مرّة جديدة امتلأت ساحة رياض الصلح ـ وسط بيروت بالمتظاهرين من أجل إقرار سلسلة رتب ورواتب «نظيفة». انطلق التحرّك من أمام جمعية المصارف، الخصم الأول لهيئة التنسيق النقابية، والمحمية من الدولة، في ظل «جدل اعتذاري» بين حنّا غريب ومجلس النواب... لتُختتم التظاهرة بإعلان الهيئة ولادة «حركة 14 أيار النقابية»

هنا مقرّ «جمعية المصارف». المكان: الصيفي ــ وسط بيروت. لا يكفي خط واحد من الأسلاك الشائكة، لا، لا بدّ من ثلاثة خطوط متصلة. خطوط كافية لتمزيق أي جسد يريد الدخول عنوة. الخطوط لا تكفي، لا بد من شُرطة تحرس، وجيش يتأهب، وعيون كثيرة تراقب كل من يقترب.

هنا مقرّ «جمعية المصارف». شارع صغير، المقرّ عند زاويته، احتاج إلى ست عربات آلية (مختلفة الأنواع) للجيش اللبناني ليحرسوه. بين تلك الآليات يبرز «باص» (أوتوكار) تابع لقوى الأمن الداخلي. إنه مليء بالدركيين، وإلى جانبه سيّارة «دودج» أمنية، وفي المشهد رجال من الجيش والدرك على أرجلهم يحرسون ذاك المقرّ. إنها «جمعية المصارف» التي تمثّل، بحسب هيئة التنسيق النقابية، حوت المال الأكبر.

المصارف التي «تُطاع ولا تطيع» كما قال أصحابها سابقاً، وهم صادقون هنا، بحكم الواقع والتجربة. المصارف التي اعتادت، في هذه البلاد، منذ زمن بعيد، أن يخضع الجميع لإرادتها. المصارف التي «يعمل» عندها كثير من النواب والوزراء، باسم السطوة والنفوذ، هي التي كانت «تحرسها» الدولة، أمس، حتى لا تُصاب بأذى، ولو افتراضاً. تقترب من أحد الدركيين، عمداً، وتسأله بسذاجة أين يقع مقرّ الجمعية؟ فيجيب مباشرة: «هي مقفلة اليوم». يأبى أن يُحدد مكانها، إنه خائف على أمنها، إنها مهمته ووظيفته التي يأكل منها «عيش». يمنعك، فضلاً عن الاقتراب، من التقاط صورة للمبنى! هنا لا بد من الإشارة إلى أن العسكريين في الجيش، وعناصر الشرطة أيضاً، هم ممن ينتظرون إقرار سلسلة الرتب والرواتب، على أحرّ من الجمر. ومع ذلك يحرسون مقرّ الجمعية التي تمنع عنهم السلسلة كما يريدون. تحرسها ممن؟ من الذين شاركوا في تظاهرة «الغضب» التي نظمتها هيئة التنسيق النقابية، الذين يريدون إقرار السلسلة، الآن الآن وليس غداً! هكذا «تُمسخ» شخصية الحارس والشرطي (من جيش وقوى أمن) في لبنان، وتدخله دولته في حالة نفسية، عجيبة غريبة، ربما لم يسع علماء النفس معاينتها من قبل! إنها الشُرط، التي كانت تُعرّف قديماً بأنها «الرجال الذين يعتمد عليهم الخليفة ــ السلطان في حفظ الأمن، والقبض على اللصوص، وقد عُرفوا بهذا الاسم لأنهم أشرطوا أنفسهم بعلامات خاصة يعرفهم الناس بها».

تُرى من كان اللصوص، أمس، في وسط بيروت، ليقبض عليهم رجال الشرطة؟ المتظاهرون أم أصحاب المقرّ المحروس: جمعية المصارف؟

من أمام مبنى هذه الجمعية قررت هيئة التنسيق النقابية أن تبدأ تظاهرتها. آلاف المطالبين بإقرار سلسلة الرتب والرواتب، ومعهم بعض المتضامنين، دوّت صرخاتهم في أنحاء منطقة الصيفي أمس. مشوا إلى ساحة رياض الصلح، على وقع الهتافات، رافعين لافتاتهم، بعضها كان تقليدياً والآخر مبتكراً. من أبرز هذه اللافتات: «يا مصرفي يا ذكذك ليش بدك يّاني إدفع ضريبة ع معاشي التقاعدي.. وإنت ما بدك تدفع ليرة عالـ1.7 مليار دولار أرباح؟».

في المناسبة، هذه اللافتة لا تفتري على المصارف، وليست شعراً، أو أي كلام عابر... المصارف فعلاً، وبالأرقام المعلنة، هذه هي أرباحها التي تصرّح عنها لوزارة المال (المخفي أعظم). أرقام فلكية ربما لا تستوعبها مخيلة الكثير من الناس. أحدهم تسلّق قاعدة تمثال رياض الصلح، ورفع لافتة كُتب عليها: «بدنا السلسلة لنخرّج جيل أفضل منكم».

