لا تكفّ الدولة عن إذلال مواطنيها في لبنان. تكدّس الناس في الشوارع، ليلاً، لمشاهدة «بعض» المباراة الأولى من كأس العالم. منهم من حطّم أجهزة استقبال البث، بعدما اكتشف أن الدولة كذبت عليه وخدعته، ثم تركته فريسة سهلة لشركات الاحتكار التي لا تفهم سوى لغة المال
رجل عجوز، يبدو في عقده السابع، عليه ثياب النوم وقد انتعل «شحاطة» ووقف ينظر من بعيد. في يده كيس صغير، ربما كان يحوي أدويته الخاصة، وها هو يسترق بعض المشاهد من مباراة كأس العالم الافتتاحية في كرة القدم. كان يقف بعيداً عن الشبّان، الذين احتشدوا في أحد مقاهي بيروت، وحيداً. لم يكن «متسوّلاً»، وإن بدا كذلك. رجل كبير، وربما كان لديه أولاد وأحفاد. فعلها بعدما لم تُتح له المشاهدة، في بيته، بسبب احتكار البث. سكان كوكب الأرض برمته كانوا، أمس، يُشاهدون المباراة، أو يمكنهم ذلك لو أرادوا، باستثناء سكّان البلد الذي يحمل ذاك العجوز جنسيته. إنه لبنان. إنه منتصف الليل، عندما التقط أحدهم صورة لذاك المواطن، من على إحدى الشرفات المطلّة، في مشهد «ذلّ» لا تكف الدولة عن الإبداع في إنتاجه باستمرار. إنها الدولة. هذه الكلمة المملة، حد القرف، في لبنان.
في منطقة أخرى، ضمن العاصمة أيضاً، تكوّم عشرات الشبّان فوق بعضهم، القصير منهم يحاول الوقوف على رؤوس أصابع قدميه، يريد أن يُشاهد «المونديال». كل ذلك يحصل في الشارع، أمام المقاهي التي تعرض المباريات على شاشات كبيرة، والشبّان، وكثيرون من كافة الأعمار، كان وما زال وسيظل هوسهم الجميل في كرة القدم... والحديث هذه المرة عن كأس العالم. تلك المناسبة التي تنتظرها البشرية، كل أربع سنوات، لشيء من المتعة الرياضية والتنافسية، بعيداً عن الحروب وروائح الدم والبارود. في لبنان هذا ممنوع. كأن ثمّة من يقول للناس، هنا، إن «القرف» قدركم، وإن مشاهدة القتل وسخف السياسة نصيبكم، وإياكم أن تفكروا في شيء آخر!
يخرج «تلفزيون لبنان» أمس عبر صفحته الإلكترونية، ليقول للناس، كلمات تنفع أن تُدوّن في مؤلفات الكوميديا السوداء: «فكرنا الوعد وعد، طلعت وعد مطربة حلوة... تلفزيون لبنان يشكر كل الذين دعموه، وما قام به من واجب وطني لأنه تلفزيون لكل لبنان ولكل اللبنانيين». لن تُعرض المباريات. انهالت الاعتراضات من المواطنين الغاضبين، على صفحة التلفزيون على «الفيسبوك» لعدة ساعات، بعدما شعروا بأنهم خدعوا وأنهم وضعوا في موقف لا يُبقي لهم كرامة. ألم تظهر الدولة اللبنانية، في بعض الإعلام أقله، كأنها «تشحد» من قطر حق نقل المباريات مجاناً؟ (وزير الداخلية نهاد المشنوق زار الإمارة رسمياً). قطر يعني «الجزيرة الرياضية» ثم وكيلها الحصري في لبنان «شركة سما». حتى «الشحادة» لم تنجح! الزميل الصحافي محمد علوش، الذي كان يتابع الأخبار الواردة عن «التسوّل» اللبناني في قطر، قرر ـ قبل أيام ـ أن يدفع من ماله ويشتري العدّة اللازمة لمشاهدة المباريات بـ«كرامته». قناعته أن الدولة اللبنانية «مُصرّة على إذلال شعبها... يا عيب الشوم». كان هذا قبل أن تخلف الدولة بوعدها ويكتشف اللبنانيون أنهم ضُحك عليهم، أو بمعنى آخر، سُخر منهم ومن كرامتهم. لتشاهد لا بد أن تدفع الكثير، ليس فقط الاشتراك مع تلك الشركة، بل عليك شراء تلك «القطعة» المُشغلة، من عندهم أيضاً وحصراً!
