على مدى عصور، راكمت شعوب العالم حضارات متعدّدة، ومتنوّعة، بعضها آتٍ من عمق التاريخ، وبعضها الآخر هو نتاج حداثة مدهشة جعلت أفلاك السماء وأسرارها في متناول الإنسان!
صحيح أنّ تلك الحضارات تعرّضت في أزمنة معيّنة لغزوات همجيّة على يد هولاكو وجنكيزخان وأمثالهما، فأُحرقت مكتبات كانت خزائن للفكر والعلوم، ودُمّرت صروح كانت لتشكل اليوم إرثاً وتراثاً تدّعيه وتفاخر به الإنسانيّة جمعاء.
هكذا كان الأمر في أزمنة غابرة، وهي غير منسيّة إذ لا تزال تلتفت إليها الذاكرة بحزن وأسى عميقين.
عبر القرصنة «والغزوات» كانت الهمجيّة ترتكب المجازر وتحرق البنيان وتعتدي على معالم العمران في كل مكان. وبذريعة «الإيمان» نشبت حروب بين مذاهب وطوائف لعلّ ساحاتها الأخيرة بقيت مشتعلة حتى الأمس القريب.
تخلّلت تلك الحروب عمليات وحشيّة كان بعضها أسلوب نضال لأجل الحريّة والتحرّر، فيما كان الاستعمار سبباً لمعظمها، «والاستعمار» مدان طبعاً لأنه بذاته عدوان على حرية الإنسان، وعلى سيادة الأوطان، بل صيغة مموّهة لنهب الثروات واستعباد الشعوب.
أما اليوم فأصبح الإرهاب «أسلوب حياة» لجماعات هويّتها هويّة القتلة، وهوايتها الذبح وحزّ الاعناق ودكّ دور العبادة مساجد وكنائس ومحو الأضرحة وإزالة معالم المقامات ذات المهابة!
في الطريق الى هذه الارتكابات الوحشيّة تُنهب الممتلكات، ويُسطى على خزائن المصارف وثروات الأرض، ما فوقها وما تحتها سواء بسواء.
تلك هي بعض هوايات «داعش» بأصولها وفروعها ومشتقاتها «والمبايعين» لها طوعاً، وغالباً قسراً تحت رهبة السيف.
قيل إن «داعش» ظاهرة جديدة ولدت في العراق في ظل الاحتلال الأميركي لتلك البلاد قبل حضورها المسلّح في الميادين السوريّة – بل قيل أيضاً إنها أينعت وترعرعت في ظل الرعاية الأميركية لتكون جزءاً من المشروع الذي عرّف بالهدف منه كولن باول على أنه «إعادة تشكيل المنطقة وفقاً للمصالح الأميركية».
كان السائد في « الإرهاب « بكامل أوصافه وأسمائه الحركيّة أنه مجموعة من الخلايا النائمة أو الناشطة! أي مجموعات قوامها أفراد… أما الآن فتحوّلت «الخلايا» الى جيوش تضاهي عدّةً وعديداً وعتاداً، الجيوش النظاميّة لبعض بلدان المنطقة.
الحدود المعترف بها دولياً هي عادة أحد تعبيرات سيادة الدول على أرضها، ودلالة على هويّة مواطنيها. غير أن الإرهاب ممثلاً بأمرائه وبـ»الخليفة الداعشي» لا يعترف بالحدود ولا يراعي لها حرمة، بل هو كما يزعم من يقيم «حدود الله» سبحانه وفقاً لمعتقده ومعتقد أتباعه.
بين أفغانستان «طالبان» وأسامة بن لادن من ناحية، «ودولة الخلافة في العراق والشام» من ناحية أخرى، صلات رَحَمْ وصلات قربى حميمة جداً. إنها العلاقة بين الأصل والفرع، وهذه العلاقة تأخذ حالاً خطاً بيانياًّ تصاعديّاً على مستوى التشدّد والتعصّب والإجرام والرفض والتكفير، بحيث لا يكون لأي آخر مختلف في عالم «داعش» مكان!
بالأمس سمعنا خطبة «الخليفة» الداعشي فعاد الى الذاكرة شيء من خطبة الحجاج بن يوسف في «أهل العراق»، بخاصّة منها ما يتعلق بالأعناق التي أينعت وحان قطافها! ولعل «الخليفة الداعشي» بات صاحبها.
كيف ينبغي للعالم أن يكون في دولة «داعش»؟ كيف ينبغي للإنسان أن يعيش في الأرض التي تمددّت فيها «داعش» عبر صيغة «الإمارات» أو «المحافظات» أو «الولايات»؟
نموذج بن لادن ودولة «طالبان» في أفغانستان يحضر الآن في الأذهان. ومن المفيد التذكير بأن دولتين في العالم كلّه اعترفتا بتلك الدولة هما باكستان والدولة العربيّة التي جرى التعريف بالحرف الأول من اسمها.
النموذج إذن هو بلاد يكون فيها العلم والتعليم بمفهومه السائد حراماً. وحدها المدارس الدينية التي تعلّم الحقد وتروّج للقتل حلال! ويكون فيها التلفزيون وقاعات السينما والمقاهي وأماكن اللهو وملاعب الرياضة حراماً! ويكون كتاب المطالعة محرمّاً، وكذلك الصحف! وتكاد تلحق بالمحرّمات الابتسامة، فيما يلحق بها حتماً الفن على إطلاقه، موسيقى وغناء ورسماً ونحتاً، وسائر وجوه الإبداع!
جميع شرائع العالم المعاصر محرّمة، سواء كانت مواثيق وعهوداً دوليّة أو توافقاً منسّقاً بين أبناء مجتمع واحد متنوّع ومتعدّد. وهذا يشمل حكماً الشرعة الأممية لحقوق الانسان، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والاتفاقيّة الأوروبيّة لهذه الحقوق.
هكذا إذن يكون عالم «داعش» عالماً «سعيداً»، الكلّ فيه يشبه الفرد، والفرد مطابق للكلّ، ولا حاجة بالتالي إلى حقوق الإنسان عامة، ولحقوق المرأة خاصة، فالمرأة ولولا كونها ولاّدة لا لزوم لها!
قد تكون «داعش» ومثيلاتها من الأسماء الحركيّة لجماعات ظلاميّة وتكفيريّة ظاهرة عابرة، وقد يطول زمن التعامل معها. غير أن مجتمع الإنسان في كلّ مكان بات على مفترق يقتضي معه الاختيار ليس بين الأديان السماويّة ومذاهبها، وفي طليعتها الإسلام والمسيحية بل بين حضارة عالم مؤمن بالقيم الإيمانية والمثل الإنسانيّة، ومعتقد يعود بحضارة العالم الى الفكر الظلامي الى ما قبل الجاهليّة، أو جاهليّة العصر الحجري!
مصير حضارة العالم الى أين؟ السؤال ليس مطروحاً على الدول المعنيّة بالإرهاب حالاً فحسب… العالم كلّه معنيّ بالسؤال وبالجواب عنه، عبر تفاهم دوليّ هدفه إيجاد الوسائل الكفيلة بإنقاذ حضارات العالم من خطر «الوحش» الذي يعدّ العدّة لإطاحتها.