في شهر آذار الماضي، حذر مدير وكالة الإستخبارات المركزية الأميركية (سي.آي.إي) جون رينان أمام الكونغرس من أنّ "الولايات المتحدة الأميركية قلقة من استخدام "القاعدة" بفرعيها "داعش" و"النصرة" الأراضي السورية لتجنيد وتطوير قدراتها بحيث تؤهلها لشن هجمات داخل سوريا وأيضا استخدامها كمنصة انطلاق لهجماتها الخارجية"..
وصحَّت "نبوءة" جون رينان، ذلك أنّ "داعش" استخدمت قاعدتها الخلفية في محافظة الرقة السورية كمنصة أساسية لعملياتها العسكرية باتجاه الموصل. وحسابات "داعش" ليست بسيطة. فالسيطرة من جانبها على الموصل يجعلها مسؤولة عن العاصمة السياسية والإقتصادية للعراق السني ويستتبع تهميشها للسلطة السياسية والقبلية والدينية للعرب السنة.
لا شك أن ما أقدمت عليه "داعش" في الموصل وأدّى إلى انهيار مروِّع للمؤسسة العسكرية السياسية فيها قد فاجأ الجميع. فقد كشف أن البناء العسكري الذي تركته واشنطن بعد انسحابها من العراق أكثر من هش وأن المؤسسة العسكرية تفتقر إلى عقيدة قتالية وأن العصبيات الطوائفية لا تبني وطنا وأن سياسات التهميش ألحقت ضررا بالوحدة الداخلية وفكرة المواطنة... كما أن قانون "اجتثاث البعث" وإعدام الرئيس السابق صدام حسين يوم عيد الأضحى لم يكن في مكانه... وكلها معطيات استفادت منها "داعش" وبنت عليها في ظل انشغال الطبقة السياسية بسياسة عبثية والتنافس على المواقع والمحاصصات.
لقد جرفت "داعش" وراءها جمهورًا مساندًا ليس لها في الأساس. فألحقت مؤقتًا بمشروعها "النقشبندية البعثية" وقسم لا يستهان به من العشائر والقبائل ومعهم كل الذين يشكون من المظلومية والتهميش. فـ"داعش" تطمح لإحياء إعادة الخلافة الإسلامية الممتدة من الساحل اللبناني المطل على البحر المتوسط حتى جبال زاغروس في ايران. فهي تعترض على هيكلية الدول التي ارتكزت إليها اتفاقية "سايكس بيكو" وهي تعتبر أنّ الأوضاع ملائمة لتحقيق حلمها في الإقليم الجغرافي المشار إليه وهي تشق طريقها إلى هذا المشروع عن طريق الدمار والإستفادة من عنصر المفاجأة العدوانية. ولذلك لا غرابة من أن تحدّد ’’داعش‘‘ مفاجآتها في الحلقات الضعيفة مثل لبنان والأردن وخصوصا أنها بدأت تستهوي ’’السلفيات الجهادية‘‘ على اختلافها باعتبار كونها تحمل مشروع الدولة الإسلامية وتوفر له "القواعد المكانية" الآمنة من الرقة إلى الأنبار إلى الموصل وإلى التواصل مع "بيئات آمنة" بدأت تستهويها وتميل له لما يمكن أن يوفره لها من إمكانات مختلفة ومتنوعة ومن حمايات...
والواضح أنّ السلطة السياسية في بغداد قد تحتاج لأشهر لاستعادة الموصل. ومثل هذه الإستعادة غير ممكنة في اللحظة الراهنة خارج تدخل عسكري مباشر دولي أميركي وايراني... ودون هذا التدخل تحول أسباب كثيرة. فواشنطن تؤثر الحلول الدبلوماسية المقرونة بضربات عسكرية محدودة عبر طيرانها ولا تريد إعادة قواتها البرية إلى العراق إلا إذا استشعرت أن مصالحها مهدّدة فعلا. كما أنّ إيران وضعت عمليا سقفا لتدخلها العسكري بحماية الأماكن المقدسة دينيا أي الحؤول دون وصول "داعش" إلى سامراء والنجف وبغداد علمًا بأنّ التدخل العسكري الايراني يكشف إلى حدود بعيدة أن التقديرات الايرانية للمسار السياسي العراقي لم تأخذ في الإعتبار وزن المتغيرات في المشهد السني العراقي وضعف العلاقة العضوية الايرانية بالمكونات العراقية خارج البيئة الشيعية.
