أن ينشر كاتب مسيحي راق كسركيس نعوم كتاباً عن مرجع شيعي استثنائي كالعلامة محمد حسين فضل الله، فهذا بحد ذاته استثناء ورقيّ في هذه الايام. ففي زمن الفتن المذهبية وتناهش الطوائف والعرقيات والأقليات، لا مكان للوفاء أو للكلام عن وحدة الاديان والمذاهب. لعل في توقيت النشر محاولة من الكاتب زرع وردة في صحراء هذا الوطن العربي المثخن بجراحه.
«العلّامة» كتاب من 190 صفحة، أراده سركيس نعوم عربون «صداقة وسيرة و23 سنة» وفق عنوانه. كان يمكن أن يضيف الى العنوان عبارة أخرى تقول: «فكر وأسرار السيد فضل الله الذي لن يعرف الناس مدى انفتاحه وحريته وتقدمه إلا بعد عقود طويلة». شأنه في ذلك شأن كبار المفكرين الحقيقيين في صلب هذا الدين الحنيف.
هي أولاً سيرة شاب عرف البؤس منذ نعومة أظافره. عاش طفولة فقيرة في النجف حيث دفن والده بينما والدته راقدة في السيدة زينب بسوريا. شرب الماء المالحة من البئر. هرب من قيظ النهار الى الدهاليز المظلمة. لم يناقض ظلمتها إلا فكره المشرق الذي بشّرت به باكورة اهتماماته وانفتاحه.
وهي ثانياً قصة أسرار لبنان وعلاقته بسوريا وإيران والفلسطينيين وقصة تفجيرات وخطف قيل الكثير عنها فناقضتها رواية فضل الله.
منذ الصفحة الاولى، يروي العلامة فضل الله تمييزاً طبقياً في النجف نفسها. بعض أبناء الوجهاء كانت لهم الأفضلية. ومن الصفحات الاولى يعلن أنه منذ طفولته كان ضد مشاهد الدماء في مواسم عاشوراء. يقول: «كنت أشعر بالتقزز من منظر الدماء».
لم يمنع فقر الحال وبؤسه الطفل المعمم وهو في الثانية عشرة من العمر من التعبير عن فكر منفتح «أوسع من أفق عيشه». قرأ لأحمد شوقي وحافظ إبراهيم والأخطل الصغير والياس أبو شبكة وصلاح لبكي، تماماً كما قرأ ترجمات لكبار كتاب الغرب على غرار لامارتين واناتول فرانس. كان يقول بجرأة القافز فوق محيطه الملتزم المحافظ والمنغلق: «كنت محاوراً منذ البداية. ولم أكن أتعقد ممن يختلفون معي في الفكر، ولا سيما الشيوعيين الذين كانوا يزورونني وأزورهم».
ماذا في الأسرار؟
لم يبدِّل سركيس نعوم في دوره كناقل أمين لما يسمع. هذا كان دأبه في كل علاقة الصداقة العميقة التي جمعته بالسيد فضل الله، بعد أن جمعهما الزميل مصطفى ناصر. حرصه على أمانة النقل جعلته ينشر الكتاب على شكل أسئلة وأجوبة حصيلة جلسات متكررة.
الإمام الصدر قُتل
في ردّه على سؤال عن مصير الامام موسى الصدر، يجيب السيد فضل الله مباشرة: «إحساسي بأن السيد موسى الصدر قُتل، واستُشهد، لأنه ليس من الاشخاض الذين يُخطفون ليبقوا... إني أتصور أن السيد موسى الصدر قد تجاوز خطوطاً حمراء عربية وربما تجاوز خطوطاً حمراء إيرانية، وخصوصاً حين شن الحملة على الشاه... كما أن هناك التقاءً طبيعياً مع هذه الخطوط، ولا سيما العربية منها، والخطوط الفلسطينية ليست بعيدة من هذه الأجواء في تصوري».
في الكشف عن هذا السر، يؤكد العلامة أن القذافي كان على الأرجح «أداة». ويعتقد أن غياب السيد هو قضية فلسطينية انسجمت مع قضية ليبية. ويروي أن الإيرانيين وكذلك نائب الرئيس السوري سابقاً عبد الحليم خدام مقتنعون باستشهاده.
