إنه الاقتصاد مصدر قوة أو ضعف أي دولة في العالم، وكذلك مصدر وأساس صعود الامبراطوريات وتراجعها وأفولها عبر التاريخ القديم والحديث.
وتشكل الأزمة الأوكرانية هذه الأيام نقطة تحول في هذا الصراع بين أقطاب قوى الاقتصاد العالمي، فسياسة الغرب الاستفزازية تجاه روسيا ومحاولة التعامل معها كدولة من العالم الثالث عبر فرض العقوبات الاقتصادية عليها لاجبارها على التوقف عن الدفاع عن مصالحها في أوكرانيا، دفعها إلى إسراع الخطى نحو تعزيز علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع الشرق لا سيما مع الصين القوة الاقتصادية الصاعدة بثبات نحو القمة وبقية مجموعة منظمة شنغهاي ودول البريكس الذين يمتلكون قدرات اقتصادية، ومالية وثروات هائلة إلى جانب أكثر من نصف سكان العالم، وتمثلت هذه الخطى اخيراً في حدثين هامين يؤشران إلى التحول الحاصل في العلاقات الاقتصادية والتجارية واستطراداً المالية في العالم.
الحدث الأول: قمة شنغهاي التي تضم دول منظمة شنغهاي للتعاون وهي الصين وروسيا، والهند وطاجيكستان، وفرغيزستان، وكازاخستان، وإيران عضواً مراقباً والتي شهدت أروقتها حدث توقيع ما اعتبر عقد القرن بين موسكو وبكين تورد بموجبه شركة غاز بروم الروسية الوقود الأزرق إلى الصين بقيمة 400 مليار دولار.
الحدث الثاني: انعقاد منتدى سان بطرسبوغ الاقتصادي الدولي، بحضور كبرى الشركات الاقتصادية من دول منظمة شنغهاي وشركات أوروبية، وما لفت أنظار المراقبين والمحللين الاقتصاديين في هذا المنتدى أمران مهمان:
الأول: زيادة حماوة العلاقات الروسية الصينية عبر التوقيع على اتفاق جديد لكن هذه المرة بين شركة نوفاتيك الروسية ثاني اكبر شركة منتجة للغاز في روسيا، وشركة صينية لتوريد ثلاثة ملايين طن من الغاز الروسي المسال للصين.
في حين يبحث الجانبان الروسي والصيني تطوير التعاون في مجالات الزراعة والتعدين والنقل والاستثمار والصناعة وصولاً إلى مضاعفة التبادل التجاري.
الثاني:مشاركة 200 شركة ألمانية كبرى في المنتدى، ما شكل ضربة موجعة للقرار الأميركي فرض الحصار الاقتصادي على موسكو وعكس في الوقت عينه حالة الارتباك والانقسام بين دول الاتحاد الأوروبي تجاه الموقف من قرار فرض عقوبات اقتصادية على روسيا على خلفية الأزمة الاوكرانية.
ويؤشر ذلك إلى حجم الصلات الاقتصادية والتجارية التي تربط ألمانيا بروسيا إلى جانب اعتماد برلين على استيراد الغاز الروسي بنسبة 40% من حاجياتها من جهة والى نجاح استراتيجية الانفتاح الروسية على الشرق، وعلى اأمانيا من جهة ثانية.
الحدث الثالث: رد روسيا على العقوبات الأميركية عبر وضع الآليات التجارية بين دول منظمة شنغهاي والبريكس، لتقليص دور الدولار الأميركي في تعاملاتها التجارية لصالح التداول بالعملات الوطنية.
وفي هذا السياق نظمت الحكومة الروسية في 24 ابريل الماضي اجتماعا خاصاً لإيجاد حل للتخلص من الدولار الأميركي في عمليات التصدير الروسية، استدعى خبراء الطاقة والبنوك والوكالات الحكومية واقترحوا عدداً من التدابير في مواجهة العقوبات الأميركية ضد روسيا، وهذا التوجه الروسي يعكس جدية موسكو، ويشكل خطوة أكثر قوة وتأثيراً على أميركا من عدة نواح:
الناحية الأولى: إن هذه الخطة الروسية تحظى بموافقة الصين وإيران الأمر الذي سيسري على اتفاقيتي الغاز بين موسكو وبكين حيث سيتم التعامل حصريا بالروبل أو اليوان.
الناحية الثانية: تراجع الاعتماد على الدولار في المداولات التجارية بين دول بحجم روسيا والصين وإيران وباقي أعضاء مجموعة شنغهاي والبريكس سيوجه ضربة قوية للعملة الأميركية التي باتت تعتمد في الحفاظ على قوتها على الطلب العالمي عليها
فيما واشنطن تغطي العجز المتفاقم في موازنتها بمزيد من الاستدانة عبر بيع سندات الخزينة، وهذا التطور سيؤدي إلى مضاعفة الأعباء على أميركا واقتصادها لا سيما وأنها تعاني من التضخم والأزمة الاجتماعية على خلفية أزمة الاقتصاد المتراجع، وتدهور صناعة التكنولوجيا.
ويتوقع أن يقود تراجع الاعتماد على الدولار عالمياً إلى تراجع قيمته وإضعاف قدرته الشرائية، واستطراداً إلى تراجع في مستوى معيشة الأميركيين.
ما تقدم يؤشر إلى عدة دلالات:
الدلالة الأولى: أن أميركا والغرب اللذين يرفضان التسليم بفقدان السيطرة على القرار الدولي والاعتراف بالتعددية الاقتصادية والسياسية العالمية يدفعان من خلال ذلك إلى تسريع ولادة مركز آخر للقرار الاقتصادي الدولي يتمثل في منظمة شنغهاي بقيادة روسيا والصين.
الدلالة الثانية: انتقال مركز القوة والثقل في الاقتصاد العالمي من الغرب إلى الشرق، أو في أسوأ تقدير فان العالم سيصبح أمام مركزين للقرار الاقتصادي العالمي في ظل اصرار الغرب على رفض إعادة النظر بالنظام الاقتصادي الدولي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية ويهيمن عليه، فالنظام الاقتصادي الدولي القائم لم يعد يعبر عن الواقع الحالي في ظل التحول الحاصل في مراكز ثقل الاقتصاد العالمي نتيجة الصعود القوي لاقتصاديات دول في مقابل هبوط وتراجع اقتصاديات دول باتت تعاني من الأزمات.
ويحصل ذلك في وقت لا تستطيع فيه أميركا وحلفاؤها شن الحرب على روسيا والصين اللتين تملكان أيضا القدرات العسكرية والنووية المتقدمة للدفاع عن بلديهما ومصالحهما، فيما اللجوء إلى سياسات الحصار لم يعد يجدي في ظل تراجع هيبة أميركا الدولية، وتقلص مكانتها وعدم قدرتها على دفع الدول للتراصف خلفها لفرض الحصار والعزل على الدول المعارضة لهيمنتها، فكيف والحال في مواجهة دولة قوية مثل روسيا تملك كل مقومات الدولة الكبرى؟