لا "للمتصرّفية"، لا "للإنتداب"، ولا "للوصاية"...

نعم للبنان، السيِّد، الحُرّ، المُستقلّ...

د. ​نبيه غانم

لبنان

يبقى؟... أو لا يبقى؟...

يضعني هذا التساؤل أمام إحراج كبير.

فمجرد طرحه، يعكس ليس فقط المعاناة التي حاصرت لبنان، ومنذ زمن بعيد، وإنما أيضاً البحث عن أسبابها ومسبّبيها، وكشف هوياتهم، وتحديد العوائق التي تحول دون تكرارها وبذل الجهود الممكنة لإزالتها.

فهل من مخرج من هذه العوائق التي تحدث الصدمات البنيوية المتتالية في حياة الوطن وتهز عمق طبقات وجدانه، وتضرب جسده وتشوّه وجهه وتمزق وحدته وتبعث به نحو الاضطراب وعدم الاستقرار، واضعةً إيّاه في خانة الدول المهددة بوجودها؟...

وهل من بدائل إنقاذية لهذه العوائق، تقي البلاد وتنقذها من قتامة آفاق التغيير، وتجترح الحلول الفاعلة لتقفز بها فوق جروحها وندوبها العميقة؟

في الواقع، إن استذكار ما جرى ويجري لهذا الوطن الحبيب، شكل ويشكل مشهداً حافلاً بالتعصب، والتخوين، والتخويف. كما يشكل حلقة جهنميَّة، تترابط فيها الأزمات السياسية والدينية، المتلاحقة، والمتواصلة، من دون التمكن من أن نرى نهايتها.

وإذا كان حلّها غير سهل، فهو غير مستحيل، وذلك يوجب استنفار ضمائرنا وقوانا الفعلية، ومخزوننا الثقافي، الذي لا نهدأ عن التغني به، كما يستدعي منا جميعاً، على اختلاف طوائفنا، ومذاهبنا، وأحزابنا، أن نشرب جرعة من إكسير الإنسانية، والحضارة، والوصايا الإلهية، والوقوف وقفة تاريخية، حاملين راية واحدة، هي راية الوحدة، والتراحم، والأُخوة، والشراكة، والتعايش الهادف في بناء وطنٍ، يحقق أمنيات جميع مكوناته وأطيافه، ثائراً على أخطائه، مستفيداً من تجاربه، محققاً الكرامة والعدالة والحرية، والمساواة، والعيش الهادئ الحضاري والمستدام، ليس قط لأجيالنا الحاليّة، بل للأجيال التي ستتعاقب بعدنا، وإلاّ فما الذي نتركه للورثة الذين أتينا وسنأتي بهم، وهل نساهم في توريثهم عقولاً صدأت، وطرقاً أقفلت، فأدت على ما نحن نعاني منه اليوم؟

هل تسمح الظروف الراهنة، الوطنية، والإقليمية، بتحقيق هذا المخرج؟

إذا لم يكن هذا المخرج سمناً وعسلاً، فهو ليس بالتأكيد باروداً ودماً. وإذا ما انتصرنا على أنفسنا، وغلبنا روح الشر، تمكّنا من إثارة اهتمام القطاع المفكر، والمثقف، والناشط، من المشتغلين بالشأن العام، وتنبهنا إلى التحايل، والاستغفال المتبادل، الذي يكتنف صيغ النقاش، فإن الحل آت بشرط البدء باستعراض الأسباب التاريخية التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه، فغلبت على امتداد القرون، ولعقود، نخْبَ حكمٍ متدنّية المستوى في الحياة السياسية، واقعةٍ تحت وطأة علل قاتلة، بدءاً بالأطماع الخارجية بالأرض اللبنانية، مروراً بالطائفية، والمذهبية، ومفاسد معظم السياسيين، الذين تولوا إدارة الشأن العام وصولاً إلى ديمقراطية هزيلة، وكاذبة، ما كان لها، مجتمعةً، ومنفردةً، أبشع العواقب على مشروع بناء لبنان الحضاري، ووضعه أمام الآثار المدمّرة على امتداد التاريخ.

ولنبدأ بالمداخلات الخارجية، وعليه، فلنقرّ باختصار لمحات من تاريخ بلدنا، بدءاً بتداخل القوى الخارجية وأطماعها والتركيز على مواقع ضعفنا في مواجهتها وبخاصة الطائفية وصولاً الى التنشئة الوطنية، الحجر الاساسي لإعادة بناء الوطن الديمقراطي الحُرّ، السيِّد، والمستقلّ.

أولاً: المداخلات الخارجية وأهدافها

1- بداية من التاريخ القديم المدوَّن

إن وظائف اللاعبين الأجانب في خلق العوائق الوطنية، مترسِّخة، متنامية، متكاملة في الدول المشرقية بصورة عامة، وفي لبنان بصورة خاصة. وهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالماضي، وبالتالي ليس باستطاعتنا أن نتجاوزها، أو نتغاضى عنها لأن المعالجة الصحيحة للقضايا الكبرى، يجب أن تستند إلى معرفة تاريخية واسعة المدى، وبعيدة العمق، في مضمونها، وفي تردادها، وذلك ما يجعلنا نستريح وننتشي ونصبح قادرين وناقدين لواقعه الحاضر، وقادرين على مواكبة التقدم والتطور، والاستفادة من عبره، لمواجهة الحاضر، وبناء المستقبل، الذي هو جزء من مستقبل المجتمعات المشرقيِّة.

لقد كان لبنان ولا يزال جزءاً من دول المشرق العربي، وساحة تجاذب وتصارع بين قوى خارجية، كانت ولا تزال تبني قوتها على التوسع، لأسباب جيو-سياسية، وتجارية، في مرحلة الأولى، لتضيف فيما بعد، العامل الديني، مستثمرةً من خلاله تعدديتنا، وإقامة الشروخ التي عصفت بنا بعد العصور الماضية.

لقد اعتمدت الجهات الخارجية منذ ثلاثة آلاف سنة الإنقضاض على الساحل المتوسطي، ومنه سوريا ولبنان لأسباب تعود إلى العامل الجيوسياسي والتجاري.

فلقد بدأ الأكاديّون في الألف الثالث قبل الميلاد، وانطلاقاً من بلاد ما بين النهرين، في بسط سيطرتهم على سوريا والساحل الشرقي لدول البحر الأبيض المتوسط، بما فيها الساحل اللبناني، جاعلين من ذلك التوسع وسيطاً للتجارة بين الهند، والخليج العربي، وبلاد الأناضول، حتى مصر، ومدخلاً للاستفادة من المربع التاريخي والذي يتضمن البحرين، المتوسط والأحمر من جهة، ومن البحر الأسود والدردنيل من جهة ثانية.

وتوالى بعد ذلك الصراع على منطقتنا وللأهداف عينها البابليون، والحوريّون، والحيثيون، الذين ما لبثوا أن إنهاروا جميعاً أمام قوة الأشوريين الذين سيطروا على طريق الصين، وآسيا الوسطى، والعراق، وسوريا. الى أن حلت مكانهم في العقد الرابع قبل المسيح الإمبراطورية الفارسية، التي أقامت قوة عظمى جديدة، وتلاها فيما بعد المقدونيون (334 ق.م.) حيث خلف الإسكندر أباه على عرش مقدونيا فَدَحَرَ الفرس، وفتح أمامه أبواب سوريا والساحل المتوسطي، وسيطر على العراق، وبلاد فارس، وجعل بابل عاصمة له، قبل أن يأفل نجم إمبراطوريته، إثر وفاته، ليعقبها الرومان بقياد يوليوس قيصر، فيجعلوها مقاطعة رومانية، وليصبح المتوسط بحيرة رومانية، سادت على العالم لقرونٍ عديدة، فربطت الشرق الأوسط بأوروبا وشمالي أفريقيا، من خلال وحدة جغرافية وسياسية واقتصادية، شكلت محوراً رئيسياً في استراتيجيات أية قوة عظمى تمتلك الطموح لهيمنة عالمية، إلى أن وصل "الساسانيّون" إلى عرش فارس، فتنافسوا والرومان في القرن الميلادي الثاني قبل أن يعقبهم البيزنطيون، ويجعلوا الساحل الشرقي للمتوسط، بما فيه سوريا، جزءاً من مقاطعة رومانية بيزنطية على امتداد قرون عديدة، ولتشهد صراعاً ثقافياً ودينيًّا، تمركز في القسطنطينية وتوزع بين المسيحية والهلينية والسريانية والأرثوذكسية والنسطورية واليعقوبية والمنوفيزية. وتوالت بذلك صراعات القوى العظمى على المشرق العربي، إلى أن تناقلت بين البيزنطيين والفرس على الجزيرة العربية. وبالرغم من دعم اليهودية للفرس، تمكّن البيزنطيون من قلب الموقف لمصلحتهم (629 ق.م)، واستعادوا سوريا والساحل المتوسطي ومصر والأناضول ثم دخلوا عاصمة الفرس.

