رقصت الدالية أمس على أنغام الطبول، وتزينت بالجِمال والخيول، في ظل حضور شعبي لافت تلبية لدعوة الحملة الأهلية الداعية إلى «كرمس» الترفيه في «الحيّز العام». بعثت الدالية، بروّادها، أمس، رسالة واضحة إلى من يهمّهم الأمر: «هذه الساحة لنا. مكانا عاماً... وسوف نبقى هنا».
هل انتبه أحد، قبل شهرين، إلى أن المهرجان الفولكلوري السنوي الذي يقيمه أكراد لبنان، في منطقة الدالية _ الروشة، لم يُقم هذا العام؟ الاحتفال بعيد النيروز، في اليوم الأول من فصل الربيع، لم يجد مساحة كافية هذه السنة ليُقام عليها هناك، إذ حلّت في تلك المساحة مكعبات ضخمة من الاسمنت. هكذا، ألغي، بهدوء تام، مهرجان تراثي ظل لسنوات طوال يميّز الدالية، وكان يُعطيها طابعاً اجتماعياً _ فنياً _ تراثياً، إلى حد اعتباره مع مرور الأعوام جزءاً أصيلاً من هوية المنطقة.
كل شيء يتغير الآن في الدالية. فبعد السور الحديدي الذي رفع عند الكورنيش، مُحدداً المساحة العقارية من قبل «المالكين» والشركات الاستثمارية، جرى تسييج ذاك السور بعد أيام بشباك معدنية، ما يمنع بالتالي النزول إلى الدالية من طرقها الفرعية الكثيرة، فيُحصر الأمر بممر واحد فقط، وربما يُغلق في أي وقت لاحق! لكن، رغم ذلك، شهدت الدالية أمس احتفالاً شعبياً، نظمته الحملة الأهلية للحفاظ على دالية الروشة، وحضره عدد لا بأس به من المواطنين. الاحتفال أقيم تحت عنوان «كرمس ترفيهي». كان لافتاً أن ثمّة أفراداً جاؤوا للمشاركة، وهم ممن كانوا قد قطعوا، تقريباً، علاقتهم بالدالية، وذلك نتيجة الإعلان الترويجي للاحتفال، ودعوة المواطنين لتكثيف حضورهم حتى يُثبت بذلك أن تلك المنطقة مساحة عامة، وحيّز عام، نافذة بحرية شبه أخيرة في العاصمة، ولم ولن يكون مقبولاً أن تقفل في وجه الزائرين غداً تحت حجّة «الملك الخاص». وفي المناسبة، لم تخل نهاية أسبوع، حتى في الأشهر الأخيرة، من الرواد التقليديين للدالية، الذين كانوا وما زالوا يحضرون إليها للتنزه، سواء في ظل إقامة احتفالات أو من دونها. هذا يعني أن الدالية لم تكن، في يوم من الأيام، مساحة مهجورة، وهي قبل استملاكها من الراحل رفيق الحريري، ثم وصولها إلى ورثته، وبعده وبعدهم، مساحة عامة تضج بالذكريات والحكايات لشريحة واسعة من المواطنين.
في الدالية كهوف
مائية تجعلها واجهة لثروة إيكولوجية
على غرار ما كان يحصل في مناسبات الأعياد، حضرت الجياد، أمس، إلى الدالية، لمن يريد الركوب عليها والتقاط الصور. كان لافتاً إحضار بعض الجِمال، للسبب عينه، ما استرعى انتباه كثير من الحاضرين، وخاصة أنه ليس مألوفاً في بيروت رؤية الجِمال. في الدالية الكثير من الأعشاب، التي تأكل منها الأحصنة والجِمال، وهي بالمناسبة أعشاب نادرة الوجود على الساحل اللبناني، بحسب بعض الخبراء، الذين يُصرّون على أن «يُفرض تقييم الأثر البيئي للدالية ونشر النتائج، قبل الحديث عن السماح، قانونياً، بإقامة منتجعات سياسية _ استثمارية هناك». هؤلاء الخبراء، بحسب ما تنقل الحملة الأهلية المذكورة، يرون في الدالية «كنزاً جيولوجياً وتاريخياً وبيئياً واجتماعياً، فريداً من نوعه، ورثناه من الأجيال التي سبقت. وهي امتداد طبيعي لصخرة الروشة وتتباهى بمساحة شاسعة مطلة على البحر. كما تتميز بعدد من الكهوف المائية، التي تجعلها واجهة لثروة إيكولوجية مهمة، وبيئة ساحلية أساسية للتنوع البيولوجي التاريخي والسياحي». لهذا كله، لم يكن غريباً أن تسمع من بعض المتنزهين هناك، الخائفين على مصير الدالية، أن يشيروا إلى الأحصنة والجِمال على أنها «أكثر دراية بأهمية هذه المنطقة وأعشابها وطبيعتها من أولئك الذين لا يفهمون سوى لغة المال والربح والاستثمار».
عند النقطة المواجهة تماماً لصخرة الروشة، من جهة الدالية، كانت تُسمع، أمس، أصوات طرق طبول وموسيقى. أقيم هناك تجمّع لبعض الشبان الذين راحوا يرقصون على وقع الأنغام، رقص أشبه برقص الغجر، أو الهنود الحمر في أميركا. بدا المشهد كأنه «السكان الأصليون» (الرواد) للدالية يقولون، من خلال الرقص، نحن هنا، ولن نسمح بـ«استعمار» هذه الأرض. بالتأكيد، ليس الكل هناك من الراقصين، فالرواد التقليديون، لمن يعرفهم، هم من الذين يسبحون في الماء بين صخور الدالية (من عند نقطة المغارتين)، وصولاً إلى أسفل صخرة الروشة الشهيرة. يمارسون، مع السباحة، هواية القفز في الماء، والقفز هناك ليس هواية عند الجميع، بل تلاحظ أنه ارتقى إلى حد أصبح «فنّاً» قائماً بذاته. في المناسبة، قبل سنوات طوال كانت تُقام هناك بطولات، شبه رسمية، لأجمل قفزة في الماء ومن ارتفاعات عالية، وحتى اليوم لا يزال عمر عيتاني، وشقيقه علي، وسواهما، يحتفظون بالصور التذكارية وهم يرفعون كؤوس الفوز بمسافة «أجمل شكّة». آل العيتاني، للعلم، لا يزالون يقيمون حتى اليوم في الدالية. هم آخر من تبقى من الصيّادين، بعدما أخذ أكثرهم تعويضات مالية ضخمة وغادروا المنطقة، وهكذا نجحت خطة «المستثمرين» بالترغيب بعدما فشلوا سابقاً بالترهيب ومحاكم القضاء. آل العيتاني اليوم، بحسب ما يقال، يسيرون على الطريق نفسه، طريق المغادرة، لتخلو عندها الدالية تماماً لأولئك الذين طمعوا ذات يوم بإنشاء منتجع سياحي يستثمر حتى سطح صخرة الروشة ذاتها! هذه ليست مزحة، قيلت سابقاً، لكن عاد المعنيون وتراجعوا عنها. إلى هذا الحد يصل الطمع بهؤلاء ويسيل لعابهم على كل بقعة تدرّ المال... هم لا يفهمون سوى لغة المال.