كأننا أمام لعبة «دومينو». تُبتلع الواجهة البحرية لبيروت في منطقة الروشة، بخطوات متتابعة، بسلاسة بالغة، وفي ظل صمت رهيب، لا يُذكّر بشيء إلا بذاك الصمت الذي رافق ذات يوم ابتلاع وسط بيروت. فبعد الزنّار الحديدي الذي أقيم حول منطقة الدالية، الذي امتد إلى أبعد منها في منطقة الروشة، ثم ملئه بشِباك معدنية، ظهرت أخيراً أسلاك شائكة على طول «الكورنيش» البحري. أسلاك من تلك التي تستخدمها الجيوش، عادة، لحماية المواقع العسكرية والأمنية.
يوم أمس بدا الخط البحري العام، في منطقة الروشة، أشبه بثكنة عسكرية. كأن ثمّة حرباً اندلعت هناك، أو إعلان طوارئ حصل، أو شيئاً من هذا القبيل. تلك المنطقة التي تُصر الدولة، ومعها بلدية بيروت، على تصنيفها سياحية من الطراز الرفيع، كيف تبقى سياحية وهي أشبه بساحة حرب! اللافت أن كل هذه الخطوات، التي بادر إليها «مالكو» تلك الأرض، كان يمكن أن تُنجز في يوم واحد، ولكن يبدو أنهم كانوا «يجسّون» نبض الناس ويراقبون ردود الفعل. لم يجدوا من يقول لهم: «ماذا تفعلون؟» من جهة الدولة، ولم يجدوا بلدية يمكنها أن توقفهم عند حدهم، وحتى ردّ الفعل الشعبي لم يكن بالمستوى المطلوب. كانت هناك فقط «حملة أهلية» لتشجيع الناس على ارتياد الدالية. بدا واضحاً أن كل هذا لم يؤثر في «مالكي» تلك العقارات البحرية، تلك الشركات الاستثمارية التي لا تعرف حدوداً، ولا يفهم من خلفها سوى «لغة الباطون» في أي مساحة ممكنة.
حسناً، بعيداً عن جدلية «الملك الخاص» في «الحيّز العام»... يبقى السؤال: هل بإمكان تلك الشركات المالكة أن تضع الأسلاك الشائكة عند «الكورنيش»؟ ها رئيس بلدية بيروت بلاد حمد يجيب: «عليكم أن تعرفوا أن تلك المنطقة هي، بمعظمها، أملاك خاصة، وليس للبلدية من سلطة خارج «الدرابزين» المعدني، أي بعيداً عن الرصيف». لكن يا حضرة رئيس البلدية، السياج الشائك أصبح ملاصقاً للرصيف، أي لم يعد الحديث عن الشاطئ الصخري هنا، والمساحة الخضراء في الأسفل، بل عن «الكورنيش» نفسه؟ يجيب: «صحيح، سأحاول التواصل مع المعنيين، مع الشركات المالكة، لإيجاد صيغة حل من أجل جمالية المنظر... ليس لدي سلطة هنا أكثر من ذلك، وفي الواقع هذه مسؤولية وزارتي الأشغال العامة والداخلية». يعني هل علينا أن نفهم أن تلك الشركات الاستثمارية - العقارية، يمكنها أن تمنع الناس من مجرّد النزول إلى الدالية، إلى الشاطئ الصخري، وبالتالي إلى البحر؟ يجيب حمد عن سؤال «الأخبار» ببرودة لافتة: «يسلم تمك. هذا صحيح، يمكنهم أن يمنعوا الناس من المرور من ملكهم الخاص، من أرضهم، ويمكنهم أن يشيدوا ما شاؤوا من أبنية ومشاريع هناك، باستثناء مساحة محددة قبالة صخرة الروشة مباشرة، إضافة إلى المسبح الشعبي في الرملة البيضاء، الذي هو بدوره ملك خاص بالمناسبة، ولكن لا يمكنهم البناء عليه». على اللبنانيين أن يسمعوا جيداً كلام رئيس بلدية بيروت، على أبناء العاصمة، وسواهم من المواطنين، أن يدركوا أن المسألة جدية وليست مزحة بتاتاً، وأن المشاريع مقبلة وقد لا يعود بإمكانهم مجرد رؤية البحر أو الصخرة من عند «الكورنيش». جل ما سيفعله حمد، بحسب قوله، أنه سيتواصل مع تلك الشركات «لكي يكون أي بناء يظهر لاحقاً لا يضر بالمشهد العام الجمالي لواجهة بيروت البحرية في منطقة الدالية - الروشة».
أيها اللبنانيون، لا تستغربوا، غداً أو بعد غد، أن يمنعكم حارس ما من الدخول إلى الدالية، بل إلى شاطئ الرملة البيضاء، للسباحة أو للجلوس على الرمال. رئيس بلدية بيروت يقولها، صراحة، ولا داعي للمواربة. الرجل صريح جداً. تلك أملاك خاصة، ليس لكم فيها شيء، دولتكم لا يعنيها استعادة تلك الأراضي من «مستملكيها» سابقاً، وتثبيتها كمساحة عامة للمواطنين. أيها اللبنانيون... ودّعوا البحر، لم يتركوه لكم.