قالها رئيس "اللقاء الديمقراطي" النائب وليد جنبلاط، "فلنحافظ على ​لبنان​ الجنرال غورو قبل أن نندم ويكون قد فات الاوان"..

جملة بسيطة أراد من خلالها "البيك" الدعوة لنبذ الخلافات السياسية ووضعها جانبًا وتوحيد الرؤى لمواجهة العواصف والأعاصير "التقسيمية" المحيطة بنا من كلّ حدبٍ وصوب، ولكنّها تحمل بين سطورها الكثير من المعاني والدلالاتٍ عن وطنٍ لا يزال هو هو منذ أيام الجنرال غورو، أيام الانتداب الفرنسي وما يُعرَف بـ"دولة لبنان الكبير"، وطن لا يزال أسير الرهانات والعصبيات نفسها، وطن لا يزال يبحث عن هويةٍ "ضائعةٍ" ولا يجدها..

"لبنان الجنرال غورو"...

يعود "لبنان الجنرال غورو" إلى الحقبة التي سبقت الاستقلال اللبناني الرسمي الذي تحقق في الثاني والعشرين من تشرين الثاني 1943، ذلك اليوم الذي اضطرت فيه حكومة فرنسا للإعتراف بإستقلال لبنان التام بعد صمود اللبنانيين حكومة وشعبا ومقاومتهم الباسلة في وجه الانتداب الفرنسي.

أما "الجنرال غورو"، أو هنري جوزيف أوجين غورو، فليس سوى المفوض السامي الفرنسي الذي أعلن في أيلول 1920 قيام دولة لبنان الكبير(1)، والتي طبعت فترة الانتداب الفرنسي على لبنان والتي نتجت عن الحرب العالمية الأولى وسقوط الامبراطورية العثمانية وبحسب تقسيمات اتفاقية سايكس-بيكو التي تم تأييدها لاحقا بقرارات من عصبة الأمم صدرت عام 1920 وأجازت نظام الانتداب على المناطق العثمانية المتفككة بذريعة المساعدة في إنشاء مؤسسات للدول الجديدة.

وخلال فترة الانتداب، فوّضت فرنسا بعض رجالاتها لحكم وإدارة شؤون البلاد عرفوا بلقب المندوب السامي أو المفوض السامي، وكان هذا المفوض السامي يقيم في بيروت وله صلاحيات مطلقة في التشريع والتعيين، وقد بقي الوضع على هذه الحال حتى اتفاقية الهدنة في 14 تموز 1941 بعيد الحرب العالمية الثانية أو ما عُرف باستقلال الجنرال كاترو المزيّف، حيث برزت الحركة المقاومة والتي طالبت بإستقلال لبنان التام وعودة الحياة الدستورية إليه وإجراء إنتخابات نيابية حرة وتشكيل حكومة وطنية صحيحة.

استقلالٌ منقوصٌ وأكثر..

الحياة الدستورية، الانتخابات الحرة، الحكومة الوطنية.. مطالبٌ حملها اللبنانيون منذ مرحلة ما قبل الاستقلال ولا يزالون يحملونها حتى يومنا هذا، وإن بأشكالٍ مختلفة.

تحقّق الاستقلال، عاش لبنان أزماتٍ وحروباً بالجملة، انتقل من وصايةٍ إلى أخرى، اضطر لعقد أكثر من مؤتمرٍ وحضن أكثر من اتفاقٍ للخروج من أزماته، ولا تزال الصورة هي هي، لم يتغيّر فيها حرفٌ واحدٌ.

اليوم، يعيش لبنان أزمةً حقيقية في بنيته وهيكليته ونظامه، أزمة لم تعد بخافية على أحد، وهو العاجز عن انتخاب رئيسٍ للجمهورية بعد تربّع فخامة الفراغ على عرش الجمهورية لمرّتين في أقلّ من سبع سنوات، وهو الذي يبدو دستوره "معلّقاً" بحبالٍ من "ورق" لن تقوى على منعه من "الانهيار" عندما "تدقّ الساعة"، وهو أيضًا الذي يعجز عن مجرّد التوافق على قانون انتخابي عصري وحضاري ويتمسّك بقانونٍ يكفي اسمه ليُظهِر كيف أنّ الزمن "لفظه"، وهو الذي بات أعجز لا عن إجراء انتخاباتٍ نيابيةٍ نظيفةٍ فحسب بل حتى من تنظيم مباراةٍ رياضيةٍ خوفًا على ما يُسمّى "السلم الأهلي".

هذا هو لبنان اليوم، غير السيّد ولا الحرّ ولا المستقلّ. هذا هو لبنان، الذي أثبتت كلّ التجارب أنّ استقلاله ليس سوى بالاسم، استقلالٌ لا يزال يحتاج إلى الكثير ليُنجَز، في النفوس قبل النصوص، النفوس التي لا تزال "الطائفية" تتحكّم بها و"المذهبية" تسيطر عليها، وسط سريان بدعة ما يُسمّى بـ"الديمقراطية التوافقية" التي لا يشكّ أحد بأنها "صناعة لبنانية حصرية".

