من يستمع إلى التصاريح والمواقف التي ترافقت مع زيارتي رئيس "الإئتلاف الوطني السوري المعارض"، أحمد الجربا، إلى كل من واشنطن وباريس حيث إلتقى أعلى القيادات الأميركية والفرنسية، يظنّ أنه لم يمض على إندلاع الأزمة السوريّة سوى شهرين فقط، وليس ثلاث سنوات وشهرين، فالحديث لا يزال يدور حول التشكيك بشرعيّة النظام السوري والرئيس بشار الأسد، وعن رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي للمعارضة السياسية السورية، وعن تقديم مساعدات "غير فتاكة" لقوى المعارضة المسلّحة... في المقابل، يدور حديث الجربا وباقي مسؤولي المعارضة حول ضرورة دعم "الإئتلاف" سياسياً ودبلوماسياً وعسكريًا عبر أسلحة "تقلب موازين القوى".
وسط ذلك، يبدو النظام السوري غير معنيّ بكل ما يحصل في الخارج، حيث إستكمل إستعداداته لتنظيم إنتخابات رئاسية في الثالث من حزيران المقبل، يُنتظر أن تحمل الرئيس الأسد إلى ولاية رئاسية ثالثة، في ظلّ غياب أي تنافس جدّي، وبفعل عدم توفّر مقوّمات التنافس الديمقراطي الصحيح، وذلك على الرغم من كل الإنتقادات العربية والغربيّة لشرعية الإنتخابات المرتقبة. أكثر من ذلك، واصل الجيش السوري، والقوى الحليفة التي تدعمه، شنّ الهجمات على أكثر من محور، في ظلّ خطة واضحة بالسيطرة على كامل المدن السورية الداخلية، إستكمالاً للمخطط الذي كان قد بدأ بالسيطرة على القصير ومحيطها، وإستتبع بالسيطرة على القلمون ومحيطها، وذلك بهدف طيّ صفحة الدعم العسكري للمعارضة عبر الحدود اللبنانية، ولوصل مناطق السيطرة في الداخل السوري بعضها ببعض، من المناطق الساحلية الشمالية على البحر الأبيض المتوسّط، وصولاً إلى الحدود الأردنية جنوباً.
وعلى الرغم من التقدّم العسكري للجيش السوري، على حساب "المعارضات" المسلّحة، فإنّ الحرب في سوريا ليست على باب الإنتهاء في المستقبل القريب، كما يظنّ البعض، باعتبار أنّ المعارك المنتظرة للحسم العسكري النهائي لا تزال متعدّدة وطويلة. صحيح أنّ أغلبيّة المدن عادت إلى كنف النظام السوري، لكن وإذا إستثنينا النفوذ الكردي الذي هو أشبه بالحكم الذاتي في كل من مدينتي القامشلي والحسكة وأريافهما، فإنّ "المعارضات" التي تقاتل النظام السوري تتقاسم النفوذ والسيطرة على جزء كبير من الأرياف السورية، خاصة في حلب وإدلب وحماه في الشمال، وفي درعا في الجنوب، وفي دير الزور شرقاً. وتشهد مدينة حلب معارك عنيفة، حيث يحاول النظام إستعادة سيطرته عليها، متبعاً نفس الأسلوب الذي إستخدم في حمص، والذي بدأ بحصار شامل، مروراً بتطبيق سياسة "الأرض المحروقة" والهجمات والغارات المستمرّة، قبل الوصول إلى مرحلة مفاوضة المسلّحين للخروج بشكل آمن من المدينة. وعلى خطّ مواز، تُعتبر الغوطة الشرقية في ضواحي دمشق من أبرز معاقل المعارضة المهدّدة بالسقوط عسكرياً، بفعل إنتفاء إمكانية وصول الإمدادات العسكرية. وكلّ ما سبق يؤكّد أنّ لا أفق قريب لإنتهاء المعارك، خصوصًا أنّ المواجهات في المناطق الحدوية التي تسيطر عليها المعارضة أكثر صعوبة، نتيجة إمكان توفّر الدعم اللوجستي من تركيا ومن العراق وحتى من الأردن.
وبالنسبة إلى ما إذا كان الجربا قد تمكّن من الحصول على أسلحة نوعيّة، فالجواب المُعلن في التصاريح الإعلامية هو كلا، لكن في الواقع تمّ تسجيل زيادة في نسبة الدعم اللوجستي من بعض الأطراف الخارجية لصالح بعض أطياف المعارضة السورية. وفي هذا السياق، سُجّل في الأسابيع القليلة الماضية، وصول نحو 50 قاذفة صاروخية مضادة للدروع من طراز TOW الأميركي الصنع، لكن إلى وحدات محدّدة تنتمي إلى "الجيش السوري الحرّ". وقد إشترطت الجهات العسكرية الغربيّة التي سلّمت هذه الصواريخ، إسترداد القاذفات الفارغة، للحصول على غيرها في المستقبل، وذلك بهدف التأكّد من عدم وصول هذه الصواريخ إلى أيدي تنظيمات إسلاميّة متطرّفة أو حتى من عدم بيعها إلى أطراف ثالثة. وبعد مفاوضات الجربا الأخيرة في كل من واشنطن وباريس، عُلم أنّ زيادة في نوعية وفي حجم التسلّح ستطرأ في المستقبل القريب، لكنها تبقى محدودة جداً، وغير كافية لإحداث تغيير في التوازنات التي فرضتها سنوات من الأعمال العسكرية المتبادلة، خصوصًا وأنّ عديد الوحدات المنظمة المنتمية إلى "الجيش السوري الحرّ" والتي تتلقّى الدعم اللوجستي من الغرب لا تزال بحدود بضعة آلاف عنصر فقط لا غير.
وممّا سبق، يمكن القول إنّ نظرية الإستنزاف العسكري على الأرض السورية، وتدمير بنى سوريا التحتيّة، وإضعاف تأثير الدولة السورية والجيش السوري في الصراع المستمر في منطقة الشرق الأوسط، هي الأكثر ترجيحاً، أقلّه حتى الساعة، بين كل النظريات التي تردّدت على مدى السنوات الثلاث الماضية بشأن الأهداف الفعليّة للحرب في سوريا.