منذ أكثر من 15 سنة يجري استغلال أزمة المياه لتسويق خصخصة موارد لبنان المائية، لكن هذه المرّة جرى التهويل بأن ندرة المتساقطات تستدعي حلولاً مثل استيراد المياه من تركيا، ودعم شراء قوارير المياه من القطاع الخاص المحلي. «تنهيبة» الدعم معروفة بوقعها على الخزينة العامة... فيما المياه متوافرة، لكن هناك من يريد أن يسطو على ريوعها من خلال تعطيل ادارتها واساءة استثمارها؟
ما هو مطروح اليوم تحت عنوان «معالجة أزمة شحّ المياه»، انه ببساطة على درجة السوء نفسها لمشروع خصخصة موارد المياه الذي يرُوّج له منذ سنوات، بل هو مثير للغثيان، لأنه يستغل حاجات الناس المائية من أجل نهب المال العام والسيطرة على موارد المياه. هذا ما ينطبق على اقتراحي استيراد المياه من تركيا وشراء المياه من شركات القطاع الخاص المحليّة.
فلا أزمة المياه بدأت اليوم، ولا شحّ المياه وصل إلى درجة الجفاف، ولا السارقون توقفوا عن ابتكار طرق اللصوصية. هي سرقة منظمة تحت إشراف وتنظيم السلطة التي تركت أزمة المياه تستفحل إلى درجة إخضاع اللبنانيين لأي من الخيارات التي تقدّم أمامهم من دون أي تفكير بعد إيهامهم أن الشحّ وصل إلى درجة الجفاف، فيما هم في الواقع، يشترون المياه من باعة متجولين يحصلون عليها من جوف الأرض بالطرق غير الشرعية، وهذا يمنح الأزمة توصيفاً ملازماً هو أزمة إدارة المياه، تضاف إليها أزمة فوضى الاستثمار.
باختصار هي ليست أزمة جفاف كما تصوّرها لجنة الطاقة والمياه النيابية. أبرز دليل على ذلك، أن لبنان يهدر سنوياً أكثر من 1.2 مليار متر مكعب من المياه. كل هذه الكميات تذهب إلى البحر من دون أن يهتزّ جفن أي مسؤول. وتزداد خطورة الأمر عندما يتبيّن أن وزارة الطاقة والمياه تُدرك، وهي على علم تام، بأن لبنان دخل في دورة شحّ المياه منذ أكثر من 15 سنة، وأنها أعدّت خطّة عشرية لبناء 27 سدّاً في عام 1999 من أجل مواجهة هذا الشحّ الناتج عن تغيّر المناخ وتأثيره على المياه السطحية والجوفية.
برغم ذلك، تصرّف ممثلو السلطة في جلسة لجنة الطاقة والمياه النيابية أول من أمس، كأنها ازمة جفاف طارئة ومفاجئة. ظهّروا الأمر كأن انخفاض نسبة متساقطات الشتاء الماضي يستدعي معالجات سريعة وضاربة عبر القطاع الخاص، لا تخطيطا لحسن ادارة هذا المورد الطبيعي. واللافت أن الاقتراحات التي خرجت عن جلسة اللجنة جاءت منسجمة مع السلوك النمطي للطبقة السياسية، الذي يغلّب مصالح المافيا على المصلحة العامة. لطالما كان هذا النمط يترك حاجات الأسر، من كهرباء ومياه واستشفاء وتعليم واتصالات وسواها من الخدمات العامة، بلا معالجة بهدف استغلال «الظروف الطارئة» لتكريس أمر واقع يستفيد منه زبائن الحاكمين.
استيراد المياه
من تركيا أم شراء مياه الشركات المحلية
يمكن تخزين 850
مليون متر مكعب من المياه لو أنشئت السدود
هذا ما حصل بالتحديد، ففيما كانت وزارة الطاقة والمياه تقترح «التنسيق مع شركات تعبئة المياه الخاصة لتزويد المواطنين بقوارير مياه للشرب بأسعار مخفضة خلال شهري آب وتموز وآب وأيلول»، كان رئيس اللجنة النيابية محمد قباني يقترح «استيراد المياه من تركيا بواسطة بالونات مائية عملاقة»، بدا الامر كما لو انها سباق على ريوع المياه ومن يريد ان يسطو عليها.
هكذا «هطلت» الحلول من «سماء» لجنة الطاقة والمياه النيابية. علماً بأنها ناقشت موضوع المياه منذ أكثر من 15 سنة. فعلى سبيل المثال، عقدت اللجنة ندوة في مجلس النواب في شباط 2002، حيث قال نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي باسم رئيس المجلس نبيه برّي: «إن أزمة المياه التي يشهدها لبنان في السنوات الأخيرة، وإمكانية تعاظمها مستقبلاً تدفعاننا إلى... رسم سياسة مائية...».