غير أن هذا الانتصار لم يدم طويلاً، فلقد خسر البيزنطيون كل ما كسبوه لمصلحة العرب عند ظهور النبي العربي الكريم، فبدأ بنشر الإسلام، مؤسساً الدولة الإسلامية بعد احدى عشر سنة من عودته إلى مكّة، التي تمكنت بعد ثماني سنوات، من توحيد الجزيرة العربية.

وبعد وفاة النبي الكريم (633م) تمكّن الخليفة الأول أبو بكر الصديق (634م) من إعادة فرض سلطة الدولة على القبائل المتمردة (حرب الردة) ليخلفه عمر بن الخطاب الذي دحر البيزنطيين، وتمكن من فتح العراق وبلاد الشام والساحل المتوسطي، ومن بعد ذلك مصر وتونس، ما أتاح للعرب أن يسيطروا بعد مئة عام على المنطقة الممتدة من ضفاف الأطلسي غرباً إلى حدود الصين شرقاً من جهة، وإلى جبال طورس عبر سوريا، ثانياً، وإلى المحيط الهندي عبر اليمن، ثالثاً، الى ان سيطروا على الشرق الأدنى، واستطراداً على شمالي أفريقيا، ومن العراق الى إيران والمناطق المتاخمة للحدود الصينية.

وبعد انهيار الحكم الأموي (750م) بقيت سوريا والساحل اللبناني في يد العباسيين كما بقي شرق المتوسط صلة وصل بين مصر وشمالي أفريقيا. وإثر اغتيال الخليفة المتوكل، أقام أحمد بن طولون خليفته في مصر، ثم وسّع حكمه باتجاه الساحل اللبناني، وجنوبي سوريا. وتعاون مع حاكم حلب، سيف الدولة الحمداني، جاعلاً إيّاه حاجزاً بينه وبين العباسيين، إلى أن تمكن الفاطميون في تونس سنة 967، من احتلال مصر، ونقل عاصمتهم إلى القاهرة، فتعاونوا مع البيزنطيين، وأنهوا الدولة الحمدانية، التي كانت عائقاً أمام التجارة الآمنة، من البحر الأحمر، والمارة عبر شرقي المتوسط.

ومع بداية القرن الحادي عشر، وإثر اغتيال الحاكم بأمر الله الفاطمي (1021م)، وانهيار النظام الأموي في أسبانيا (1023م)، ووقوع المقدونيين في أزمة كبيرة (1056م)، إنهار البويهيون في العراق (1054م)، على يد السلاجقة الذين دخلوا الساحل المتوسطي، متجهين نحو القدس، ومصر، حيث تلقوا هجوماً ساحقاً من الحملات الصليبية، فواجههم فاطميو مصر. من خلال مؤسس منظمة «كشاشون» السرية، حسن الصباح، الذي انتقل إلى سوريا وإغتال الوزير السلجوقي نظام عبد الملك ما زرع الرعب في الشرق لثلاثة قرون انتهت بسقوط السلاجقة، ليستغل ذلك الإمبراطور البيزنطي «كومبوس» ويستعيد الأراضي التي سبق أن خسرها البيزنطيون، مستعيناً بأمراء أوروبا الغربية. لنصرته مقنعاً الغرب، ولأسباب دينية، بنجدتهم، بالإضافة إلى الأسباب التجارية والاقتصادية. وأعلن البابا "أوريان الثاني" بداية الحرب الصليبية، لتحرير الأراضي المقدسة من «أيدي الكفار».

وهكذا بدأت الحروب الصليبية اعتباراً من سنة 1097م، فسقطت بأيدي الصليبين "فيفيا" وأنطاكيا والقدس (سنة 1098م) حيث إرتكبوا مجازر هائلة، خلافاً لتعاليم روما المسيحية، ولكنها جعلتهم قادرين على تأسيس نظام يمتد من أنطاكيا إلى حيفا، في جنوبي فلسطين مروراً بالساحل الشرقي المتوسطي حيث انقسم المسيحيون في ما بينهم، فانضمّت غالبيتهم لنصرة الصليبيين، وليصبحوا قوة عازلة بين القوى المهيمنة في الشرق الأوسط، أي البيزنطيين في الأناضول، والفاطميين في مصر، والممالك السلجوقية في العراق.

وكانت منطقة «الرها» الركيزة الرئيسية للصليبين، والمملكة الأولى التي أسسوها في الشرق، لتكون الأخيرة في مواجهة دولة «عماد الدين زنكي»، الذي تمكن ابنه نور الدين، الملقب بصلاح الدين، من مواجهة الصليبيين، والذي سيطر على مصر وجمع قواه لاجتياح اليمن كيما يؤمن طريقه التجارية في البحر الأحمر، منطلقاً من نفوذه إلى سوريا، مسيطراً على حلب سنة 1176، وعلى باقي المناطق «الزنكية» مؤسساً دولة سوريا والعراق وكيليكيا ومصر والحجاز واليمن، مبقياً على الصليبيين في الساحل المتوسطي، بهدف تسهيل وتنمية التجارة مع الدول الأوربية.

وتوالت فيما بعد الحملات الصليبية الثمانية، فنعمت سوريا بساحلها، بالسلام، وهي حملات كانت شكلية وسهلة محيدةً بذلك عن هدفها الأساسي، وهو تحرير الأراضي المقدسة من حكم «الكفار المسلمين»، لتركز على أهداف أخرى ضد البيزنطيين، منهية من خلال حملتها الرابعة، بتأسيس مملكة لاتينية في القسطنطينية (1024م)، أدت إلى مكافأة الأيوبيين لفريدريك الثاني، ملك ألمانيا، «المحب للعرب»، فوضع القدس والناصرة وبيت لحم تحت حمايته لعشر سنوات.

وفي سنة 1248م، احتل «المغول» بغداد بقيادة «جنكيزخان» فوضع حداً للحكم العباسي بهدف فتح طريق الحرير التجارية، من الصين إلى الشرق، ثم أقبل إلى بلاد ما بين النهرين، وصولاً إلى الساحل الشرقي، حتى جنوب سوريا، حيث صادف أخر حكام المماليك «قطز» الذي كان يستعد لاحتلاله، بهدف الوصول إلى مصر، التي كانت تسيطر على البحر الأحمر، مواجهاً المغول في معركة «عين جالوت» شمالي سيناء، حيث انتصر، ثم عاد وهزمهم، قرب حمص، واجتاح مملكة كيليكيا 1267م.

وفي هذه الأثناء كان المماليك قلقين على الوجود الصليبي في ساحل سوريا ولبنان، خصوصاً بعد أن حاول مبعوثوهم التعاون مع المغول ضد المسلمين، فتوجهوا إلى السيطرة على أنطاكيا، فطرابلس، فعكا، فالمملكة الأردنية سنة 1302، وبعدها، تمكنوا من السيطرة على سوريا، لقرنين من الزمن، باستنثاء الاجتياح القصير، الذي شنَّه تيمورلنك سنة 1319.

وفي سنة 1508م اجتاح الأسطول البرتغالي ساحل شرقي إفريقيا، واكتشف رأس الرجاء الصالح، فبدأت مرحلة جديدة من التاريخ عبر اندحار الأسطول المملوكي سنة 1508، فخرجت سيطرة العرب على التجارة مع الهند، وبسط البرتغاليون سيطرتهم على «هرمز» بجنوب شرقي إيران وعلى مسقط، واليمن وشرقي أفريقيا، والخليج الفارسي، ما أدى إلى أفول نجم المماليك، الذين كانوا يعدّون أكبر قوّة إسلامية في المنطقة.

وبعد حوالي نصف قرن كانت هناك قوة صاعدة في «البلقان»، هي قوة «العثمانيين» الذين تمكنوا من السيطرة على القسطنطينية، ثم وسعوا سيطرتهم، على امتداد قرن من الزمن، على البلقان والأناضول، ما جعلهم يبسطون نفوذهم على أقسام من التجارة الآتية من الصين عبر آسيا وروسيا والبحر الأسود في طريقها إلى أوروبا، وكانوا حريصين على مد سيطرتهم على التجارة في شرق المتوسط، ما أدى إلى احتلال محمد الفاتح للقسطنطينية، وما حوّل العثمانيين إلى قوى عظمى.

وفي هذه الأثناء سيطر «الصفويون» وهم من التركمان على إيران وأسسوا دولة فارس، واعتنقوا المذهب الشيعي، معتمدين على علماء جنوب لبنان، ولكن العثمانيين حسموا الصراع مع المماليك لمصلحتهم، بعد أن ربحوا معركة «مرج دابق» (1516م) فانشق الجيش المملوكي، وانضم قسم منه للجيش العثماني، على أساس أن العثمانيين أجدر منهم لحماية مصر والساحل المتوسطي وصولاً إلى الجزيرة العربية أي إلى الديار الإسلامية.

