"التاريخ يحكم". غالبًا ما يُلجأ إلى هذه العبارة، لتأكيد صحّة موقف أو طرح معيّن، وبخاصّة إذا ما كان الشعور السائد يدلّ على أنّ نسبةَ تأييدِ هذا الطرح متدنّية. فتأتي عندها رغبة الانتصار، ويأتي شحن الذات بالقناعة الذاتيّة، سندًا للطرح، ويركن إلى مرجع خارجيّ، هو التاريخ في هذه الحالة. وذلك، التماسًا لحكم عادل وصائب قد لا يكون الآخرون مستعدِّين لإعطائه الآن. وتأتي عبارات أخرى في الخطّ عينه، مثل "سيلعن التاريخ فلانًا"، أو "سينصفه التاريخ".
من خلال عبارة "التاريخ يحكم"، يودّ الإنسان القول إنّ الحقّ سينتصر ويُعلن، في التاريخ ومن خلاله. وقد تحمل هذه العبارة في طيّاتها، في لاوعي الكثيرين، سلبيّة واستقالة من العمل من أجل الحقّ، ما يجعلهم يتركون للتاريخ، أي للآخرين، من بعدهم، تبيانه.
ولكن عند استعمال هذه العبارة، يدور السؤال عن ماهيّة التاريخ. غالبًا ما يُقصد بهذه الكلمة المعطيات التي تظهرها الأيّام، في مجرياتها واختباراتها ودراساتها، على مستوى الأشخاص والمجتمعات والشعوب. صحيح أنّ المسافة بين الحدث أو الطرح وبين الحكم على هذا أو ذاك، تبلور المعطيات وتصفّيها وتجعلها تتجلّى، وصحيح أنّ الإنسانَ غيرُ قادرٍ، بشكل مطلق، على إخفاء الحقّ. ولكن، هل تُظْهِرُ الأيّامُ كلَّ الحقّ، للجميع؟
وعليه، فالسؤال الّذي يعقب السؤال هو: "هل التاريخ، بهذا المعنى، مطلق؟ أم إنّه نسبيّ بقدر ما الإنسان نسبيّ؟". فالتاريخ يتناقله الإنسان أو يكتبه. يكفي التفكير في يوميّات كلّ منّا، وفي الأحداث التي نواكبها ويتناقلها القريبون أو البعيدون، لندرك تباين مقاربة الحدث الواحد، وروايته، من شخص إلى آخر. يساعد على فهم هذه الفكرة التأمُّلُ في الاختلاف الجذريّ في القراءة السياسيّة أو الاجتماعيّة لحدث معيّن، في المجتمعات كلّها. فضلاً عن ذلك، يعلم كلٌّ منا أنّ الجزء الأكبر من تاريخه الخاص ومن التاريخ العام يضيع في عالم النسيان، ويبقى منه القليل القليل، لأنّ الإنسان محدود وليس بامكان أيِّ متذكِّر، وأيِّ ناقلٍ للتاريخ أو كاتبٍ له، الوصولُ إلى جميع تفاصيل الحدثِ المرادُ استذكارُه. التاريخ بما هو استرجاع للماضي وحكم عليه يبقى معرفة ناقصة. زد على ذلك أنَّ ما يُنتشل من غياهب النسيان ويصل إلى آخرين، في الحاضر أو في المستقبل، يكون على موعد جديد مع الإنسان ومحدوديَّته. فقد تصل المعلومات كاملة إلى الإنسان، إلا أنَّ تحليله إيّاها لا يكون كاملاً. وفي حالات أخرى، قد يقوم الإنسان، إراديًّا، بقراءة مغلوطة او مزوّرة لمعطياته، وإن افترضناها مكتملة، خدمة لإيديولوجيّة أو لمنفعة خاصّة أو لأمور أخرى.