ابحث عن المصالح الخاصة
كل هذه السنوات مرّت من دون أن يتوقف الحديث عن الازمة المنتظرة، إلا أنه لم يتخذ أي إجراء أو يُنفّذ أي علاج لتلافي العجز المائي المتوقع، باستثناء إنشاء سدّ شبروح. صحيح أن خطّة إنشاء السدود أقرّت في مجلس الوزراء، وأقرّ تمويلها مجلس النواب من خلال قانون برنامج في عام 2002، لكن الخطّة بقيت حبراً على ورق مثلها مثل عشرات الخطط التي وضعت لتطوير بنية الخدمات العامة في لبنان، سواء في الكهرباء أو في غير مجالات.
يستعيد احد الخبراء أزمة مائية مماثلة شهدها لبنان في 2009 حين تراجعت نسبة المتساقطات فتأثّر المخزون الجوفي سلباً. لم يطل الأمر حتى طرح وزير الطاقة والمياه جبران باسيل موضوع الشراكة مع القطاع الخاص كعلاج، وانبرت وزارة الطاقة والمياه إلى تسويق «مشاركة القطاع الخاص في البنية التحتية للمياه في لبنان»، بحسب عنوان إحدى ورش العمل برعاية الوزارة. يومها كانت الورشة قائمة على معطيات عرضتها ممثلة برنامج الأمم المتحدة مارتا رويداس، وعلى «العلاج» الذي قدّمه رئيس المجلس الأعلى للخصخصة زياد الحايك. رويداس قالت إن 80% من الأسر والعائلات اللبنانية تعاني نقصاً في المياه في فصل الصيف أسبوعياً، و50% في الشتاء. أما حايك، فتحدّث عن الشراكة مع القطاع الخاص كوصفة جاهزة لأزمة شحّ المياه، ثم سانده باسيل، مشيراً إلى ضرورة «تحديد الحوافز التي يمكن أن تقدمها الدولة إلى المستثمرين، ومتطلباتهم، والضمانات للطرفين، إذ لا يجوز فتح سوق أمام احتكارات تتحكم في الأسعار».
إذاً، طروحات الخصخصة ومشتقاتها لم تتوقف، فيما كانت الحاجة تزداد، لكن ما اقترح أول من أمس بلغ حدّاً من الوقاحة لم يألفه اللبنانيون، فالطرحان المقدمان، سواء في استيراد المياه من تركيا أو التنسيق مع شركات المياه الخاصة ليس لهما سوى هدف واحد وهو نهب المال العام. الطرح الأول ظهر قبل أشهر على لسان المدير العام لمؤسسة مياه بيروت جوزف نصير، واستمال قباني وعددا من النواب، لكن اعادة طرحه اول من أمس استدعى انسحاب المدير العام للموارد المائية والكهربائية فادي قمير من جلسة اللجنة النيابية؛ فهل يُعقل أن يستورد لبنان المياه من تركيا، فيما يهدر لبنان أكثر من 1.2 مليار متر مكعب من المياه في البحر، ولم يبنِ سوى سد واحد خلال 15 سنة. هذا السدّ، أي سدّ شبروح يخزن اليوم 4 ملايين متر مكعب من المياه، وبرغم أن طاقته الاستيعابية هي 8 ملايين متر مكعب، إلا أن هذه الكمية كافية لتجنيب كسروان أزمة شحّ. وفي رأي خبراء اتصلت بهم «الأخبار»، لو أن هناك عدداً كافياً من السدود المنشأة لتجنب لبنان أزمة الشحّ بعد تخزين أكثر من 850 مليون متر مكعب من المياه. وإذا كان اللبنانيون سيموّلون كلفة استيراد المياه من تركيا عبر الخزينة العامة، ألم يكن الأجدر بالنواب محاسبة الحكومات المتعاقبة على عدم تنفيذ مشاريع سدود؟ ألم يكن الأجدر تمويل مشاريع السدود كجزء من الحلّ بدلاً من تمويل سلوك مافياوي لن يستفيد منه سوى شركة خاصة تكلّف استيراد المياه من تركيا، وتكون مقرّبة أو محسوبة أو متشاركة في الباطن مع مرجع سياسي أو حزب طائفي ما.
المياه موجودة... غير موجودة!