وهكذا سيطر العثمانيون على سوريا ومصر، التي باتت قاعدة عثمانية، ومن سوريا انطلقوا إلى الحجاز واليمن وأقفلوا البحر الأحمر، ووجهوا جهودهم لطرد الأسبان من شمالي أفريقيا، كما هددوا وجودهم في المحيط، وبذلك ومع نهاية حكم سليمان القانوني 1516م باتت الدولة العثمانية ممتدّة من حدود فيناً في وسط أوروبا، حتى "القوقاز" في الشرق. فكانت سوريا هي التي انطلق منها العثمانيون في السيطرة على العراق ومصر والجزيرة العربية شمالي أفريقيا وشرقها. كما امتدت حتى باب المندب، محولة البحر الأحمر إلى بحيرة عثمانية.

وعليه أصبحت الإمبراطورية العثمانية تسيطر على معظم الأسواق التجارية التقليدية التي شكلت الركن الأساسي للتجارة العالمية منذ فجر التاريخ، ما سمح لها بالتحكم بالتجارة في الشرق الأوسط.

وبين سنتي 1797 و 1798، بدأت حقبة جديدة في الشرق الأوسط، بعد أن ظهر ضعف الدولة العثمانية، من خلال حملة نابليون على مصر، بهدف الانطلاق منها إلى الهند لإزاحة بريطانيا من مستعمراتها الغنيّة، فبدأت المواجهة بين البلدين، بدءاً بتدمير الأسطول الفرنسي في مرسى أبو قير، وأرسل العثمانيون جيشهم عبر شرقي المتوسط إلى مصر ليدعموا الغزو البري، لكن نابليون تمكن من هزمهم في جوار "العريش". غير أنّه شعر بأن وضعه في مصر غير آمن، طالما أن الساحل المتوسطي خارج سيطرته، فجاء إلى فلسطين، وحاصر عكا، ففشل في احتلالها بسبب دعم البريطانيين لها، ليعود إلى مصر، لكن حملته خلفت آثاراً كبيرة، ما دفع السلطان "سليم الثالث" إلى تسريع الاصلاحات والتغيير في الجيش، ما أبرز الأهمية الكبيرة لشرق المتوسط على المستوى الجيو-استراتيجي، فكان أول من لحظ هذا الأمر البريطانيون، الذين احتلوا جبل طارق، وفرضوا سيطرتهم على "مالطا" وفقاً لمعاهدة "فيينا"، التي اعادت ترتيب التوازنات الأوروبية، بعد هزيمة نابليون في معركة واترلو، ما جعل لهم اليد الطولى في البحر المتوسط.

لقد تمكن "شامبليون" العالم الفرنسي المرافق لحملة نابليون، من اكتشاف الحروف الهيروغلوفية، والعبرة التي تركها رمسيس الثاني قبل ثلاثة آلاف عام، ومفادها أن أمن مصر ضمانة لفلسطين عبـر السيطرة على سوريا والساحل المتوسّطي، وهذا يؤكد الأهمية الكبرى للبحر الأبيض المتوسط، ودوره في تحديد العلاقات بين القوى الكبرى، وإنَّ إرساء المبدأ الذي يقوم على تحييد القوى التي تعتمد على البحار، في خطوط مواصلاتها هو ان السيطرة على شواطئ المتوسط ضرورية لمنع أية قوة آسيوية من الوصول إليه، وعرقلة خطوط المواصلات البحرية.

وبات هذا المبدأ أساسياً بالنسبة للقوى الأوروبية، لحفظ أمن القارة من أي خطر يأتي من خارجها، وهو ما دفع فرنسا إلى إيلاء الساحل المتوسطي الشرقي أهمية خاصة، وقد ظهر ذلك من خلال محاولاتها المتعددة، خلال القرن التاسع عشر، لبسط نفوذها عليه لأهميته الاستراتيجية.

وقد أدت الدروس المستقاة من البطالسة المصريين، ومن الصليبيين، إلى اكتشاف أهمية فلسطين بالنسبة إلى مصر. ومن هنا جاء مخطط نابليون لإقامة دولة يهودية في فلسطين، للفصل بين سوريا ومصر كما أدت الحملة الفرنسية للقضاء على المماليك في مصر، التي حكموها على امتداد خمسة قرون، إلى إبراز نجم القائد الألباني محمد علي باشا، الذي كان أحد قادة الحملة العثمانية على مصر عام 1802، فاستعاد مصر من الفرنسيين، وكان له أثر كبير في المنطقة، فأقام حكماً، وجيشاً، قويّين على الغرار الأوروبي. ولتمويل مشروعه التمويني، سيطر على الأراضي الزراعية، وأقام صناعات محلية، وفرض التجنيد على الفلاحين.

وخلال عقدين من الزمن، قدّم الطاعة للسلطان العثماني، وأسدى له خدمة جليلة باستعادة الحجاز من الوهابيين، بعد تدمير عاصمتهم «الدرعيّة»، وأرسل قادتهم إلى المحاكمة في اسطمبول، حيث أعدموا.

وكان الوهابيون نشأوا كدعوة سلفية، في منتصف القرن الثامن عشر، ووسعوا نفوذهم باتجاه نجد، والشواطئ الغربية للخليج، وتمكنوا من احتلال الحجاز (1803م) وإعادة الحج إلى مكة، كما أنهم هاجموا جنوبي سوريا، لتستقرّ منهم فيه قبائل في جنوبي حوران، فبَدّلت اسم مدينة «الأثراء» إلى "درعا" تيمناً بعاصمتهم القديمة.

وبعد ثلاث سنوات أرسل محمد علي جنوده لمساعدة العثمانيين ضد المتمردين اليونانيين، فخسر أسطوله معركة «نافا رينو»، ضد الأسطولين الفرنسي والبريطاني – وكان من نتائجها استقلال اليونان، وظهور ضعف الدولة العثمانية، ليتمّ إعلانها «رجل أوروبا المريض».

وكان "محمد علي" نظم جيشه بمعونة ضباط فرنسيين سبق لهم أن هربوا من معركة «واترلو»، ومنهم الجنرال «سيف» الذي عرف بسليمان باشا الفرنسي. وأدى "محمد علي" واجبه لتعزيز قوته الاقتصادية والعسكرية مستنداً إلى الإبقاء الجيو- الاسترايتجي المصرية في الشرق الأوسط، ووجد من واجبه الدفاع عن الديار الإسلامية في ظل عجز العثمانيين، فكان لزاماً عليه السيطرة على الساحل الشرقي المتوسطي، فاحتل سوريا سنة 1829، ثم تقدم باتجاه اسطمبول، فمَنَعه الاوروبيون من تحقيق مراده ووصل الروس الى اسطمبول وأعلنوا أنهم حماة «الباب العالي»، ما أثار الفرنسيين والبريطانيين، وعندما وصلوا إلى الخليج سنة 1819، أجبروا حكام المشيخات والإمارات، على توقيع اتفاقيات حماية من جانب السلطة البريطانية، لقرن ونصف قرن من الزمن.

وعام 1830 سيطرت بريطانيا على مرفأ «عدن»، في اليمن، لمنع محمد علي من الوصول إلى المحيط الهندي، وأجبرته على سحب قواته من سوريا ومنطقتها الساحلية، والجبل اللبناني، وانحاز الفرنسيون للموارنة، في صراعهم مع الدروز، الذين نالوا الدعم البريطاني، وأدى ذلك إلى حرب أهلية سنة 1840، استمرت، متقطعة، حتى سنة 1860، وانتهت بفرض نظامٍ، من منطقة الكوره شمالاً إلى منطقة الشوف جنوباً. وقد نص هذا النظام على الاستقلال الذاتي لجبل لبنان، على أن توزّع السلطة على الطوائف المختلفة، وكانت الدول الخمسة الكبرى (فرنسا، وبريطاينا، وبروسيا، والنمسا، وروسيا) الضامن لهذا النظام، الذي كان يختار المتصرف من مسيحيي الدولة العثمانية، على أن ينال موافقة الدول الخمسة.

وفي هذه الأثناء، كانت روسيا تواصل اندفاعها جنوباً للوصول إلى المياه الدافئة، سواء في البلقان، أو القوقاز، أو في آسيا الوسطى.

وسنة 1853، نشب الخلاف بين روسيا وفرنسا على الحق في حماية الأراضي المقدسة، وعندما رفض السلطان أرسلت روسيا جيشها باتجاه دول أوروبا الشرقية وضفاف الدانوب، فتمكن العثمانيون من عرقلة التقدم الروسي، وعندما ردت البحرية الروسية على ذلك بمهاجمة المرافئ العثمانية بضفاف البحر الأسود، تدخل الفرنسيون والبريطانيون إلى جانب العثمانيين 1874 بما عرف بحرب القرم الثالثة، التي انتهت بهزيمة الروس، الذين أعادوا الكرة في غياب الدولتين الأوروبيتين، فكانت النتيجة استقلال رومانيا، وصربيا، والجبل الأسود عن الدولة العثمانية، فيما منحت بلغاريا، حكماً ذاتياً واسعاً.

وفي هذه الأثناء، كان الفرنسيون يوسعون نفوذهم باتجاه شمالي أفريقيا، على حساب العثمانيين، فاحتلُّوا الساحل الجزائري، ومع تبوء نابليون الثالث، أحكموا قبضتهم على كامل المناطق الجزائرية، وصولاً إلى غرب أفريقيا.