الجميّل والأسد
من الأسرار كذلك تفاصيل عن علاقة التقدير والاحترام التي ربطت العلامة مع الرئيس الراحل حافظ الأسد. يروي فضل الله أنه في أحد اللقاءات مع الأسد سأله: «لماذا تلتقون مع أمين الجميّل وهو من الكتائب الممثلة للسياسة الانعزالية ضد العرب والعروبة»، فأجابه الرئيس السوري: «إنه وفيٌّ لنا، ونحن نفي لمن يفي لنا».
أما في توصيفه للرئيس الحالي بشار الأسد فيقول العلّامة عن لقائه به: «رأيت أن الرجل يمتلك متابعة دقيقة للأحداث السياسية، ويمتلك فضيلة الإصغاء والاستماع والتحليل. كان يسأل عن أدق الاشياء بالنسبة الى الوضع اللبناني...».
في الكتاب تفاصيل اللقاء والخلاف بين العلامة والشيخ الراحل محمد مهدي شمس الدين، وقصة العلاقة مع إيران وسوريا. فيه أيضاً تفاصيل عن حقيقة العلاقة مع حزب الله وكيفية نشوء المقاومة. وفيه توصيف دقيق للعلاقة مع القادة الإيرانيين، من الإمام الخميني الى المرشد السيد علي خامنئي.
فخلافاً لما هو شائع، يبدو العلّامة اللبناني المجاهر بحريته الفكرية والفقهية والمرجعية حيال الدول الإقليمية والأحزاب، مقدراً لدور السيد خامنئي. يقول عنه إنه «يمتلك الفكر المتحرك والخبرة، وهو ليس ظلامياً ولا محافظاً.. وإنما منفتح على الفكر الإسلامي المعاصر، وترجم بعض كتب السيد قطب.. وحين كان يتحدث عن لبنان، فإنما ليشدد على ضرورة الانفتاح على اللبنانيين الآخرين.. وكان يتحدث عن اللقاء مع المسيحيين والسنّة».
في هذا الكتاب القيّم رغم الاقتضاب، نفهم أن الحرب بين «أمل» و«حزب الله» كانت من بواكير الصراع السنّي الشيعي، و«كان لمصر والجزائر والسعودية دور فيها»، وأن سوريا لم تسمح بأي عمل في لبنان لأي جهة حتى ولو كانت إيران بعيداً عن الخط السوري. لكن العلامة يشدد على ضرورة أن يطمئن اللبنانيون سوريا دائماً أن لبنان لن يكون ممراً أو مقراً للتآمر عليها. فسوريا هي الممر البري الوحيد للبنان بعد إغلاق ممر فلسطين. و«الموارنة الذين يمثلون المشكلة في لبنان هم سوريون بحسب تاريخهم».
في الكتاب يبدو السيد فضل الله رجلاً مقدّماً لبنانيته على رغبته في إقامة جمهورية إسلامية. يقول: «لو سئلت هل تفضل أن يكون لبنان جمهورية إسلامية أو أن يبقى على صورته الحالية؟ لأجبت ببقائه، لأن مصلحة الاسلام في بقاء لبنان بهذه الصورة هي أكثر من تحوله جمهورية إسلامية».
يبدو وفاء الكاتب لصديقه الراحل كبيراً، ليس فقط في النقل الدقيق وفي توقيت النشر، ولكن أيضاً في إلزام نفسه واعتزازه بهذه الصداقة. فهو يدعو إلى أن يحظى كل اللبنانيين «برجال دين من وزنه وقماشته وعقله وفكره وحكمته ومعرفته وصدقه وإخلاصه وقدرته على التطور الطبيعي وليس على التكويع».
هذا كتاب واجب القراءة لكل من يريد أن يفهم شيئاً من أسرار ما وصلنا اليه من فتن مذهبية. فتن حذر منها العلّامة فجوبه بتقارير المخابرات وفق ما يروي. حسناً فعل سركيس نعوم بنشره الآن وبدقته المعهودة.