أماطت زيارة وزير الخارجية الأميركية جون كيري للعراق عن ثلاثة اهداف تسعى واشنطن الى تحقيقها هي:
أولاً:ممارسة الضغط المباشر على رئيس الوزراء نوري المالكي للقبول بتشكيل حكومة عراقية «مقبولة»، حكومة ترضي واشنطن من خلال اشراك القوى الموالية لها فيها، وبدا واضحاً أن كيري عمد إلى بذل الجهد لتأمين موافقة الأحزاب الكردية الحليفة لأميركا على الاشتراك بالحكومة في سياق خطة تستهدف ايجاد بيئة سياسية عراقية تتلاءم مع التوجه الأميركي تعيد انتاج نفوذ الولايات المتحدة في السلطة، وتبرير ذلك من خلال القول إن هذا هو السبيل لمواجهة تقدم داعش.
ثانياً: توظيف الدعم الكردي للضغط أيضاً على المالكي للموافقة على تقليص دور الدولة المركزية لصالح تكريس نظام تعددي، طائفياً ومذهبياً وعرقياً يقوم على تعميق الانقسام بين فئات الشعب العراقي تحت عنوان اعطاء الأقليات المزيد من السلطة للحد مما سمي بموجة الغضب ضد الحكومة في بغداد.
وثالثاً: مطالبة المالكي توفير الحصانة للمستشارين الأميركيين الثلاثمائة الذين سيأتون لمساعدة الجبش العراقي على مواجهة داعش، ومعروف أن الهدف من هذه الحصانة هو حماية الضباط والجنود الأميركيين من التعرض لأي محاكمة عراقية في حال ارتكابهم جرائم في العراق، وهو ما شكل سابقاً أحد نقاط الخلاف بين بغداد وواشنطن حالت دون بقاء جنود أميركيين في العراق بعد انسحاب القوات الأميركية المحتلة عام 2011.
وبغض النظر عما اذا كانت القفزة التي قام بها تنظيم داعش في العراق بالسيطرة على بعض المدن واستغلال الاحزاب الكردية في الشمال تراخي قبضة الدولة المركزية وتراجع سيطرتها بالمسارعة إلى السيطرة على محافظة كركوك الغنية بالنفط وجميع المناطق المحيطة بها والتي تركت في الدستور، الذي وضعه الحاكم الأميركي بول بريمر في زمن الاحتلال، مناطق متنازع عليها يجري البت فيها من حلال استفتاء، قد حصلا بتنسيق مسبق مع الولايات المتحدة أم أن الأخيرة استفادت من هذه التطورات وتوظفها في اطار خطتها لابقاء العراق جرماً يدور في فلك استراتيجيتها والتي تعطل تنفيذها بعد انسحاب قواتها منه عام 2011، فالنتيجة واحدة وهي أن واشنطن لديها أجندة واضحة تسعى الى تنفيذها في العراق ووجدت الآن الفرصة مواتية تماما لتحقيقها وتستهدف تحقيق غايات عبر وسيلتين:
الغايات هي:
أولاً: منع توحد العرق في اطار دولة مركزية قوية، وبالتالي المساعدة على تكريس اقامة ثلاثة كيانات سياسية على أساس طائفي ومذهبي وعرقي:
ـ كيان عرقي كردي في الشمال اكتملت جغرافيته بعد أن سيطرت قوات البشمركة الكردية على جميع المناطق التي تعتبرها جزءا من اقليم كردستان الذي تشكل كركوك بالنسبة للأكراد تاجه، وقد اعلن حاكم الاقليم مسعود البارزاني انه لن ينسحب منها حتى لو تمت عودة سيطرة الجيش العراقي على المناطق التي سيطر عليها مسلحو داعش.
ـ كيان آخر سني في الغرب حيث يسيطر حالياً تنظيم داعش ومجموعة قوى متحالفة معه.
ـ وكيان ثالث شيعي ويضم بغداد والجنوب وبعض مناطق الوسط.
ثانياً: تشكيل حكومة عراقية «مقبولة» ما يعني أنها يجب أن تضم في صفوفها القوى الموالية لأميركا والتي شكلت الغطاء للاحتلال الأميركي عندما كانت المقاومة العراقية تخوض غمار حرب استنزاف القوات الأميركية لتحرير العراق من احتلالها له.
ثالثاً: اعطاء الحصانة القانونية للمستشارين الأميركيين الذين سيتولون مساعدة الجيش العراقي على مواجهة داعش. وهذا يعني حمايتهم من أي مساءلة قضائية عراقية في حال ارتكبوا جرائم في العراق يعاقب عليها القانون العراقي.
أما الوسيلتان الأميركيتان لتحقيق هذا التقسيم للعراق تحت عنوان فدرالي أو اعطاء المزيد من السلطات لهذه الأقاليم فهما:
الوسيلة الأولى: الأحزاب الكردية التي تدين بالولاء لواشنطن وشكلت إلى جانب قوى أخرى رأس الحربة أو حصان طروادة في تمكين القوات الأميركية من احتلال العراق عام 2003. وذلك مقابل مساعدة أميركا الأكراد على اقامة دولة كردية لهم في الشمال، وتمكين القوى الأخرى من الوصول إلى السلطة وحكم العراق.
وبدا واضحاً أن زيارة كيري لاقليم كردستان واجتماعه مع بارزاني استهدفت التنسيق بين الجانبين لتحقيق الخطة الأميركية مما دفع بارزاني إلى مطالبة أميركا على مساعدته على تحقيق طموحاته بالاعلان الدولة الكردية التي اكتمل بناء مؤسساتها وحدودها الجغرافية ولم يبق سوى الشرط الثالث وهو توفير البيئة الدولية والاقليمية للاعلان عن ولادتها رسمياً.
الوسيلة الثانية: هي استخدام خطر ارهاب داعش وربط المساعدة العسكرية الأميركية للعراق لمواجهة هذا الخطر ومنع تقدمه باتجاه سامراء وبغداد بموافقة بغداد على الشرط الأميركية الآنفة الذكر.
هكذا بات من الواضح أن أميركا تشترط اتخاذ أي تدابير عسكرية لمنع تحول داعش إلى تنظيم «جهادي عالمي» يهدد دول المنطقة والدول الغربية نفسها، بالموافقة على مطالبها المذكورة التي تحول العراق إلى دولة فدرالية على اساس ثلاثة اقاليم.
ويبدو أن أميركا تريد تحقيق أمرين في آن معاً :
الأول: تجنب تنامي خطر القاعدة ووصوله الى تهديد أمن الدول الغربية.
الثاني: استغلال خطر داعش وتقديم المساعدة للعراق لفرض مخطط تقسيم العراق تحت عنوان اقامة نظام فدرالي بما يمكن أميركا من استعادة نفوذها ومنع تحول العراق إلى دولة مستقلة خارج التبعية للسياسة الأميركية.
من هنا عاد شبح تقسيم العراق ليخيم من جديد عبر داعش والتوظيف الأميركي لخطره، وطموحات الأكراد لاستغلال الظروف لاقتناص فرصة الاعلان عن دولتهم التي اكتملت شروطها وتنتظر المباركة الأميركية.