أما في الشرق، فكان للفرنسيين مخططات تقوم على إنشاء مملكة عربية، تبدأ من سفوح جبال طورس شمالاً، إلى سيناء جنوباً، على أن يكون عبد القادر الجزائري، صديق فرنسا، ملك هذه الدولة.

لكن هذه التطورات أقلقت بريطاينا حول العلاقة بين فرنسا وحلفاء محمد علي، خصوصاً بعد افتتاح قناة السويس 1869، وذلك ما سعَّر التنافس على النفوذ في الشرق الأوسط، بين القوى الكبرى، فاستغل البريطانيون الوضع المصري المتفوق بصورة غير محسوبة عواقبه خلال عهد الخديوي إسماعيل، فعملوا على مدّ سيطرتهم على مصر، وصولاً إلى السودان، تاركين لفرنسا السيطرة على تونس، والمغرب، وكان التنافس الاستعماري كارثياً للدولة العثمانية التي فقدت مع بداية القرن العشرين معظم ولاياتها العربية في شمالي أفريقيا باستثناء ليبيا، وكانت هذه المنطقة بقيت تحت السيادة العثمانية كمنطقة عازلة بين الفرنسيين والبريطانيين.

ومع وصول عبد الحميد الثاني إلى السلطة بدعم من الليبراليين الإصلاحيين، اضطر الى التحول بسرعة الى محافظ متطرف، نتيجة الهزائم التي منيت بها الدولة العثمانية في حرب القرم الثالثة، فحلَّ البرلمان، وفرض نظاماً وأتوقراطياً، يعتمد بشدة على شخصه، فحوَّل أنظاره إلى ألمانيا التي كانت تتحدى الدول الأوروبية الثلاثة ووثق علاقته مع ملكها القيصر "فيلهيلم الثاني".

وكان السلطان سخياً في منح الملك الألماني امتياز مدّ خطة السكة الحديدية بين برلين وبغداد، بمقابل سخاء الملك بمنح العثمانيين حق مدّ خط السكة الحديدية بين اسطمبول والحجاز، مروراً بحلب ودمشق. ما ساهم في تعزيز النقل التجاري البري، ليصبح أقل تكلفة.

2- من الحرب العالمية الأول وحتى الاستقلال.

ساعدت شبكة الاتصالات البريَّة الألمان في المحاربة على جبهتين. فتمكنوا من الانتصار على الفرنسيين والبريطانيين على الجبهة الغربيةمن جهة، ومن جهة ثانية على نقل جنودهم من الشرق إلى الغرب، بسرعة كبيرة، وخلال أيام.. وذلك ما أقلق البريطانيين.

وكان خط برلين بغداد، هو الذي دفع البريطانيين إلى فرض الحماية على الكويت 1893م، وإلى بسط سيطرتهم على اليمن، وحضرموت، والتدخل في أحداث نجد، عبر دعم الأمير عبد العزيز آل سعود، في مواجهة آل رشيد حائل المدعومين من العثمانيين، وأصبح التوجه الجدي جنوب إيران، وغرب الهند، اللذين دخلا في إطار المناطق الحيوية، لوضع البريطانيين في وضع مؤاتٍ لمواجهة الروس في منطقة آسيا الوسطى.

وبات العراق وشرقي الأردن جزءاً مهمّاً من الآلية البريطانية الهادفة إلى مواجهة تغلغل النفوذ الألماني إلى البحر الأحمر، والخليج العربي، ووصول الألمان، براً، إلى الهند.

كذلك باتت فلسطين وجنوبي سوريا منطقة مهمة للدفاع عن منطقة قناة السويس خصوصاً خلال الحرب العالمية الأولى، بعدما حاول الجيش العثماني الرابع بقيادة جمال باشا عبورها مرتين 1914 و1915، في محاولة لانتزاع مصر من البريطانيين.

وبعد "مؤتمر فيينا"، تبدلت الأحلاف الأوروبية، فبات هناك حليفان في أوروبا: بريطانيا وفرنسامن جهة، وألمانيا والعثمانيون من جهة ثانية، وسجل اغتيال ولي العهد النمساوي الأرشيدوق "فرنس فردينان" وزوجته في "سيراجيفو" من جهة ثانية السبب المباشر للحرب. فهاجمت القوة الفرنسية صربيا، ما دفع الروس لدعم حلفائها العرب، فأعلنت ألمانيا الحرب عليها، ودعمت فرنسا روسيا، ثم بريطانيا، بعد قليل، وبعد أسابيع، هاجمت البوارج العثمانية الموانئ الروسية على البحر الأسود، معلنةً انضمامها إلى النمسا وألمانيا.

وفي بداية القرن العشرين، فرض تيار حداثي في سوريا نفسه بقوة، معبراً عنها بقيادات قومية. أبرزها تيار القومية العربية، وقد نال وضعاً قوياً 1908م، بعد الانقلاب الذي قامت به جمعية الاتحاد والترقي على السلطان عبد الحميد على يد عثمانيين تربوا على أيدي ضباط أوروبيين، آخذين من ثورة فرنسا مثالاً لهم، وكانوا يظنون أنهم قادرون على إقامة جمهورية تضم جميع الشعوب في السلطنة، ومن مبادئ العدالة، والمساواة، ما يمنع انهيار الدولة العثمانية واندثارها، ثم عزلوا الضابط عبد الحميد، ونصبوا أخاه محمد الخامس مكانه.

وبعد فقدان السلطنة غالبية ممتلكاتها الأوروبية، تبنت جمعية الاتحاد والترقي سياسة قومية متطرفة، متأثرة بالقومية الألمانية. وفرضت الهوية التركية. على جميع مواطني الدولة ما عرف بسياسة التتريك، وهذا ما دفع العرب إلى المطالبة بالحكم الذاتي، والاستقلال التام.

إن هذه التطورات، وسياسة جمال باشا القمعية، في سوريا ولبنان خلال الحرب، عززت التوجه الراديكالي بين القوميين العرب، الذين كانت أكثريتهم تطالب بالانفصال عن الدولة العثمانية.

وفي سنة 1915م، كان البريطانيون والفرنسيون قلقين من إمكانية استخدام السلطان العثماني صلاحيته، كخليفة للمسلمين، لإعلان الجهاد المقدس، فوجدوا في حاكم مكة الشريف حسين بن علي ضالتهم، كما دفعوا القوميين للتمرد على العثمانيين، فكانت ثورة الشريف حسين في الحجاز 16/6/1916، وذلك ما زعزع الجبهة العثمانية الألمانية.

وفي تشرين الأول 1918، انسحب العثمانيون من لبنان وسوريا والعراق، وظنّ العرب أنهم على وشك الحصول على دولتهم، إلا أن آمالهم تناقضت مع المصالح البريطانية الفرنسية، فسارع الأمير فيصل إلى فرض حكمه على دمشق وحلب ولبنان، فمنعه الفرنسيون من مد سلطته إلى جبل لبنان، وكانت اتفاقية «سايكس بيكو» (لبنان الكبير + سوريا)، مقابل تخليهم عن كليكيا لمصطفى كمال، وفي 1920 اجتاحت فرنسا دمشق، واعتمدت على المسيحيين كحلفاء وشركاء اقتصاديين وعملت على تقييم سوريا الى أربعة دويلات: دمشق، وحلب، والدولة العلوية في الساحل، وجبل الدروز. فكانت ثورة هنانو في حلب، وريفها، حيث لقيت دعماً من مصطفى كمال أتاتورك.

وفي تشرين الأول 1922، وقع مصطفى كمال اتفاقاً مع الفرنسيين، يقضي بانسحاب قواتهم من كيليكيا، وغيرها من الأراضي العثمانية، فأدارت تركيا ظهرها إلى الشرق الأوسط، وركز الإنتداب على عزل الريف عن المدن السورية، ليفاجأ بأن التحدي الأكبر جاء من الريف 1925م، حيث أعلن سلطان باشا الأطرش ثورته على سلطات الانتداب، فأنزل الهزائم ضد السوريين في جبل حوران، لتنتقل فيما بعد إلى جميع أنحاء سوريا في صيف 1925م.

أما السبب، فكان فصل حوران عن دمشق، الشريان الاقتصادي الذي ربط المنطقتين (إنتاج القمح الحوراني وتسويقه في دمشق). فكانت هذه الثورة، على خط تجارة القمح، التي شكلت العصب لاقتصاد حوران والشام، وكانت حركة السلطان الأطرش منسجمة مع التيار القومي العربي، الذي تلقَّى الدعم والتمويل من الأردن، الذي أعلن دولتها الأمير عبد الله، شقيق الملك فيصل، ونجل الشريف حسين.

وكان الأردن قد لعب دوراً في دعم الثورة في حوران ودرعا، ما دفع رئيس الوزراء السوري علاء الدين الدروبي إلى زيارتها، فجرى اغتياله، وأنحى السوريون باللائمة في ذلك على البريطانيين.

