تعدّدت التساؤلات وكثرت النظريّات بشأن السيطرة الواسعة والسريعة لمقاتلين إسلاميّين متشدّدين على مناطق واسعة في العراق. فما الذي حصل؟ وما هي آفاقه؟ وما هي الإرتدادات المحتملة على كل من لبنان وسوريا وإيران؟
بالنسبة إلى التطوّرات المُتسارعة في العراق فهي ليست وليدة ساعتها، وحتى غير مفاجئة لكثير من المراقبين. وجذورها تعود إلى الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، عندما جرى إسقاط الدكتاتور الدموي صدام حسين، وحلّ الجيش العراقي الذي كان يضمّ نحو أربعمئة ألف مقاتل في الخدمة، وما يوازيهم كقوات إحتياط، حيث إلتحق الكثير من هؤلاء المقاتلين النظاميّين السابقين، ومنهم ضبّاط متمرّسون، بمجموعات قتالية إسلامية متشدّدة، إمّا لدوافع مالية أو لدوافع مذهبيّة بعد فقدانهم السلطة والإمتيازات التي كانت من نصيبهم. وقد ساهمت سياسات الحكومات العراقية المتلاحقة، وخاصة سياسة حكومة نوري المالكي المتشدّدة ضد أنصار الحكم السابق، وذات المنحى المذهبي في كثير من الأحيان، بنموّ السُخط في المناطق ذات الأغلبية السنّية، الأمر الذي شكّل بيئة حاضنة لعمل مسلّحي "داعش" وغيرها من الجماعات المتطرّفة. أكثر من ذلك، تعرّض الجيش العراقي الجديد لضغوط كبيرة، نتيجة الهجمات الإنتحارية التي تطاله دورياً، وبفعل أعمال القنص والقتل التي تطال أفراده بشكل دائم، ولو بعيداً عن الإعلام. وفي الأشهر الأخيرة، وإضافة إلى مواجهات الإستنزاف المتفرّقة، وَاجه أفراد هذا الجيش معارك متواصلة في عدد من المناطق العراقية المتمرّدة على الحكومة، خاصة في الأنبار، ضدّ مقاتلين شرسين يقاتلون حتى الرمق الأخير، ويلجأون إلى أعمال التفجير الإنتحارية في كثير من الحالات. وقد فرّ الكثير من عناصر هذا الجيش عند إنطلاق هجمات مسلّحي "داعش" الأخيرة، إما للإلتحاق بالميليشيات المهاجمة لدوافع مذهبيّة وسياسيّة، وإمّا خوفاً على حياتهم، في ظلّ حديث عن خيانات كبيرة وقعت في صفوف عدد من الضباط الكبار الذين جرى نشر أسمائهم عبر بعض وسائل الإعلام.
وبالنسبة إلى المرحلة التي ستبلغها الأمور، فهي مفتوحة على أكثر من خيار. ففي حال تمكّن مقاتلو تنظيم "داعش" الذي يَملك إمكانات مالية كبيرة، بفضل تمويله بشكل دوريّ من أكثر من مصدر يرغب بهزّ حكم المالكي، وبإلهاء طهران من ورائه بمشاكل جانبية، ونتيجة التمويل الذاتي الذي يؤمّنه من خلال عمليات السطو والسرقة ومبادلة المخطوفين، من الإحتفاظ بالجزء الأكبر من المناطق التي سيطروا عليها في الأيام القليلة الماضية، يقتربون أكثر من تحقيق هدفهم بإقامة ما يرمز إليه إسم "داعش"، ألا وهو "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، بعد أن وسّعوا مناطق التواصل الحدودي بين مناطق سيطرتهم في محافظة الرقّة السورية وفي الحسكة بمناطق سيطرتهم في العراق، وخاصة في محافظة نينوى. ومن شأن هذا الأمر أيضاً أن يُسهّل حركة نقل الأسلحة والمسلحين بين العراق وسوريا، مع التسبّب بتبديل كبير عندها لموازين قوى الجماعات الإسلامية المتواجهة. وعمليّة خطف القنصل التركي في مدينة الموصل والمجموعة الإدارية والأمنية التي كانت معه، من قبل مسلّحي "داعش"، ليست إلا للمساومة مع أنقره بشأن إجراءاتها الأمنية الحدودية التي تشدّدت أخيراً، بشكل حرم مقاتلي "داعش" الدعم اللوجستي عبر الحدود التركيّة. والأهم أنّ فرض مناطق سيطرة واسعة لجماعات سنّية متشدّدة في العراق، في الوقت الذي إنطلقت فيه فعلياً إجراءات تشكيل "جيش رديف" بقرار من المالكي، سترفع من إحتمالات إنزلاق العراق كلياً إلى حرب أهليّة، مع وجود تعزيز إحتمالات التقسيم أكثر فأكثر، باعتبار أنّ الأكراد يفرضون حكمهم الذاتي أو "كانتونهم"، وإنقسام باقي المناطق بين نفوذ شيعي متمثّل بحكومة وجيش المالكي، ونفوذ سنّي متمثّل بمسلّحي "داعش" وعناصر وضبّاط حزب البعث العراقي المنحلّ، سيؤدّي تباعاً إلى إقامة "كانتونين" آخرين.
وبالنسبة إلى الإنعكاسات على لبنان فهي ليست فوريّة ومباشرة، بل هي تمرّ بداية بما يُمكن أن يحصل في سوريا، نتيجة هذا التغيير الميداني في العراق، علماً أنّ أيّ توسّع لنفوذ الجماعات الإسلامية المتشدّدة يُشكّل خطراً متنامياً على الإستقرار الأمني العام في كامل المنطقة. ومن شأن هذا التغيير أن يصبّ في صالح الحرب الإعلامية الناجحة التي يقودها النظام السوري على المستوى الدولي، لجهة التركيز على تصوير كل الحراك في سوريا على أنّه مجرّد مواجهة مع مجموعات إرهابية بامتدادات إقليميّة ودوليّة. أمّا الإنعكاسات على إيران، فهي إيجابية أيضاً، لأنها ستضع الولايات المتحدة الأميركية في خانة الحليف ضد الخطر الإرهابي المتنامي في العراق، حيث أنّ واشنطن تواجه حالياً مأزقاً غير مسبوق، لجهة سقوط 4489 قتيلاً خلال فترة إحتلالها العراق، من دون أن تتمكّن من إقامة نظام حليف، حيث صار الحكم العراقي محسوباً على النظام الإيراني. واليوم، يأتي توسّع سيطرة ميليشيات "داعش" على جزء كبير من العراق، ليعيد ما قام به الجيش الأميركي إلى ما دون الصفر، لجهة إنتشار قواعد لجماعات مسلّحة ليست فقط معادية لأميركا، بل خارجة تماماً عن السيطرة، وقادرة على تنفيذ ضربات إرهابية موجعة من دون إمكان محاسبة الجهات التي تقف خلفها.
وبالتالي، ليس مُستبعداً إطلاقاً أن نشهد قريباً ضربات جويّة أميركية ضد مسلّحي "داعش"، ولا أن نشهد دخولاً ميدانياً لقوات إيرانية خاصة وعالية التدريب إلى أرض العراق لدعم الجيش العراقي في هجومه المعاكس المنتظر، لتصبح عندها كل من واشنطن وطهران في خندق واحد، بهدف إعادة الأمور إلى ما قبل الفورة العسكرية لمسلّحي "داعش"، مع توقّع بقاء حال عدم الإستقرار في العراق والمنطقة لفترة طويلة، أيّا كانت نتائج المعارك المرتقبة في الأيام القليلة المقبلة!