ها هو «تلفزيون لبنان» يُبرّئ نفسه، وفي الواقع ما حصل ليس من مسؤوليته، فيقول على صفحته: «تلفزيون لبنان أعدّ العدة تقنياً وفنياً لنقل حدث المونديال، وعند هذا الحد تقف حدود مسؤوليته، وهو حين وجد أن المونديال تحوّل إلى صفقة تجارية ومالية انتهى دوره وصار دور الدولة اللبنانية. سوف نبقى سوياً ونبني سوياً، لأننا نحن الأصل واللبناني أصيل». أصيل! ربما ترجمة هذه الكلمة، اليوم، هي أن اللبناني «ذليل». التلفزيون تحدّث عن «صفقة تجارية»... فما الحكاية؟ ليس جديداً القول إن لعبة الكرة في العالم أصبحت، في كثير من الأماكن، تجارية، ولكن أن يصل الأمر إلى حد الحق في مشاهدة المباريات من أصلها، مع الإذلال والخداع، فهذا حتماً مدعاة إلى «الكفر» بكل ما يمتّ إلى الدولة بصلة. من لا يصدق ذلك، فما عليه إلا أن يسأل الناس في الشارع، أو فليرصد ردود أفعالهم على مواقع التواصل الاجتماعي. ليلة أمس لم تبقَ «شتيمة» إلا هطلت على رؤوس المسؤولين في الدولة اللبنانية.
ظهر أمس عقد المنسق العام لشبكات توزيع «الكايبل» محمود خالد مؤتمراً صحافياً، قال فيه: «الدولة تهربت من مسؤولياتها، ولم نسمع أي كلمة من أي مسؤول يقول: من كان يريد مشاهدة المونديال فعليه أن يدفع المال للوكيل، فغياب الدولة في هذا الموضوع أمر غير طبيعي». بالمناسبة، مسألة «الكايبل» (الاشتراكات) في لبنان مسألة غير منظمة، أصلاً، إذ ثمة تضارب بين القانون والأمر الواقع، والدولة تعرف ذلك جيداً منذ زمن بعيد، لكن في المناسبات المهمة، مثل كأس العالم، يظهر فشلها إلى العلن أو قل «عفنها». على كل حال، يضيف خالد في مؤتمره: «إذا تفهمنا القضاء والوكيل لفترة محدودة، إلى حين تشكيل لجنة وزارية لإيجاد حل، فسنستمر بالبث. أمس، سجلنا حالات غضب من الشبان غير القادرين على دفع أموال لحضور المباراة، وتلقينا 35 ألف اتصال خلال 45 دقيقة، وعدد من المشتركين حطم الموزعات. نحن جاهزون للمساعدة في إيصال أي خير لمصلحة المستهلك».
ما حكاية القضاء هنا؟ وصلت معلومات إلى «الأخبار» تفيد بأن مكتب حماية الملكية الفكرية، التابع لقوى الأمن الداخلي، وجه إنذارات إلى بعض موزعي «الكايبل» بهدف التوقف عن بث المباريات. مصدر مسؤول في قوى الأمن قال لـ«الأخبار» بوضوح: «نحن ننفذ ما يأتينا من أوامر، هناك إشارة قضائية بذلك، فصاحب شركة «سما» تقدم بشكوى قضائية في مختلف النيابات العامة في لبنان لمنع البث إلا عبر شركته، لأنه الوكيل الحصري، وقد لبّى القضاء طلبه ونحن ننفذ». إلى هذا الحد قوية تلك الشركة، التي يصبح القضاء بأمرها، في لحظة، ثم تحشد القوى الأمنية من أجل «القانون» وتحذر موزعي «الدش»! إنها سلطة المال، مجدداً، التي تُظهر الدولة مرة أخرى على أنها «عامل مخلص» لديها. أكثر من ذلك، ثمة مسألة لا يمكن القفز عنها، حتى باسم القانون، هي أن الدولة عبر قضائها وأمنها طلبت عدم النقل عن محطة «TF1» الفرنسية. حتى هذه ممنوعة! (ماذا عن القناة التركية التي تنقل أيضاً؟). كثيرون كانوا قد لجأوا إلى المحطة الفرنسية، بعد بحث وجهد، وإذ ببثها يختفي فجأة أثناء المباراة. كيف يحصل هذا؟ بأي مسوّغ قانوني؟ تلك المحطة تؤخذ من باقة أخرى، فالأشخاص الذين لديهم «ستالايتهم» الخاص، من غير اشتراك، مُنعوا من تلقي بثها أيضاً! إلى هذا الحد قوية «شركة سما» تلك؟ على أحد ما، من المسؤولين في الدولة، أن يخرج إلى الرأي العام ويجيب عن هذه المعضلة، عن هذا الفجور في الاحتكار، فضلاً عمّا سبق من كذب ودجل على الناس في هذا الموضوع.
ذات يوم غنّى الفنان الراحل حسن علاء الدين (شوشو) «شحادين يا بلدنا». ليته يعود إلى الحياة، اليوم، ليُشاهد بلده «يشحد»، ومع ذلك لا يُعطى ما «يشحده» من الآخرين! ويكمل «شوشو» أغنيته: «طفرانين يا بلدنا، والبنوك مليانين، ومين بدو يشتري مين، وزراء ونواب ورؤساء للبيع، يا بلدنا»... أهلاً بكم في دولة الذل و«الشحادة».