ولمواجهة الثورة عمد الفرنسيون إلى استعمال القوة المفرطة لقمع السكان ما حملهم على مطالبة الملك عبد الله بقطع الدعم، وعلى تحييد دمشق، عبر تحالف البورجوازية الشامية العليا.. ما مكّنهم من دحر الثورة.

وفي لبنان كانت طرابلس أكبر الخاسرين نتيجة فرض الانتداب عليها لأنها كانت مرفأ سوريا الشمالية، فأصبحت بيروت، المرفأ المفضّل لتجارة السوريين مع المشرق، على حساب صيدا، وطرابلس.

وفي دمشق، تصاعد نفوذ البورجوازية العليا التي عقدت حلفاً مع الطبقة المركنتيلية البيروتية، التي ينحدر معظم أفرادها من عائلات دمشقية، نزحت إلى بيروت في القرن التاسع عشر (صحناوي – فتال – بكداش – خباز...). وكان لدى هذه النخب الدور الكبير في الحصول على الاستقلال في سوريا ولبنان، من خلال علاقاتهم مع السلطات السورية.

وأعيد ضمّ الدولتين العلوية والدرزية إلى حلب ودمشق ما ساعد على إنشاء الجمهورية العربية السورية.

ومع الوقت همش الاستقلاليون الراديكاليون، وبلغ ذلك حد اغتيال الزعيم الدمشقي عبد الرحمن الشهبندر 1940، المطالب بالاستقلال الناجز والتام لسوريا، وكان مقدراً أن يتأجل استقلال لبنان وسوريا إلى 1943، وانسحاب الجيش 1945م.

-3- سنوات الاستقلال المضطربة

منذ إعلان الإستقلال اللبناني، بدأت الولايات المتحدة تتدخل في المنطقة. منذ شهر شباط 1945م فعبر روزفلت قناة السويس على متن طائرة أميركية، والتقى الملك فاروق والملك السعودي عبد العزيز آل سعود، فطالب فاروق بانسحاب البريطانيين. أما الملك السعودي فأبدى التقارب مع الأميركيين، الذين سيصبحون حلفاءه البارزين.

وفي لبنان انتخب الشيخ بشارة الخوري، بدلاً من كميل شمعون، رئيساً، وبدأت الطفرة النفطية 1945م فتعمقت العلاقات بين دمشق والرياض، وأنشئ سنة 1949 خط يأتي من الموصل إلى البحر المتوسط، برعاية البريطانيين، وخط آخر من شرق السعودية إلى لبنان، مروراً بالأردن، ودمشق.

وفي تموز 1952، أطاح عبد الناصر بالملك فاروق، وحيث كان الأميركيون يسعون إلى الحلول مكان بريطانيا في الشرق، أبدوا تجاوبا مع توجهات ناصر الاستقلالية، ما أدى إلى جلاء البريطانيين.

وكان الأميركيون يتوقعون دعم عبد الناصر، وتوقيع اتفاق سلام مع إسرائيل، والانضمام إلى حلف بغداد، لمحاصرة الاتحاد السوفياتي، الذي كان بحاجة إلى عمق استراتيجي يضم سوريا ومصر ولبنان والجزيرة العربية، وكان كميل شمعون مندفعاً كلياً لضم لبنان لهذا الحلف مع حلول سنة 1955، ولكنه كان ملجوماً من المعارضة الإسلامية.

وفي سنة 1954، كان عبد الناصر قد بدأ بتنفيذ خطة استراتيجية لدور مصر في العالم العربي، وكان قد أشار في كتابه «فلسفة الثورة» إلى تقسيم العالم إلى ثلاث دوائر – العالم العربي – العالم الإسلامي – والقارة الأفريقية. فسعى إلى ائتلاف دولي للدول المستقلة حديثاً، في مؤتمر باندونغ، وقد سمّي ائتلاف دول العالم الثالث، وسعى لمساعدة المغرب وتونس والجزائر، وهذا ما أغضب الفرنسيين والبريطانيين والإسرائيليين، فكان عدوان على مصر سنة 1956م. وتأميم لقناة السويس، رداً على سحب البنك الدولي القرض الذي كان ينوي تقديمه إلى مصر، لبناء السدّ العالي في أسوان، فاتخذ البريطانيون التأميم ذريعة لشن عدوان تشرين الثاني 1956، وانضمت إليهم فرنسا وإسرائيل. واحتل المعتدون جزءاً من منطقة القناة ولكنهم لم يتمكنوا من الوصول إلى القاهرة والإطاحة بعبد الناصر، الذي استفاد من الخلاف البريطاني الأميركي خلال العدوان، ومن الإنذار السوفياتي لفرنسا وبريطانيا، ومن دعم العالم العربي والعالم الثالث له.

وفي لبنان صعدت الشخصيات المعارضة، والأحزاب المناصرة لعبد الناصر، معارضتها للرئيس شمعون الموالي للبريطانيين والهاشميين، وإنهار حلف بغداد بعد مقتل نوري السعيد والملك فيصل الثاني.

وفي سوريا حصل انقلاب 8/3/63 على حكومة الانفصال التي أوصلت حزب البعث إلى السلطة، برعاية أمين الحافظ (الحلبي) فولدت قاعدة جديدة في الريف، بعد إجراء عملية الإصلاح والزراعة، وكان الجيش يقوى باستقطاب أبناء الريف الذين عززوه بالعديد من الضباط والجنود، كما أسهم الانتداب الفرنسي في استيعاب أبناء الريف من كل الطوائف في الجيش، وصولاً إلى هزيمة 1967، حيث كانت أميركا تعتبر، منذ بدء الأربعينات، استقلال دول الشرق الأوسط جزءاً أساسياً من الأمن القومي الأميركي.

وبعد سبع سنوات، اعتبر القائد الأميركي أيزنهاور، أن إقفال البحر المتوسط أمام الولايات المتحدة، بمثابة إعلان الحرب عليها. وخلال الحرب الباردة أرادت إقفال البحر المتوسط أمام أي تغلغل سوفياتي في الطوق الذي كانت الولايات المتحدة تسعى إلى تشكيله، حول الاتحاد السوفياتي، كخطوة ضرورية لربح الحرب الباردة.. ولهذا السبب، رغبت بإزاحة "العقبة" التي كان عبد الناصر يشكلها في وجه السياسة الأميركية عبر إطلاق آلة الحرب الإسرائيلية ضده.

وفي 5 حزيران 1967، نصبت إسرائيل فخًّا لعبد الناصر، لاستدراجه إلى خوض حرب غير مستعد لها، بغية إسقاط نظامه، فوقع عبد الناصر في الفخ، وأرسل قواته إلى سيناء، بعد مطالبته بسحب القوات الدولية من منطقة شرم الشيخ، ما أدى إلى هجوم إسرائيلي هزم مصر، فتلقّى عبد الناصر صفعة قوية، وكان احتلال إسرائيل للضفة الغربية، والجولان السوري، الذي كان له أهمية استراتريجية للدفاع عن سهل الحولة، في مواجهة أي هجوم سوري مفاجئ، ما يهدد مصادر المياه التي كانت تستغلّها..

وكان على العرب التأقلم مع الواقع الجديد، فارتضوا، باستثناء سوريا، قبول القرار 242، الداعي إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها، في مقابل الاعتراف بها.

فكان صلاح جديد قاسياً في الاستعداد لحرب التحرير. أما وزير الدفاع حافظ الأسد فقد حمل الراديكاليين الهزيمة. ودعى إلى إعادة اللحمة الوطنية، وإعادة تفعيل العلاقة مع الدول العربية. وبقيت سوريا تعتبر أن القضية الفلسطينية هي القضية الأولى، والجزء الذي لا يتجزأ من الأمن القومي السوري.. وتنظر بعين الريبة، إلى نوايا رئيس حركة فتح، الذي أصبح زعيماً لمنظمة التحرير، بمباركة سعودية، ومصرية.

-4- سوريا في لبنان

اندلعت الحرب الأهلية في لبنان (سنة 1975) بين الحركة الوطنية، بقيادة كمال جنبلاط، والأحزاب المنضوية تحت لوائه، وأحزاب الجبهة اللبنانية التي كانت تعلن الولاء للأميركيين، وبدأ الرئيس حافظ الأسد بدعم الحركة الوطنية وكان قلقاً من الصراعات الطائفية في لبنان، خائفاً من أن تنتقل إلى سوريا، على نحو ما حدث سنة 1860، حيث حصلت صدامات طائفية في دمشق، على أثر الصدامات مع لبنان وكان قلقاً من علاقة عرفات مع مصر والعراق.. ومن تحالف الجبهة اللبنانية مع إسرائيل بذريعة حماية المسيحيين، لذلك حاول تعزيز الدور السوري، لإنهاء الحرب اللبنانية، من خلال تعديلات دستورية بسيطة اقترحها 1976 تعطي بعض الحقوق للطائفة الإسلامية.

