أيّاً كان موقف «أخوان الصفا»، وبعض الجاهلين والجاهليِّين من الرئيس ميشال سليمان، فإنّ الحكم على ولاية الحكم يحتاج الى إحاطة علمية شاملة تتناولها أقلام الإختصاصيين لا ألْسنة السفسطائيين (1).
والحكم بالنهاية على من ولِّيَ الأحكام، ليس من شأن المحكومين بأحكام الآخرين، بل هو من شأن الحقيقة التي لا تخضع إلا لمشيئة التاريخ.
على أن الإنصاف يقتضي الإعتراف ببعض الثوابت الظاهرة بالمنظار الشعبي، دونما حاجة الى الكثير من التبصّر والتحليل، وهي أن الرئيس سليمان، ومن حيث الشكل البروتوكولي على الأقل، كان صاحب إطلالة تناسقَتْ مع وقار القصور ومهابة الرئاسة، وكان من حيث الجوهر صاحبَ يدٍ أبَتِ التنكر للقسم منذ أن رُفعت في مجلس النواب على إسم الله العظيم حرصاً على «دستور الأمة اللبنانية وقوانينها وحفاظاً على استقلال الوطن اللبناني وسلامة أراضيه».
ومن وحي البرّ بهذا القسم، كان هو الرئيس الوحيد منذ الإستقلال يعلن الحرب ضد التمديد، مصرّاً حتى التحدّي على مغادرة القصر بانتهاء ولايةٍ، إنْ لم تكن عهداً من الذهب، فهي أيضاً، ليست ولاية من الخشب.
على أنَّ مأثرة أخرى تميز بها الرئيس سليمان حين فضّل غير مرة الصمت في ظروف كانت تحتاجه خطيباً على شاكلة الحجاج بن يوسف، وحين فرضت عليه مصلحة البلاد أن يعبَّ الماء على أن يوجه إصبعه الى عين الأعور.
لست في واردٍ هنا، أن أُقيِّمَ مسيرة العهد ما دمتُ قد أحَلْتُ الحكم عليها الى التاريخ، ولكنني أتوقف عند محطات ثلاث تلتقطها العين المجرّدة دونما حاجة الى نظَّارات أو تفسيرات.
أولّها: بيان بعبدا حيال النأي بالنفس عن التورّط في الصراعات الخارجية، وهو موضوعٌ كان ولا يزال موضع نزاع لبناني، ظاهرٍ أو مستتر، منذ ما قبل الإستقلال، وأهمية هذا البيان أنه صدَر عن طاولة حوار وطني وفق وثيقة خطيّة موقعة من مختلف قيادات البلاد ومكوناتها الطائفية.
وثاني هذه المحطات: وثيقة خطية أخرى تؤكد على المناصفة بين مكونات الوطن، حين راحت أصوات مسكونة بالأشباح تطالب بمؤتمر تأسيسي، من شأنه أن يبطِّن استهدافاً للمعادلة الوطنية التاريخية، وقد انبرى الرئيس نبيه بري رجل المواقف في المآزق ليؤكد باسم المسلمين جميعاً على الشراكة الوطنية المتكافئة بين اللبنانيين، فإما أن يكون بها لبنان أو لا يكون.
هذا الإعلان التاريخي لآخر طاولة حوار رئاسية في بعبدا يكاد يكون مطابقاً في مضمونه لما جاء في أول طاولة حوار في التاريخ، تلك التي اعتمدها الملك البريطاني آرثر، حين كان المجتمع البريطاني منقسماً في صراع محمـوم على نفسه، فإذا طاولة المتحاورين هي التي أدَّتْ الى ضبط العنف واحتوائه في إطار مؤسسي.
أما المحطة الثالثة التي كلّلت نهاية العهد، فهي المصالحة التي رعاها الرئيس سليمان في بلدة بريح الشوفية بعد تهجير دام ثلاثين سنة، أي ما يوازي أعمار خمسة عهود رئاسية.
وفي كلام خلا من زلاّت اللسان على غرار ما كان في احتفال بلدة بريح، كان الرئيس سليمان من الرجال الرجال على لسان النائب وليد جنبلاط خلال المأدبة التكريمية في المختارة، وكان النائب جنبلاط على لسان الرئيس «أقلّ ما يقال فيه إنه بيضة القبان، لكنّ البلد يحتاج الى بيضتين هما في قصر بيت الدين والمختارة».
ولكنّ الرئيس ميشال سليمان لم يكن يتوقع أنه يغادر القصر، والقصر بلا رئيس، والرئيس هو رأس الدولة، والدولة بلا رئيس هي دولة بلا رأس، ومع دولة بلا رأس لا قيمة ولا جدوى للبيضتين.
1 - "السفسطائية كلمة يونانية يفسّرها القاموس بأنها استدلال باطل يقصد به تمويه الحقائق".