لكن كيف يستورد قباني المياه إلى بلد لم تنقطع فيه المياه؟ الإجابة تكمن في الطروحات المتناقصة في لجنة الاشغال. الاستيراد من تركيا مناقض لاقتراح شراء المياه من القطاع الخاص المحلي. الأول يعني أن لا مياه لدينا، فيما الثاني يؤكد وجودها. وبالتالي ما هي النتيجة العلمية التي يتبناها النواب. وتنسحب على ذلك أسئلة إضافية: كيف تؤمن الأسر اللبنانية حاجاتها من المياه حالياً؟
إن التعبير الأدق عن الموضوع هو أننا نعاني حالياً أزمة شحّ، لا انقطاع. فالشحّ يعني أن هناك عجزاً مائياً في توفير المياه بالقنوات النظامية، ولا يعني أن الموارد غير موجودة، ولا يعني أن الكميات المستغلّة من المياه كافية لتلبية الحاجات. وبحسب دراسة أجراها الخبير محمد فواز للمركز الاستشاري للدراسات والتوثيق قبل نحو أربع سنوات، تبيّن أن عجز لبنان المائي يبلغ 690 مليون متر مكعب وأن هناك كميات متاحة غير مستعملة تقدّر بنحو 300 مليون متر مكعب، لكن رئيس قسم الاقتصاد في الجامعة الأميركية للعلوم والتكنولوجيا بسام همدر، يؤكد أن هذه الأرقام عن سنوات سابقة، ولا تعكس حقيقة الواقع الحالي الذي تدهور أكثر فأكثر إلى أن انخفضت حصّة الفرد من استهلاك المياه من 1000 متر مكعب سنوياً إلى 900 متر مكعب والمنحى تراجعي. ويؤكد همدر أن «هناك شقا من هذا العجز ليس طبيعيا، فعلى سبيل المثال فإن نهر الليطاني وحده فيه أكثر من 500 مليون مكعب تذهب سنوياً إلى البحر هدراً».
لكن ليس هذا النوع من الهدر هو وحده السائد في قطاع المياه. ففي اعتقاد همدر أن لبنان يصاب بـ«نشفان» سطحي وجوفي. فالمتساقطات تقلصّت مع التغيرات المناخية من 1200 مللمتر إلى أقل من 900 مللمتر، أما المياه الجوفية، فتعرّضت لطلب هائل من خلال أكثر من 100 ألف بئر ارتوازية تسحب المياه من جوف المياه وغالبيتها غير شرعي. وبالتالي، هذه الآبار هي مصدر المياه للسكان. لهذا السبب، فإن اقتراح وزارة الطاقة والمياه «وضع يدها على الآبار الخاصة لتنظيم عملية توزيع المياه على المواطنين بطريقة عادلة وبأسعار مخفضة» يمثّل جزءاً من العلاج.
إذاً، ما قيمة التنسيق مع شركات المياه الخاصة في لبنان لبيع قوارير مياه الشرب بأسعار مخفضة، في مجال مكافحة الشحّ؟ الإجابة لا تأتي إلا في سياق عرض واقع أن شركات المياه تسحب المياه الجوفية اللبنانية، أي الموارد اللبنانية، وهي تنتج أكثر من 800 مليون متر مكعب سنوياً من المياه، وتصدر منها نحو 35 مليوناً، وتبيع الباقي في السوق المحلية، فهل يعني التنسيق معها أنه يجب دعم توفير مياه الشرب من الشركات الخاصة؟ هل ستغوص الحكومة اللبنانية في «تنهيبة» الدعم مجدداً وتمويل أرباح الشركات التي أصلاً هي تسحب موارد ليست ملكها، بل ملك عام تحت الأرض؟
المصارف أيضاً وأيضاً
اللافت أن أحد المقترحات يصل إلى درجة تنفيع المصارف، التي تحصل على القروض المدعومة من مصرف لبنان، مقابل دعم القروض الإنتاجية. ويشير هذا الاقتراح إلى «التنسيق مع المصارف لتسهيل حصول المزارعين على قروض ميسرة لاستبدال أنظمة الري التقليدية بالأنظمة الحديثة كالري بالتنقيط أو الرش». ألا يعرف واضعو هذه الاقتراحات أن مشكلة القطاع الزراعي وتوسيع مداها تكمن في كلفة الأرض وكلفة الري، وأن القروض الزراعية قروض ذات مخاطر عالية ترفض المصارف الانخراط فيها برغم الدعم الذي تحظى به، وذلك من دون فوائد كبيرة وضمانات هائلة لا يملكها صغار المزارعين ومتوسطيهم.
في رأي همدر فإن لبنان دخل في مرحلة الخطر التي توجب تصنيفه ضمن «خطّ الفقر المائي»، خلافاً لما كان عليه في الستينيات والسبعينيات حين كان لبنان يمتلك ثروة مائية لا بأس بها. والأنكى من ذلك كلّه، أن وزارة الطاقة قرّرت أن تحفر مجموعة آبار سريعة لتلافي أزمة نقص المياه الجوفية، حيث تبدو في بعض المناطق واضحة، وفي بعض المناطق اللبنانية الأخرى غير ظاهرة، لكن وزارة المال لم تحوّل أي قرش لأن «الاعتمادات غير متوافرة، ولا يمكن صرف الأموال قانوناً» يقول مصدر مطلع.
ويعتقد خبراء آخرون أن أحد أهم المخاطر الجيواستراتيجية التي تحدق بلبنان من قبل الكيان الاسرائيلي، أنه يهدر مياهه ولا يعرف كيف يستثمر هذه الموارد التي تحتاج إليها بلدان لديها عجز مائي كبير بسبب النقص في مواردها الطبيعة. قد يقول هذا الكيان: «انتم غير جديرين بإدارة هذه المياه، بل نحن الأجدر».