وفي عام 1978، بدأ وضع سوريا الإقليمي يتراجع. فمؤتمر جنيف للسلام فشل في تحقيق أي تقدم، واستعيض عنه بمفاوضات ثنائية بين مصر وإسرائيل، ما شكل ضربة قاسية لسوريا. ودعا الأميركيون والإسرائيليون الجبهة اللبنانية إلى مواجهة السوريين، ما أدى إلى ما عرف "بحرب المائة يوم"، بينهم وبين الجبهة اللبنانية، وكانوا قد فشلوا في إقناع الجبهة بالتخلي عن علاقتها مع إسرائيل، وعن حلمها بإقامة وطن قومي مسيحي في الشرق.

وكانت سوريا تخشى عرفات، الذي كان رفض قطع علاقاته مع مصر، وتخاف أن ينضم إلى مفاوضات كامب ديفيد، وأن يقبل الحكم الذاتي الذي عرض آنذاك على الفلسطينيين، ما يمنح الشرعية لخطوة السادات باتجاه السلام المنفرد مع إسرائيل، وقد استفادت إسرائيل من هذه الأوضاع لاجتياح جنوبي لبنان في آذار سنة 1978، وإقامة حزام أمني بعمق 7 كليومترات داخل الأراضي اللبنانية، على طول الحدود الشمالية لفلسطين.

وبين سنتي 1982 – 1984، انتخب رونالد ريغان رئيساً لأميركا، فصعدت إدارته المواجهة مع السوفيات، ما أعطى لإسرائيل فرصة باستهداف سوريا التي باتت بعزلة عربية، ما دفعها إلى اتفاق صداقة مع الاتحاد السوفياتي. إلا أن السوفيات كانوا منشغلين بأزمتي أفغانستان وبولندا، وفي ظل هذه الأجواء تشكلت حكومة برئاسة مناحيم بيغن، وأريال شارون وزيراً للزراعة، فالدفاع.

وباتت الأجواء مؤاتية لإسرائيل سنة 1982، لتحقيق اختراقات في الصف العربي، عبر توقيع اتفاقات منفردة مع بعض الدول العربية، وفرض مزيد من العزلة على سوريا. ودعم بشير الجميل لتولي رئاسة الجمهورية.

وفي حزيران سنة 82 بدا الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وبعد ثلاثة أيام، كانت المواقع السورية، في بيروت والشوف والبقاع، عرضة للهجوم فخسر السوريون 80 طائرة، ومئات الجنود، وانسحبوا من المعركة باستثناء اللواء 85 الذي بقي يقاتل في بيروت.

........

هذا هو وضعنا الجيو سياسي منذ فجر التاريخ.

لقد عرضنا الجانب المتعلق منه بالماضي، حيث كان لبنان، حتى اتفاق «سايكس بيكو»، شعباً يتوزع في الساحل المتوسطي بين النهر الكبير والناقورة، عبر طرابلس، وجبيل، وصيدا، وصور، مبرزاً تألقه الأقليمي والدولي، بدءاً بنشر الأبجدية، مروراً بتوسعه باتجاه شمالي القارة الأفريقية (تونس ومالطا...) وصولاً إلى مرحلة، كان العالم بأسره شرقاً وغرباً بحاجة لساحله، معبراً جيو- اقتصادياً وسياسياً بين الغرب والشرق، وفي داخل الشرق، بين مصر، وتركيا، وبلاد فارس، والجزيرة العربية.

أجل كانت دول الأرض بحاجة لممر الساحل اللبناني، ولكنها كانت ولا تزال تستخدم القوة العسكرية، ثم، وللأسف، السلاح الطائفي، بعد ظهور الإميراطورية البيزنطية، وصولاً إلى اليوم.

وإذا كنا قد أشرنا ببعض التفاصيل، عن الوسائل العسكرية المستخدمة في الماضي، إلى أن تم استبدالها، في معظم الأحيان، بالاستغلال الديني، الطائفي، منه، والمذهبي، والذي كان واضحاً وضوح الشمس في القرون الأربعة الأخيرة، على الاقل، فلنخصّص جانباً من هذه الدارسة حول هذه الوسائل الطائفية مشيرين إلى الوسائل المتاحة لمواجهة هذه الوسائل.

لقد عرضنا في بداية هذا الجزء، بعض مشاريع القوى الكبرى التي طمعت ولا تزال تطمع بالشرق الأوسط، العربي بصورة عامة، وبلبنان القديم، والحديث بصورة خاصة.

لقد حاولنا، إلى هنا، بأن نسرد المعطيات التاريخية التي تثبت بأن منطقة الشرق كانت عبر التاريخ ساحة مطامعها، ومعبر طموحاتها للسيطرة على موقعها الجغرافي وخيراتها في العالم.

فهل يمكن بان تستمر هذه السيطرة الوحشية؟!

1- هناك "مربّع تاريخي قديم"، لا تزال الدول الكبرى، وبعض الدول الإقليمية منها ترمي بكل قواها، وأساليبها، للسيطرة عليه، وذلك لأهداف استراتيجية سياسية وتجارية، ومؤخراً مالية، عبر الثروة النفطية والغازية التي تشكل أكثر من 50% من المخزون النفطي والغازي العالمي، في حوالي ثلاثة ملايين كيلو متر مربع، وتعني عدداً من السكان، في حدود 1150 مليون نسمة، علماً بأن هذا المربّع ينطلق من البحر المتوسط، ومن مضيقين حيويّن، إثنين، الأول وهو يشكل البوابة الشرقية الجنوبية التي تعرف بمضيق هرمس. والثاني، ويوصف بالبوابة الشمالية الغربية، التي تربط البحر الأسود بالبحر المتوسط عبر الدردنيل.

وبالتالي، فإن الوزن الجغرافي السياسي والاقتصادي لهذا المربع كبير جداً "فأوراسيا" تطمح لبلوغ مصاف الدول العظمى، كما يؤكد الوزير الأميركي «بريجنسكي» ما يؤثر بالتالي تأثيراً حاسماً على الهيمنة الأميركية، ومشروعها التاريخي.

أما الرئيس «كارتر» فقد أكد منذ ثلاثة عقود، "بأن محاولة التحكم بهذا المحور، تعتبر هجوما مباشراً على المصالح الأميركية، ويتوجب بالتالي محاربته بكل الوسائل، وإن هذا المحور من شأنه أن ينقل الثقل الاستراتيجي في أسيا، كما يرجح احتمال تمدد الصين، ويحقق أحلام إيران، واستثمار سوق الهند كله، ما يعني بأنه لا يجوز لنا أن نتخلى عنه في إطار الاستراتيجية الأميركية، أية كانت الأثمان.."

وإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية معنية بهذا المقدار بهذا المربع فإنه يشكل الشاغل الرئيسي للدولة الإسرائيلية، منذ ما قبل قيامها، وعلى كافة الصعد، وبخاصة الديموغرافية، والسياسية، والاقتصادية، وغيرها.

كذلك، لقد أجمع المؤرخون الصهاينة الأوائل (بركيدار – ويهوشح برامز – وميدون بتفنستي وغيرهم) قبل أن ينضم إليهم في ما بعد «بن غوريون» بأنه يتعين على هذا المشروع أمران، الأول، الأخذ بالعنصر الاقتصادي والسياسي والثاني بالعنصر الديمغرافي وذلك بكل الوسائل الممكنة، وأخذ العبر بالإستفادة من هذين العنصرين لدعم وحماية الوجود الإسرائيلي في فلسطين.

وبالنسبة للعنصر الجيوسياسي والاقتصادي، فلقد وجد "بن غوريون" بان إهمال الصليبيين السيطرة على «النقب» أتاح الفرصة للاعداء، بإغلاق الطريق الآمن الذي كان يربط مصر حيث كانوا يتواجدون، بسوريا، ما ساهم في اكتمال مشروع المقاومة الذي بدأه «عماد الدين زنكي»، وابنه «نور الدين»، عند منتصف القرن الثاني عشر، وأنجزه وسار على خطاه صلاح الدين الأيوبي، فكانت خاتمته تحرير عكا من آخر معقل صليبي سنة 1292، ما أتاح تحقيق وحدة سوريا، ومصر، وهي وحدة، أتاحت لصلاح الدين توجيه الضربة القاضية ضد الصليبيين، في معركة «حطين».

ومستفيداً من هذه التجربة الأوروبية، قرر «بن غوريون» بأن تسيطر الحركة الصهيونية على "النَّقب" ما كان السبب الرئيسي لإغتيال الأمين العام للأمم المتحدة في أيلول 1948، ما شكل واقعاً جغرافياً فاصلاً بين مصر، القوة العربية الأساسية آنذاك، وأفريقيا، وسوريا، والعراق.

كذلك استفاد الصهاينة من آثار غياب الاستراتيجية الجيوسياسية لدى الصليبيين في غور الأردن (المنطقة الواقعة بين "بحيرة طبريا" وشمالي "بحر الميت") ما سمح للقوات الإسلامية بالنفاذ من خلالها للداخل الصليبي، فاعتبروها حجر الزاوية للرؤية الاستراتيجية الصهيونية، "لبن غوريون".