إحدى السيدات كانت تدير لافتتها نحو جميع الكاميرات في الساحة، وتتحرك بها في كل اتجاه، مكتوب عليها: «الجيش يذود عن الوطن. المعلم ينمّي الوطنية. الموظف يُسيّر أمور المواطنين. فأين أنتم من تقدير هذه التضحيات يا نواب الأمة». أهازيج كثيرة أطلقت، أمس، عبر مكبرات الصوت، كان كل من في داخل السراي الحكومي يسمعها. لكن الحدث لم يكن في السراي، بل في مجلس النواب، على بعد بضع مئات أمتار، حيث يبحث النواب في «التسوية» أو ربما «الصفقة» التي سيُخرّجون من خلالها قانون السلسلة والضرائب.

اعتلى رئيس رابطة أساتذة التعليم الثانوي حنا غريب المنبر، كقائد للتحرّك، وقال: «نحن على الموقف نفسه منذ ثلاث سنوات، صامدون على حقوقنا، لن نتزحزح قيد أنملة، هي هي نريدها كاملة (السلسلة)، دون نقصان، زحفنا اليوم بالألوف المؤلفة لنسقط هذا المشروع المسخ». وطالب غريب المجلس النيابي بـ«سماع أصوات المعتصمين وهتافاتهم لإسقاط مشروع اللجنة النيابية الفرعية لأنه ينقض على الحقوق ويضربها ويأكلها.

صوّتوا إلى جانب الشعب يا نواب الشعب واستجيبوا له، ولا تصوّتوا الى جانب حيتان المال». وأضاف: «قلت لهؤلاء أمام وزارة الشؤون الاجتماعية إننا لا نواجه رأسماليين بل حرامية، قلت ذلك لحيتان المال وليس للنواب، لم أمس على مدى ثلاث سنوات ولن أمس كرامة مسؤول، لا في الوزارة ولا في مجلس النواب، وإن كان قد أسيء فهمي فلدي الشجاعة لأقول أنا أعتذر». العبارة الأخيرة (الاعتذار) جاءت بعد حضور وزير التربية والتعليم العالي الياس بو صعب، مكلفاً من رئيس مجلس النواب نبيه بري، إلى الاعتصام، وذلك للطلب من غريب الاعتذار من بري والنواب على تصريحه أمام وزارة الشؤون الاجتماعية، أول من أمس، والذي ذكر فيه كلمة «الحرامية». صحيح أن غريب لم يعتذر مباشرة، لأنه رفض اعتبار عبارته مسّاً بكرامة النواب، لكنه مع ذلك بقيت كلمة «أعتذر» ذات وقع تراجعي، جعلت بعض المتظاهرين ينزعجون، ويرفعون الصوت بالهتافات، رافضين «استعلاء» النواب عليهم بغير وجه حق ومحاولة إجبار المتظاهرين على «الاعتذار» (أوضح غريب لاحقاً أن ما قاله ليس اعتذاراً بل توضيحاً لكلام سابق).

في هذه الأثناء، وبما أن النقل كان مباشرة على الهواء، انطلقت على مواقع التواصل الاجتماعي (فايسبوك وتويتر) حملة تضامنية مع غريب، واضعة «هاشتاغ» للتداول عنوانه: «حرامية ونص». ربما يكون أبرز ما قاله غريب في كلمته، فضلاً عن رفضه السلسلة كما يناقشها النواب، هو إعلانه «بداية قيام حركة نقابية اسمها حركة 14 أيار النقابية، وكل ما نريده هو أن نذهب إلى وزاراتنا ومدارسنا وكرامتنا مرفوعة، فارفعوها، ارفعوها، دفاعاً عن الحق». وكان لافتاً أن هيئة التنسيق النقابية مجتمعة، بعد اجتماعها المسائي أمس، تبنّت خطاب غريب، معلنة ولادة «حركة 14 أيار النقابية».

قبل غريب تحدّث نقيب المعلمين في المدارس الخاصة نعمة محفوض، ورئيس رابطة موظفي الإدارات العامة محمود حيدر، وسواهما، في كلمات لا تختلف كثيراً عن كلماتهم في التحركات السابقة، لكن بارتفاع ملحوظ في نبرة الخطاب. كلمات سُتسجل في تاريخ العمل النقابي في لبنان أنها أطلقت في زمن «المرحلة الحساسة» التي لا تنتهي، وتبقى فرادتها الأبرز أنها أطلقت من على منبر لا يمت بصلة إلى منابر الاصطفاف الطائفي. منبر من خارج الإطار، ولهذا لن يكون مستغرباً أن تكون مُحاربة من كل ذاك الإطار.