفترض أن تبقي الأجهزة هذه التقنيات في إطار السرية، لكن الغريب هو إفشاء هذا السر (الكنز الوطني) إعلامياً، وبالتالي بات كل عميل أو مجرم يعرف بهذا الأمر، وبات المطلوب للعدالة يتجنب استخدام الهاتف في حركته، وهكذا كان الخاسر الأكبر هو المواطن بأمنه، فضلاً عن الأمن القومي للبلاد عموماً». يُذكر أنه قبل نحو عامين، شهدت البلاد جدلاً واسعاً، بعدما طلب «فرع المعلومات» تزويده ليس فقط بحركة الاتصالات، بل بمضمون الاتصالات، إضافة الى مضمون الرسائل النصية (SMS) وكذلك «كلمات السر» لجميع مستخدمي الفيسبوك والمواقع الإلكترونية. صخب كثير رافق هذا الطلب، قبل أن يُنسى الموضوع تماماً، من دون معرفة ما إذا كان «المعلومات» أو سائر الأجهزة حصلت على المطلوب. لا شيء يثبت ولا أحد ينفي!