وعليه فما ان احتلت إسرائيل الضفة الغربية سنة 1967، حتى أعلنت غور الأردن منطقة لا مجال للتنازل عنها، وأقرت تواجداً عسكرياً دائماً وشبكة متراصة من المستوطنات الزراعية والعسكرية، واقامت خلفية استراتيجية، بحكم التلال المطلة على الغور ("طريق آلون") المشتق من اسم صاحب الخطة «بغتال آلون».

2- أما فيما يختص بالعنصر الديموغرافي، فلقد لاحظ الساسة الصهاينة الأوائل، بأن الصليبيين بعد أن احتلوا القدس ومن بعدها المعرة في بلاد الشام، وذبحوا جميع سكانها المسلمين واليهود، ولم يفرقوا بين طائفة وأخرى، ورجل، أو امرأة، أو طفل، وقد ذبحوهم وطهوا لحومهم، ورحّلوا الشعب الفلسطيني، فبدأوا يشعرون بضآلة الموارد البشرية الأوروبية الضرورية ما أدى إلى ضعف قدراتهم على الانتشار والسيطرة على باقي المناطق، سيما وأن أبناء هذه المناطق قد انضموا إلى المهجرين. وبدأوا بالإغارة عليهم في الأراضي المحتلة.

ومن خلال هذه التجربة أدرك الصهاينة أن السبب الرئيسي لإعاقة توسع الصليبيين نجم عن عزلتهم.

ورغم تحالفهم، مع بعض الأمراء المسلمين، والعلماء منهم، تبين لهم بأنه تحالف تكتيكي وليس استراتيجياً.

وعليه وفي ضوء هذه التجربة الأوروبية، رأى «بن غوريون» بأن ينطلق منها إلى تفتيت الديموغرافية المحيطة بإسرائيل، إلى جماعات قبلية، أو طائفية، و مذهبية، متضاربة، ومتقاتلة، من أجل الخلاص من "العدوّ المشترك". وبذلك يكون قد حقق ما عرف بخطة «حلف المحيط».

ولكنَّ بن غوريون، طوّر فيما بعد أفكاره، فعمل إلى خلق طوق معاد للعرب، يضم دولاً غير عربية، فأقام علاقات استراتيجية مع تركيا وإيران وأثيوبيا، ما ساعده على تشكيل طوق محاصر للعالم العربي وذلك ما عرف بـ «نظرية الطوق»، معتبراً بأن وحدة العالم العربي إذا ما تمت بالرغم من محاولاته لإفشالها، سيحول دون استقرار دولة إسرائيل حتى بحدودها الحالية وذلك ما يستدعي محاربتها.

هذه هي خلاصة المطامع الاجنبية في المنطقة التي ينتمي اليها لبنان، والتي بدأت منذ ثلاثين قرناً فشكلت عبئاً ثقيلاً على حرية هذه المنطقة، ووحدتها، واستقلالها.

وفي ذلك، ما يدعو الى تحالف دول هذه المنطقة لتكون حاجزاً مانعاً للغرباء الطامعين بالاستيلاء على هذا "المربع" الجيوسياسي والاقتصادي، بإثارة القلاقل، والاضطرابات، بين ابناء دول هذه المنطقة مستغلّين تخلّفها، وتعدديتها، الطائفية، والمذهبية، والإثنية...

ثانياً: العامل الطائفي

1- الطائفية علة عرفتها الشعوب، كما عرفها لبنان، منذ القدم. فكانت حركة صاخبة في فترات، وهادئة في أخرى، وذلك على الصعيدين المسيحي والإسلامي، وحتى بين مذاهب كل من المسيحية والإسلام.

لقد بدأت على الصعيد المسيحي في القرن الميلادي الثاني بين الكنيستين الرومانية والبيزنطية، وبلغت حدّتها، بين روما، وأثينا، في القرن الحادي عشر، وبخاصة عندما أصبحت الإمبراطورية البيزنطية في طور الانحلال، فكانت الكراهية بينهما شديدة إلى درجة أنه، عندما كان التركي يستعد لغزو القسطنطينية سنة 01453م، كان "بطريركها" يؤكد وبكل صراحةٍ بانه يفضل «عمامة التركي» على «تاج بابا روما».

وفيما بعد ورثت موسكو نفوذ بيزنطية لتبدأ من جديد قطيعة أخرى، ذرّت بقرنها داخل مجتمعات الكنيستين، لتهتزَّ أوروبا قرناً من العنف بين الروم واللاتين، دون أن تختلفا مع السماء، وصولاً إلى القرن التاسع عشر، حيث بلغت المنازعات الجديدة ذروتها بين المتمسكين بالحضارة والعادات الروسية، وأنصار الحضارة والعادات الغربية، أي بين أنصار المحافظة على الروح الروسية وخصوصيتها وصدقيتها، وبين أنصار الإصلاحات الاجتماعية والسياسية المتصاعدة في مؤسسات الدول الأوروبية الكبرى.

أما على الصعيد الإسلامي، فإن الشريعة المبنية على النصّ القرآني، وعلى أقوال النبي العربي الكريم والخلفاء الراشدين الأربعة، أصيبت كما المسيحية بظواهر الانشقاق، والتكفير، والتأويلات المخالفة للنص المقدس. وهو الذي كانت تكمن وراءه عدة انقسامات بين أهل السنّة وأهل الشيعة، وتزداد حدّتها وتنخفض، بين مرحلة وأخرى.

وبالنسبة للعلاقات المسيحية – الإسلامية – فلقد كان القرن التاسع، العصر الذهبي للحضارة الإسلامية المنفتحة على تراث الحضارات الأخرى، ومنها اليونانية والسريانية، والفارسية، والهندية، وباتت بغداد عاصمة الشرق الثقافي، فيما كانت البصرة المرفأ الكبير لهذا الشرق، وكان إشعاع الحضارة الإسلامية الذي سطع من الأندلس، قد تواصل من خلال الفاطميين، في مصر، الذين أنشأوا مدينة القاهرة، وكذلك الجامع الأزهر الكبير.

وفيما بعد جاءت الحملات الصليبية، فشوهت العلاقات المسيحية الإسلامية، وبخاصة، من خلال مجازر القدس، والمعرّة، لتليها الغزوات المغولية التي شوّهت وجه العالم العربي، الذي أنجب المسيحية والإِسلام، ونالت من حضارته الساطعة، والعابرة، بين الحين والآخر.

وجاء العثمانيون، فاعترفوا رسمياً بالكنائس المسيحية على تعددها، وطوروا نظام أهل الذمة إلى أبعد الحدود، وفرضوا على المسلمين القبول بالوجود المسيحي في صميم مجتمعاتهم. مقابل دفع ضريبة، عن كل خدمة طوعيّة أو إلزامية..

إن هذا القبول بالتعددية آنذاك هو حقيقة تاريخية لا يمكن إنكارها، وهو الذي يميّز الإسلام على امتداد تاريخه وفي أي دولة أصبح فيها سائداً.

وفي عالم الأبحاث الأكاديمية حول الإسلام في الشرق، كما في الغرب، فيما بعد، ثمة أمور كثيرة تلفت الاهتمام.

هذه الأبحاث تسترد ذاكرة كاملة لما كانت عليه الحضارة الإسلامية، وقد مارست التعددية الدينية والإثنية، والتكيف مع الحضارات والثقافات الأخرى، مثل حضارات فارس والهند وثقافاتهم وفي أسبانيا، ومصر، وسوريا، ولبنان، والعراق.

فلقد بدأ العديد من الفقهاء المسلمين، منذ الثورة الفرنسية، وحملة نابليون على مصر، حركة إصلاح ديني واسعة، أجهضتها "الصخوة" الإسلامية الناشئة في سياق الحرب الباردة.

وبذلك، لا ينبغي بأن يعطى للإسلام صورة «الدين المقلق»، وغير المتسامح، كما يظهر في أدبيات الحركات الأصولية الحديثة، التي ساهمت منذ عقود من الزمن في تهميش الحركة الإصلاحية، التي بدأت منذ أكثر من 180 سنة، من خلال رحلة الشيخ الأزهري ورافع الطنطاوي إلى باريس، سنة 1824م، في نطاق السعي إلى نهضة عربية مرموقة شارك فيها علماء ومفكرون مسيحيون، ومسلمون.

ولا بد من الإشارة إلى أن الناتج التاريخي من بعض ردات الفعل، التي مورست ضد المسيحيين، واستندت إلى ما واجهه في الماضي المسلمون خلال الحملات الصليبية، وما واجهوا في ما بعد، ويواجهونه اليوم، بدءاً بإنشاء دولة إسرائيل استناداً إلى ما أعلنه نابوليون الأول، ونفذه فيما بعد البريطانيون، وتشريد الفلسطينيين، وقوننة الوجود الإسرائيلي في الشرق على حساب كرامة وحقوق المسلمين والعرب، بمن فيهم المسيحيون وصولاً إلا استغلال الغرب الظاهرة الدينية، لمكافحة الانتشار الشيوعي، وتعبئة الإسلاميين الوهابيين والباكستانيين الذين يمارسون تشدّداً دينياً استثنائياً غريباً عن تقاليد التوسطية، والاعتدال، في الديانة الإسلامية، وانتهاءً بتواجد القوات الأميركية في قلب الجزيرة العربية (1990م) وفي العراق، حيث انتهى بعشرات الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ، مع احتلال الأماكن الشيعية المقدسة في النجف وكربلاء (2003م)، تحت غطاء الحداثة والحضارة وحقوق الإنسان، التي هم الذين غالباً ما ينتهكونها، بانتظار الفرص المناسبة للدفاع عنها. وكل ذلك والأهداف تصب في مصلحة إسرائيل، تحت شعار الرافعة الأميركية الداعية إلى شرق أوسط جديد.

