مع تقدّم الأوضاع في العراق، بدأت تلوح في الأفق بعض الاسباب والعوامل التي أدت الى المشهد "الداعشي" المربك للدول قاطبة في ظلّ مواقف وتصريحات ومساومات بدأت بغزل أميركي إيراني عنوانه المقايضة بين الملف النووي من جهة والعراقي المستجد من جهة ثانية، ولم تنته مع الاعلان عن استنجاد العراق بالبحرية الأميركية لشنّ غاراتٍ جوية على المراكز الاستراتيجية التي احتلتها "داعش" في إشارةٍ واضحة إلى منابع النفط والمناطق المحيطة، مرورًا بإعلان الجيش العراقي عن صدّ هجمات جديدة على المناطق المحاذية لآبار النفط، إضافة إلى بروز بعض الاصوات الصادرة عن حلفاء المملكة العربية السعودية، التي اعتبرت أنّ ما يشهده العراق هو مجرد ثورة على الظلم في مشهد مكرر لما حصل في بدايات الحرب السورية.
كلّ ذلك لم يمنع المتصلين بعواصم القرار من التأكيد أنّ الوضع في العراق تحوّل إلى مادةٍ تفاوضيةٍ دسمة تعيد رسم خريطة النفوذ الدولي والاقليمي في العالمين العربي والاسلامي وهو بات خاضعًا لشتى أنواع التحولات العسكرية والميدانية بعد أن دخلت العوامل التركية والكردية والسورية الايرانية إضافة إلى عوامل دولية اقتصادية وسياسية على الخط العراقي الذي طالما شكل الخاصرة الايرانية الرخوة في ظل تناقضات سياسية ومذهبية صارخة ساعدت على إنضاج الحرب وإشعالها في محاولةٍ ناجحةٍ لتوسيع رقعة الحرب على الارهاب، لاسيما أنّ الميدان السوري أثبت صوابية وجهة النظر الأميركية القائلة بمحاربة الارهاب التكفيري على ارض مسلمة وبسلاح مسلم وبتمويل البترودولار، في ما يعتبره المراقبون الوضع المثالي لواشنطن واوروبا واسرائيل على حد سواء. فالاولى التي دخلت منذ عقد من الزمن الى العراق بحجج واهية على غرار ضرورة مصادرة اسلحة الدمار الشامل التي لم تكن موجودة بالاصل كانت ترمي إلى السيطرة الكاملة على أسواق النفط العالمية ووضع يدها على الاحتياط الاستراتيجي العالمي للطاقات الحيوية، وبالتالي فإنها لن تتنازل عن مكاسبها لصالح "داعش" ولا لسواها من الدول المحيطة، بينما الثانية بدأت تشعر بالقلق الزائد جراء اقتراب الارهاب من اراضيها وعمقها الجيوسياسي، في وقت ترى فيه إسرائيل أنّ مصلحتها الحيوية تقضي بوضع مماثل على أساس أنّ توسيع رقعة الحرب على الارهاب وإطالة أمدها تعني بشكل مباشر إضعاف البنى العسكرية والتنظيمية والاقتصادية لدول الجوار. بيد أنّ الدراسات التي أعدّتها الأجهزة المتخصّصة في دول القرار تؤكد أنّ سوريا والعراق تحتاجان إلى أكثر من عشرين سنة لاعادة بناء قواها العسكرية بعد استنفاذ المخزون العسكري الاستراتيجي وتهديم البنى التحتية في معادلة واضحة المعالم وهي أنّ موازنات الدول المذكورة ستتحول بطبيعة الحال لاعادة اعمار ما تهدم إضافة إلى ترميم البنى التحتية المنهارة، وهذه مدة كافية لاعادة التفوق العسكري والاقتصادي الاسرائيلي.
في الموازاة، تحتاج واشنطن إلى مادة جديدة لإدراجها على طاولة المفاوضات بعد أن حصدت إيران نتائج الحرب الباردة الدائرة بين موسكو وواشنطن أكان في أوكرانيا أو في سوريا، فضلا عن تمكنها من التحكم بمفاصل الخليج العربي عبر تحريك الوضع الامني في اليمن من جهة والضغط على تركيا من جهة ثانية لقاء تمرير بعض المكاسب لحكومة أردوغان أولها عدم تحريك لواء الاسكندرون من خلال الضغط على سوريا لعدم استخدام هذه الورقة، وهذا ما يفسّر التقلبات بالمواقف الكردية في مقابل سعي دولي لتثبيت حدود الكيان الكردي تمهيدا لتعويض خسارة تركيا لمشروع الغاز القطري من خلال إعادة إحياء ممرات نفط كركوك عبر الأراضي التركية.