فضلاً عن ذلك، غالبًا ما يكتبُ المنتصرُ التاريخَ، وقد يكون المنتصرُ في إنفاذِ فكرة اجتماعيّة أو سياسيّة أو ما شابه، غيرَ محقٍّ أو ظالمــًا أو غيرَ مبتغٍ للخير. ولكنّه، بفعل انتصاره، يُضحي كاتبًا للتاريخ. ما يعني أن التاريخ مشوب، إلى نقصه التكوينيّ، بعلَّة أخرى هي إمكانُ تنكُّرِه للحقّ.
ينتج عن كلّ ذلك تاريخٌ يحمل سِمَةً أساسيّةً في الإنسان، أي النقص. لذا نراه، بالفعل عينه، غيرَ قادر على الحكم بالحقّ. عند تيقّنِ كلّ ذلك، لا يعود الركون إلى التاريخ يُروي عطش الإنسان إلى مرجعيّة تطلق الحكم العادل في وجه من لا يعتقد بالحقّ، ويحار من لا حول له ولا قوّة، أمام رأي يفرضه الإنسان الآخر أو أمام التاريخ الذي لا يسيطر عليه.
إذًا، عند الشعور بأنّ الواقع الآنيّ والواقع المستقبليّ لا يبيّنان الحقّ كلّه، كيف ضمان ظهور الحقّ؟ وكيف التعبير عنه، وهو الرسالة المفترضة لعبارة "التاريخ يحكم"؟
أمام هذه المعضلات الفكريّة والوجوديّة، مبدأ الحلّ هو الإيجابيّة، في الموقف المعتقديّ والإيمانيّ والتفكيريّ، وفي الموقف العمليّ أيضاً.
إنّ الموقف الإيمانيّ المرتجى، هو التيقّن من أنّ المطلق الّذي عنده الحقّ كلّه هو الله، سيّد التاريخ، وأنّ ما يزرعه الإنسان من حقّ وخير في هذه الدنيا، هو الحقّ المنتصر في جوهره، مهما يكن الظاهر ظاهر فشل. فليس الانتصار الظاهر هو معيار الحقّ، بل المعيار هو الخير الذي يلاقي الخير المطلق، أي سيّد التاريخ. معه الانتصار، في جميع الأحوال، إنْ في ظاهر الانتصار وإنْ في ظاهر الفشل. وهذا ما يسمّى، عند المسيحيّين، بلغة الصليب، الذي مظهره عارٌ وباطنه مجد. إنّ سيّد الصليب والموت والقيامة، هو الذي قال: "ما من محجوب إلاّ سيُكشف، وما من خفيّ إلاّ سيُعرف"(متى 10: 26). الحقّ ينجلي إذًا بين يدي سيّد التاريخ.
وهذا ما يقودنا إلى ما سمّيناه الموقف العمليّ الإيجابيّ. فعلى كلّ ساعٍ أو ساعيةٍ إلى الحقّ أن يعمل أو أن تعمل، بكلّ فرحٍ ومرحِ روحٍ، له، أي للحقّ، ولتبيانه، إنْ كان الأمر متعلّقًا به أو بها بشكل مباشر، أو غير مباشر. وتقضي الإيجابيّة في الموقف العمليّ بالمثابرة على إحقاق الحقّ والخير، بتواضع الباحث الدائم عن جوهرهما، وفي محبّة دائمة لكلّ إنسان، بدون أيّ تمييز، ولكلّ الإنسان، أي الإنسان في أبعاده كلّها. فالموقف العمليّ الإيجابيّ يجعل الإنسان متيقّنًا من أنّه ليس مغلوبًا على أمره وأنّ لا مكان للإحباط في حياته، لأنّه، في عمل الخير، يلاقي سيّد التاريخ.
فإنْ نحن سلّمنا بنسبيَّة النسبيّات، وتنبّهنا إلى من هو المطلق، أبدلنا عبارتنا العاديّة بعبارة: "سيّد التاريخ يحكم".
* رئيس جامعة الروح القدس - الكسليك