كان يُطلق النار، من بندقية حربية رشاشة، في اتجاه «قصر بعبدا» و«الطريق الجديدة». الكثير من الرصاص، وعلى حد زعمه، وصل العدد إلى 400 طلقة. واقفاً على السطح، مرتدياً جعبة عسكرية، وها هو ينتشي مع كل «مخزن» رصاص يُفرغه باتجاه «الآخرين». فعلها من على سطح مبنى في الضاحية الجنوبية لبيروت، وإلى جانبه شبّان، بدوا أصغر منه سناً، شاركوه إطلاق النار. أيضاً. كان هو «قائد» حفلة «المسخرة» بامتياز.
أحمق؟ تافه؟ سخيف؟ جاهل؟ أبله؟ معتوه؟ مشحون؟ طائفي؟ مذهبي؟ قل ما شئت، ليست الأوصاف، بعد، مهمة هنا. يبقى السؤال: هل كان سلوكه فردياً، حالة خاصة، أم أنه في الواقع بات «حالة» تنتشر باطراد؟ ليس وحده في الضاحية، إذ ثمة «رفاق جهل» له، أعداد في ازدياد، وهم على مساحة الأرض اللبنانية. في طرابلس له من يماثله، في الجنوب والبقاع وبيروت وجبل لبنان، لكن من سوء حظه أن وجهه كان بادياً، بوضوح، في الفيديو المأخوذ بواسطة الهاتف. لكن أن يفعلها سواه، في غير منطقة، يعني إعطاءه هذا الحق؟ بأي غابة نصبح عندها؟ أين هو الآن، بالمناسبة؟ لا أحد يعلم. لماذا لم تدخل القوى الأمنية إلى منزله بعد لتوقفه؟ الوفاق السياسي هذه الأيام مع وزارة الداخلية في أحسن أحواله، مع القوى الحزبية في الضاحية، فلمَ لا يُعاقب ويوقف فيكون عبرة لمن اعتبر أو لم يعتبر بعد؟ وزير العدل أشرف ريفي، الذي لا يُحب أبداً البيئة السياسية للضاحية، وهذا ما يجاهر به علناً، بادر بعد رؤيته «الفيديو» إلى تحريك النيابة العامة التمييزية. طلب من القضاء التحرّي عن هوية الفاعل، الذي أطلق النار، والذي حرّك النعرات الطائفية قبل نحو أسبوع، على حد وصف الوزير. اسم الشخص بات معروفاً. بالتأكيد يمكن الطعن بنيات ريفي، في هذه القضية، وإن كانت محقة في الشكل. فكثيرون من «رفاق الزعرنة» يعرفهم ريفي جيداً، وهو لم يبادر إلى طلب توقيفهم، لقربهم منه أو لأنهم محسوبون عليه، وذلك في السياسة وكل شيء في هذه البلاد سياسة.
على كل حال، بعيداً عن النيات المبيتة، سياسياً، لماذا لم يُعرف بعد مصير مطلق النار في الضاحية؟ اتصلت «الأخبار» بالنيابة العامة التمييزية، للحصول على جواب، فكان الجواب: «لا جواب». حسناً، لماذا؟ الجواب: «ليس لدينا ما نعطيه للإعلام الآن». هذا حق القضاة، طبعاً، من حيث الشكل، ولكن في المقابل من حق الناس أيضاً أن يظلوا يسألون ويسألون بلا توقف. أولئك الذين يطلقون النار في الهواء، تارة ابتهاجاً، وتارة غضباً، وتارة حقداً وكرهاً، ولأتفه الأسباب غالباً، باتوا عبارة عن مخلوقات لا تُجيد سوى جلب الأذى لأهلها أولاً، قبل الآخرين، لجيرانها «الضحايا» الذين عليهم الصبر على جعلهم عنوة في ساحة حرب. بات «عادياً» أن يسكت عن رعب الأطفال من الرصاص. كأن هذا مما يُصبر عليه! كثيرون من سكان الضاحية، يوم إطلاق النار في الهواء، قبل نحو أسبوع، كانوا يشتمون كل من يفعلها، ويلعنون الصامتين عن هذا الشواذ، وهؤلاء بالمناسبة لا أحد يزايد عليهم في حبهم للمقاومة. المسألة أبعد من مقاومة، ومن أحزاب وتيارات، إذ ثمة ثقافة منفصلة باتت تتسع شيئاً فشيئاً. ترى لو كان أولئك يفعلونها، من دون أن يجدوا من يصفّق لهم، فهل كانوا يستمرون في فعلهم هذا؟ قد يقول البعض إن هؤلاء غير حزبيين، وهذا ممكن، ولكن أين دور الحزبيين هنا؟ لماذا التزام الصمت دائماً، وفي حالة الكلام يبقى الكلام كلاماً، من دون الانتقال إلى الفعل؟ ما الذي يمنع من الإعلان، بكل وضوح وحزم، أن من سيطلق النار، لاحقاً، سيخضع للقانون؟ أليس يقال: «وجع ساعة ولا كل ساعة؟».
ما الذي يدفع هؤلاء إلى دفع ثمن كميات هائلة من الرصاص، لتبديدها في الهواء باتجاه «الآخرين» في مناطق أخرى؟ هم، لو بحثت في أحوال أكثرهم، تجدهم من الفقراء، فما الذي أقنعهم بأن «كره» الآخر بهذه الطريقة أجدى من المشاركة في تظاهرات مطلبية، من أجل لقمة العيش، أو حتى من أجل المطالبة بتحسين وضع الكهرباء؟ ربما هؤلاء لا يعلمون شيئاً عن هذا، ولكن الذين يعلمون لماذا يصمتون، أين التثقيف المضاد، بدل السكوت عن ظواهر تتضخم مع الأيام وستنفجر بأهلها أول ما تنفجر؟ المخيف أنها ظواهر باتت تأخذ طابع المذهبية، بوضوح، أكثر من قبل. كلها أسئلة تجدها عند الناس، حتى عند المحسوبين على مطلقي النار مناطقياً وطائفياً، ولكن لا يجدون من يجيبهم عنها.
في السابق مات أبرياء في رصاص الابتهاج العبثي في طرابلس، وحصل ذات مرة أن قُتلت سيدة، أم لثلاثة أطفال، في الضاحية. كل ذنبها أنها كانت تقف على الشرفة. حصل ذلك أثناء عرس، لكن، ما هو أخطر اليوم، أن الأمر يحصل من منطلق «كره وجودي» للآخر... فضلاً عن حب الظهور بسذاجة، على ظهر الجماعة والمنطقة، ودائماً ثمّة من يُصفّق. إن حدّثت أحد الفاعلين، عن المنطلقات العقائدية والسياسية، بعمق، للجهات التي يناصرها، فإنك تجده في غاية السطحية والجهل. لا يعرف شيئاً. هو فقط ينتمي إلى تلك «القبيلة» أو ذاك «القطيع». هذا كل ما في الأمر... ويستمر الصمت.