معالجة الوضع العراقي تحتاج إلى دقة وإلى رؤية سياسية تحاول أن تستعيد لحمة المجتمع العراقي بكل مكوّناته. فالإندفاع إلى الحلول العسكرية فقط يستتبع اشتعال الحرب الأهلية وتمزيق العراق إلى كانتونات وإلى اشتباك في النفوذ الاقليمي وإلى تغيير لاحق في خريطة المنطقة عبر امتداد النار إلى كل المحيط العراقي. فتثمير الغرب للأزمة السورية لإضعاف موقع دمشق ودورها كان من نتائجه تظهير "داعش" في العراق التي استفادت من هشاشة النظام العراقي ومن عدم تشديده على بناء المواطنة التي لم يكن "المحافظون الجدد" في الإدارة الأميركية حريصين عليها والذين عبَّر عن موقفهم المنظر ريتشارد بيرل عندما استنتج بأن "من يضع يده على بغداد يصادر بلاد الهلال الخصيب حيث لا تاريخ للدولة". وكان بيرل قدر أن المصلحة الأميركية هي في إعادة بناء دول الهلال الخصيب على قاعدة تفكيكه إلى قبائل وطوائف وخصوصا في لبنان وسوريا والعراق مستثنيا الأردن واسرائيل.
من حسن الحظ أن الرئيس الأميركي باراك أوباما لا يميل إلى سياسات المحافظين الجدد ولا إلى فلسفة ريتشارد بيرل، وأنه يميل إلى "تسوية عراقية" ترتكز إلى المصالحة الوطنية. ومن هنا فإن استراتيجية "داعش" لا تلتقي مع التوجه الأميركي الرئاسي. وهذا ما يفسر تسريعها لاحتلال المدن بحيث تسابق "الحل الأميركي" الذي ينزع نحو استيعاب المكونات العراقية ولو افترض ذلك إعادة النظر بقانون "اجتثاث البعث" بغية إحياء البعد القومي وابعاد التحالف الظرفي بين "داعش" و"البعثية النقشبدية". وهذا مرهون بمدى وحدود التعاون الأميركي – الايراني وعدم استبعاد الدور السوري في طمأنة تنظيم حزب البعث في العراق وفي قراءة جديدة لعلاقة ايران مع سنة العراق على قاعدة البعد القومي وليس فقط على قاعدة "الصحوة الإسلامية".
الوضع في العراق شديد التعقيد وأية تسوية تفترض تفكيك عناصر الأزمة ومقاربتها من زاوية جديدة تقتضي تنازلات متبادلة... و هذا هو الأسلوب لقطع الطريق على تمدد "داعش" إلى الداخل اللبناني حيث الوضع الأمني يشكل مصدر قلق بالغ للولايات المتحدة وفقا لتقديرات وزير الخارجية الأميركي جون كيري وإلى الداخل الأردني وأبعد من ذلك إلى الداخل الخليجي والداخل الأوروبي والأميركي... وهكذا يمكن للعراق كمصدر خطر أن يكون مدخلا لتسويات متعددة بين اللاعبين الأساسيين الأميركي والروسي بمشاركة اللاعبين الاقليميين الايراني والتركي.
قد يكون السياسي العراقي أحمد الشلبي السبّاق إلى استقراء ما يجري في العراق. فهو أخذ على السلطة العراقية وقت الخلاف مع نائب الرئيس العراقي السابق طارق الهاشمي طريقة المعالجة ورأى وقتها أن الأمر سيؤدي إلى توتير العلاقة بين المكونات العراقية وإلى تقارب بين تركيا والأكراد في العراق وتباعد بين بغداد وأربيل وإلى نزوح عراقي نحو الكانتونات.
* رئيس المجلس الوطني للإعلام