من مفوّضٍ إلى مفوّضين!

أكثر من ذلك، ورغم كلّ سلبيات مرحلة "الانتداب" في مسيرة أيّ وطن، وهي المرحلة التي ولّدت فكرة "المقاومة" من أجل التحرّر، لا يزال عددٌ غير قليل من اللبنانيين "يترحّمون" على هذه المرحلة، بل يعتبرونها "نعمة" بالمقارنة مع الواقع المعاصر.

ولهؤلاء وجهة نظرهم التي قد تبدو مُقنِعة إلى حدّ كبير، وهم ينطلقون من أنّ لبنان لا يزال بلدًا "تحت الانتداب"، شاء من شاء وأبى من أبى، بل إنّ المفارقة، أنّ الانتداب بات اليوم متعدّد الأشكال والولاءات. فإذا كانت فرنسا في السابق هي التي تتحكّم بالأمور من ألفها إلى يائها، فإنّ التدخل في الشؤون الداخلية بات مفتوحًا اليوم على مصراعيه لكلّ من يرغب، وهنا أصل البلاء. هكذا، لا يزال لفرنسا كلمتها في الداخل اللبناني، ومعها الولايات المتحدة الأميركية، في حين لا ينكر أحد وزن المملكة العربية السعودية والثقل الذي تمثله إيران في المقابل، وبينهما سوريا التي، ورغم أزمتها المزمنة وجراحها العميقة، ما زالت قادرة على اللعب في السياسة الداخلية، مع بروز لاعبين جدُد على الساحة برهنوا قدراتهم خلال السنوات القليلة الماضية وفي مقدّمهم قطر وروسيا وغيرهما.

باختصار، وبدل المفوّض الواحد الذي كان يأمر وينهي ويعيّن ويشرّع، بات اليوم مفوّضون بالجملة من يتحكّمون بمصائر العباد والبلاد، مفوّضون لا يفعلون عمليًا سوى تعميق الأزمة، ليبدو لبنان الغائب الأكبر وسط هذه المعمعة عن مركز صنع القرار والضحية الأكبر لـ"لعبة الأمم" التي لا تزال تتخذ من الساحة اللبنانية "صندوق بريد" يُستخدَم في الكثير من الأحيان لـ"تصفية الحسابات" أو "إرسال الرسائل" في الحدّ الأدنى.

فتّش عن وطن!

لا اليوم شبيهٌ بالبارحة ولا هو التاريخ يعيد نفسه. التاريخ هو هو وعقارب الساعة لم ولن تعود للوراء. الخلل هو أولاً وأخيراً فينا نحن اللبنانيين، فنحن من شرّعنا أبوابنا، ونحن من استسلمنا وأعلنّا عجزنا، ونحن من ننتظر دائمًا الخارج ليحلّ لنا مشاكلنا، بل نحن من نرفع أسقفنا ونصعّد خلافاتنا بانتظار ضوءٍ أخضر دولي وإقليمي نعيد تموضعنا بموجبه وكأنّ شيئًا لم يكن، ونحن أيضًا اليوم من نربط استحقاقنا باستحقاقاتٍ دوليةٍ وإقليميةٍ بالجملة، ومن نرفض ترتيب بيتنا الداخلي بمعزلٍ عنها..

الخلل فينا أولاً وأخيرًا، نحن الذين حوّلنا السفراء لـ"مفوضين سامين" يتدخلون بالشاردة والواردة، ويخرقون كلّ الاتفاقيات الدولية وفي مقدّمتها اتفاقية فيينا دون أن يجرؤ أحد على محاسبتهم أو أقله مساءلتهم، ونحن الذين ارتضينا بهذا الواقع بل عزّزناه وكرّسناه على كلّ الأصعدة، ونحن الذين رفضنا أن نتّعظ من تجاربنا، فكرّرناها كلّها ولا زلنا مستعدّين لتكرارها دون أن نسأل أو نكترث بالنتيجة، رغم إدراكنا لمرارتها..

هو وطنٌ لا تزال هويته مفقودة وضائعة، فهل من يعثر عليها قبل فوات الأوان؟!

(1)ضمّت دولة لبنان الكبير ولاية بيروت مع أقضيتها وتوابعها (صيدا وصور ومرجعيون وطرابلس وعكار) والبقاع مع أقضيته الاربعة (بعلبك والبقاع وراشيا وحاصبيا) فاتسعت مساحته من 3500 كلم مربع الى 10452 كلم مربع وازداد سكانه من 414 ألف نسمة الى 628 ألف نسمة.