يمر بهدوء، كالعادة في لبنان، خبر الادّعاء على الرئيس السابق لصندوق المهجرين فادي عرموني. لم يعد الأمر «كلام صحف» أو اتهاماً في الهواء أو رأياً شخصياً. إنه ادّعاء من النائب العام المالي، القاضي علي إبراهيم، على عرموني، وذلك في جرم «اختلاس أموال عامة» عائدة إلى الصندوق (المادتان 359 و360 من قانون العقوبات).
عرموني الآن مُحال إلى قاضي التحقيق الأول في بيروت، غسان عويدات، الذي سيكون له قرار توقيفه أو لا. لكن، لماذا لم تأمر النيابة العامة بتوقيف «الموظف الكبير»؟ الجواب، بحسب مصادر النيابة العامة، هو أن «الملف لم يكتمل بعد، بمعنى أنه لا يزال يحتاج إلى جهد، وهذا ما يتوسع به عادة قاضي التحقيق، ولكن ما تأيّد به الادّعاء كان قوياً ولا لبس فيه، على أن تُظهر التحقيقات المقبلة القضية بشكل مكتمل». مهما يكن، سواء أوقف عرموني أو لا، فهو الآن مدّعى عليه، من القضاء، بجرم «الاختلاس». الادّعاء بحد ذاته حدث «ليس عادياً». ماذا اختلس؟ إنها أموال المهجرين، الأموال التي كان يفترض أن تُنهي هذا الملف المأسوي، الموروث من حقبة الحرب الأهلية.
نحو ربع قرن على انتهاء تلك الحرب، وتعاقب الكثير من الحكومات، من غير أن تخلو أي منها من حقيبة اسمها «وزارة المهجرين»... والملف لم يقفل بعد. كأنها قضية أبدية! هل عرف اللبنانيون اليوم لماذا لم ينته هذا الملف بعد؟
إنه عرموني، وسواه من «العرمونيات» في الإدارة، وصولاً إلى الزعامات السياسية التي وظّفت عرموني ثم رفعت عنه الغطاء، ذلك لأنه «لم يلبّ طلبات المعلم كما يجب». كلمات يقولها البعض بمنتهى الصراحة، ببساطة بالغة، ثم تستمر المتاجرة بقضية المهجرين، عبر ندوات ومؤتمرات ومهرجانات... والواقع يقول إنهم كلهم «عرموني».
«لم يلبّ طلبات
المعلم كما يجب». كلمات يقولها البعض بمنتهى الصراحة
مما علمته «الأخبار» عن سلوك عرموني الاختلاسي، خلال عمله في صندوق المهجرين، لسنوات طوال، أنه كان «يُلزّم المشاريع لأشخاص محددين». يعني، لم يكن يعمل وفق القانون، إذ يتصرّف كأن الصندوق صندوقه الخاص، لا صندوق الناس، فيُلزّم المشاريع العامة إلى أشخاص مقربين منه، محسوبين عليه، أو من الذين جاءت التوصية بهم «من فوق». عرموني صغير القوم، صحيح أنه موظف من العيار الرفيع، لكنه، في الواقع، يبقى صغيراً في «لعبة الكبار». أؤلئك الكبار الذين ما زال القضاء لا يطلبهم، وإن حصل وطلبهم فإنهم يحتمون بـ«الحصانة الدستورية». الوزراء محصنون، النواب أيضاً، ومن لم تكن حصانته دستورية تجده يفرضها بـ«الأمر الواقع» السياسي. لقد صرف عرموني، ذات مرة، مبلغ 500 مليون ليرة لبنانية، من غير موافقة أحد، لا ديوان محاسبة ولا وزير ولا حكومة. هكذا، كان يعمل وكأنه يدرك أن أحداً لن يسأله، على قاعدة أن هذا هو «العادي» في لبنان. وعندما سأله رئيس الحكومة، أخيراً، عن حجم المبلغ الذي صرفه خلال فترة ما، أجاب: 23 مليار ليرة. عندها تحرّك التفتيش المركزي، وأجرى بحثه، فتبيّن أن عرموني صرف 46 ملياراً.
سأله المحققون عن هذا التفاوت، بمعنى «لمَ كذبت» على الحكومة؟ فأجاب: «كنت أعتقد أن التفتيش سيجاوب الحكومة عني»!
عرموني أمام القضاء الآن، وقبله إبراهيم بشير، رئيس الهيئة العليا للإغاثة السابق، بانتظار المحاكمة في اختلاس مبالغ هائلة. تمر أخبار من هذا النوع، بصمت، ثم يسأل البعض بسذاجة رهيبة: «كيف أصبح الدين العام على لبنان بهذا الحجم»؟ هل يكون جديداً إن قلنا إننا في دولة «حاميها حراميها»؟ حتى هذه العبارة باتت مملة.