مهرجان "المصالحة" الذي أقيم في قرية بريح الشوفيّة ليس الأوّل من نوعه، على الرغم من أهمّيته، لجهة مشاركة أعلى مرجعيّة رسميّة في الدولة فيه، وأعلى مرجعيّة دينيّة للموارنة. وقد سبقته "مصالحات" مفترضة عدّة، بعضها شاركت فيها أعلى المرجعيّات الدينيّة لدى الموارنة أيضاً(*)، ورؤساء أحزاب مسيحيّة، إلخ. لكن خطوات العودة هذه بقيت غير كافية، وبعضها يدخل في إطار العمل الدعائي والفولكلوري في بعض الأحيان. وبلغت نسبة عودة مهجّري أقضية الشوف ما بين 15 و20 % فقط، وفق أكثر من إحصاء أجري في السنوات العشرة الأخيرة، والنسبة أقلّ من ذلك في قضاء عاليه، بينما هي تبلغ ضعفي ذلك تقريباً في قرى قضاء صيدا. فلماذا لم يرجع مُهجّرو "الجبل" إلى قراهم وبيوتهم؟
أوّلاً: الفارق الزمني الكبير بين تاريخ التهجير القسري، وتواريخ العودة المُفترضة. فبعض العائلات المسيحيّة غادرت "الجبل" خلال السنوات الأولى للحرب، خاصة بعد المجازر التي وقعت بحقّهم، إنتقاماً لجريمة لم يرتكبوها، وهي إغتيال الزعيم كمال جنبلاط في العام 1977. ومن تبقّى من سكّان "الجبل" غادروا بعد المجازر التي طالتهم خلال ما عُرف بإسم "حرب الجبل" في العام 1983. في المقابل، إنّ عودة المهجّرين المسيحيّين إلى "الجبل" بدأت إعتباراً من العام 1992، لكن بوتيرة ضعيفة جداً، نتيجة إعتبارات مختلفة. وهذا ما تسبّب بانقطاع أصحاب المنازل المهجّرة عن أرضهم لفترات طويلة، ودفعهم إلى تأسيس حياة جديدة في الأماكن التي تهّجروا إليها. فصاروا مرتبطين بهذه الأمكنة البديلة، أكان بدافع العمل أو التعلّم أو حتى السكن. وبالتالي، بالكاد يزور المهجّرون السابقون قراهم ومنازلهم في عطل نهاية الأسبوع، وفي بعض أيّام الصيف، أو عند المشاركة بمراسم دينيّة محدّدة. وقلّة عدد العائدين الدائمين، جعلتهم يشعرون في غربة داخل أرضهم، وزادت من إبتعاد الزوّار الموسميّين، وأسفرت عن دوران الجميع في حلقة مفرغة بعيداً عن أرزاقهم.
ثانياً: توزيع أموال التعويضات كان بطيئاً جداً، حيث عجزت السلطات الرسميّة عن تأمين المبالغ المطلوبة لإنجاز العودة. وكلّما تأمّن مبلغ محدّد بعد سنوات طويلة من الإنتظار، كان يجري صرفه بطريقة إستنسابية، وغير عادلة ولا منصفة في بعض الأحيان. وكان يتمّ التعويض على كل الأشخاص الذين سكنوا في منازل المهجّرين، أو بنوا بيوتاً على أراضي هؤلاء بشكل مخالف للقانون. وفي كثير من الحالات كان يتم التعويض على أكثر من عائلة واحدة تكوّنت خلال فترة التهجير، وتقاسمت غرف المنزل المَسكون من قبل الغير، لتأمين الإخلاء المطلوب، في مقابل تسديد دفعات مقسّطة من دفعات الصيانة وإعادة الإعمار والتأهيل للعائلة المهجّرة، المالكة الأساسيّة والفعليّة للمنزل. وشحّ الأموال التي وصلت إلى جيوب المهجّرين أحبطت شعور الحماس للعودة الذي كان قد راودهم عند إنتهاء الحرب اللبنانية، خاصة وأنّ الكثير من القرى المهجّرة بقيت من دون أيّ إهتمام رسمي على مستوى البنى التحتية الأساسيّة للعيش الكريم.
ثالثاً: بعض البلدات التي شهدت مواجهات مسلّحة حزبيّة دامية أثناء "حرب الجبل"، وُضعت على "لائحة سوداء" غير مُعلنة، فتأخّرت عمليّة إتمام المصالحة فيها لعقود وليس لسنوات! فمثلاً، بلدة كفرمتى إنتظرت 24 عاماً لتشهد إتفاق مصالحة لم يقترن على الرغم من تأخّره بأيّ عودة سريعة للمهجّرين. وبلدة بريح إنتظرت بدورها 31 عاماً ليُسمح لأهلها بالعودة. وهذا التمييز على مستوى ملفّات العودة، أثبت النظرة الفوقيّة في التعامل مع المهجّرين المسيحيّين الذين كان عليهم أن يغفروا وأن يسامحوا لما ارتُكِب بحقّهم من مجازر، بينما لم يبادلهم الآخرون في البلدات التي شهدت إرتكابات وإعتداءات مُتبادلة على السكان، بالإستعداد نفسه، أقلّه بالسرعة نفسها. وهذا ما أرخى جوّاً معنوياً ضاغطاً وغير مريح في نفوس المهجّرين العائدين، على الرغم من كل التطمينات ومن كل الإجراءات الأمنيّة التي واكبت العودة المُفترضة، لا سيّما في ظلّ العجز السياسي المُتمثّل بعدم القدرة على إيصال أيّ نائب مسيحي بشكل مستقل عن تأثير باقي المجموعات الطائفيّة والمذهبيّة.
رابعاً: التغيير الديمغرافي الكبير الذي حدث على مدى ثلاثة عقود ونيّف، جعل السكّان المهجّرين يتشتّتون بعيداً عن أرضهم، وبالكاد يعودون إلى منزلهم العائلي أو منزل أجدادهم، في مقابل تكاثر أعداد منازل السكان الذين بقوا في قراهم طوال فترة الحرب، وما بعدها بطبيعة الحال. وقد تحوّل بذلك المهجّرون العائدون إلى أقليّات معزولة، حتى في القرى والأماكن التي كانوا يُشكّلون فيها أغلبيّات كبيرة في السابق.
في الخلاصة، إنّ عودة المهجّرين إلى أقضية "الجبل" المختلفة، تتطلّب أكثر من سياسة "تبويس لحى"، وأكثر من إستعراضات إعلامية فولكلوريّة، وأكثر من تبادل للكلام المعسول غير المقرون بإجراءات ميدانية حاسمة... والمشكلة الكبرى أنّ الوقت قد يكون تأخّر كثيراً لإعادة ربط مهجّري "الجبل" المسيحيّين بأرضهم!
(*)زار البطريرك الماروني السابق مار نصر الله بطرس صفير الجبل في آب من العام 2001، في خطوة وُصفت بالتاريخيّة، تلتها زيارة للبطريرك مار بشارة بطرس الراعي في أيلول من العام 2012.