لقد أدى كل ذلك إلى تزايد العداء والكراهية لـ «الصليبيين الجدد» والانزلاق، ضد الاسلام، وهو ما عبر عنه رئيس جمهورية إيطاليا «برلسكوني» بقوله «إن العالم المسلم هو جزء بقي كما كان منذ 1400 سنة في المؤخرة» وفي ذلك ما يستدعي، بل يستوجب بذل جهود حثيثة، في أوروبا، والولايات المتحدة لمكافحة كره الإسلام، المستشري، والمتجسد، بما يسمونه «الإرهاب».

هل يمكن الخروج من هذه الحلقة المفرغة والجهنمية، حيث أصبحت تترابط الأزمات السياسية والأزمات الدينية، بدون أن يظهر في الأفق ما يشير إلى نهايتها؟..

ألم يحن الوقت، للنظر بشجاعة إلى الظروف الجيو سياسية التي تهدد العالم، من خلال طائفية مجرمة، تستخدم الإرادة الإلهية مستنـزلةً المسيح الإله والنبي الكريم، إلى ساحة المصالح المحلية والإقليمية والدولية، واختلاق أرض خصبة لأعمال العنف والتباغض الإرهابية الطابع في العالم، وذلك خدمة لرؤاها، والمخططات الآيلة إلى تحقيق مصالحها؟

أما حان الوقت لتجديد الأبحاث الأكاديمية التي بدأت منذ حوالي قرنين من الزمن، بتحطيم الأبواب المغلقة بين المسلمين والمسيحيين وإزالة التوترات المأساوية، فينقلعوا عن السلوكيّات الناتجة عمّا يسمى بـ «لعبة الأمم»، والتي أدت منذ فجر التاريخ، ولا تزال، تؤدي إلى الخلط بين الديني والسياسي، وسلب الثروات، وأعمال العنف الإرهابي، التي بدأت في حملة بن لادن الأسطورية في 11 أيلول 2003، والتي نجهل ما إذا كان يعد لمثيلتها في المستقبل.

لقد آن الزمن ليفهم المسؤولون عن الدول الكبرى، المتقدمة، والديمقراطية، بأن التمادي في استغلال ضعف الدول الأخرى، ودول الشرق الأوسط بصورة خاصة، هو شكل من أشكال الإرهاب الفكري فالإسلام هو دين إلهي ذو طابع عالمي، والمسيحية أيضاً، كانت، وستبقى كذلك. وكلتاهما مدعوتان لتحمل مسؤولياتهما بما يرضي الله والانسان معاً.

نحن لا نشك أبداً بأن الحركة المسيحية العالمية، قد بدأت فعلاً هذه المسيرة من خلال موقف قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، الذي وقف بقوة في وجه ما يجري بين الأديان، وبخاصة بين المسيحية والإسلام، كما تجلّت أيضاً في موقف الأساقفة «الأنكليكانيين» الذين دعوا في أيلول 2005 إلى تقديم الاعتذارات عن غزو العراق، وما عقبه من تظاهرات كبرى ليس فقط في بعض الدول العربية، وإنما أيضاً في الولايات المتحدة.

كما لا نشك بأن هذا الشعور بالمسؤولية الإنسانية قد تجلى أيضاً من خلال موقف بعض المسؤولين عن الطائفة الإسلامية، الذي تجسد من خلال المذاهب الإصلاحية التي كان رائدها الشيخ الأزهر سنة 1824، في نطاق نهضة عربية شارك فيها كما ذكرنا سابقاً مسيحيون ومسلمون.

ومن المؤسف أن نكون قد ابتعدنا عن هذه الحركة الإصلاحية التي كان وراءها مصلحون كبار مطبوعون بالقيم الإنسانية الكبرى، ومبا كانت عليه، وما يقتضي بأن تعود إليه، الحضارة الإسلامية التي مارست التعددية الدينية والإثنية في أكثر من حقبة من تاريخها، والتي غابت مؤلفاتها في رفوف المكتبات، لتفسح المجال أمام المؤلفات الأصولية، المبتعدة عن الجذور التاريخية، التي من شأنها السماح للأجيال المتعاقبة برؤية العالم على نحو آخر منافٍ لمصطلح «صراع الحضارات».

إن احترام تاريخ البشرية واستقرارها، يستدعي الكف عن الاستعمال الخاطئ والملتوي لمواجهة الحضارات الحديثة والعملاقة بالإرهاب والأصولية. وعلى المسلمين والمسيحيين العودة إلى الاعتراف بأنهم ينتمون إلى دينين إلهيين مستقلين، ولكنهما توحيديان في الآن عينه، توحداً كاملاً يستوجب الاحترام والمفاخرة به، وبأن يقيموا حواراً فيما بينهم، منزهاً عن أية عشوائية، والإقلاع عن تنازع الحقيقة الإلهية، التي أساءت إلى العقديتين الدينيتين المعترفتين بالوحدة الإلهية وبيوم الحساب.

إنه يتعين على الدول الغربية، وبخاصة الأوروبية منها، أن تمارس سلطة تتسم بالأخلاقية في علاقتها بمحيطها المتوسطي، والكف عن التلاعب بحقوقه، في عالم هو اليوم طريدة أصولية قاتلة، فيكون لها الامتياز الملزم بصياغة إنسانية تأخذ بالاعتبار تعدديته ومعتقداته، وحقوقه، ساعيةً إلى تكامل مكوّناته، على كافة الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية. فالأرض، بأسرها مسرح للإنسان بغضّ النظر عن جنسه، أو دينه أو معتقده...

هذا على الصعيد العالمي والإقليمي.

2- أما على الصعيد اللبناني فعلينا أن نستفيد من تداعيات الطائفية المؤذية على العالم عامة، وعلى المنطقة المتوسطية بصورة خاصة، وعلى لبنان بصورة أخص. فنقرأ تاريخنا وما حفل به من مآسٍ، ونرتمي في أحضانه، فهو بوابة المعالجة الصحيحة للقضايا الوطنية الأساسية. التي نجابهها. ذلك ان من يرتمي في أحضان التاريخ، يستريح، وينتشي، بحيث يستفيد من مخزون خبراته، فيصبح مدققاً بمضمونه وناقداً في الآن عينه، محاولاً مواكبة التقدم والتطور، وجاعلاً من التجارب مصدر إبداعٍ في حاضره، يواجه من خلاله، الحاضر، والمستقبل، في الآن عينه.

ماذا علينا أن نفعل لنهزم الفعل الطائفي فيما بيننا، والذي أدمانا على مدى القرون، وبخاصة خلال القرون الأربعة الماضية، وصولاً إلى اليوم؟

غالباً ما يتردد في الوسائل الإعلامية، وعلى منابر رجال الدين والسياسة، بأن لبنان دولة تعددية، مشيرين إلى استقلالية مكوناتها بالرغم من بعض تناقضاتها، وإلى ضرورة احترام مصالحها الجماعية، بل احترام الحقوق والواجبات الشخصية لكل فرد من هذه المكونات...

وبعضهم يوحي بضرورة إقامة نظام فدرالي طائفي لا مناطقي، لاعتقاده عن حسن نية، بأنه يؤدي إلى استقلالية الطوائف، ضمن وحدتها الوطنية.

إن المفهوم التعددي الحقيقي يجب أن ينطلق من الرغبة القاطعة في عرض لبنان كمجموعات طائفية، بعيداً عن الهرطقات الدينية. وبالتالي، ذات دور مثالي، بل نموذجي، يلفت نظر العالم على اختلاف دوله، وتكويناته الطائفية، والمذهبية، والإثنية، إلى أن الإنسان هو أخ الإنسان، بولادته، وحياته، وموته؛ والأهم من ذلك كله، بإيمانه بالإله الواحد موزعاً بين «ابنه» و«رسوله»، ومتقيداً وهذا ما يجب أن يكون بمضامين كتابيهما المقدسين بكلياتها وبالتفاهم حول الجزئيات.

لست رجل دين، وإنما أنا أعتز وأفتخر، وأرتاح بأني من قراء الكتابين المقدسين، وبالتالي فأنني لا أرى في لاهوتهما ما يدعو إلى التناقض، والتصادم، والمواجهة، بل على العكس إلى الأخوة، والتراحم، والشراكة. فكلاهما يعتبران الإنسان إنسانا بالدرجة الأولى، وهو، مسيحياً ولد أو مسلماً، له الحق باختيار أي دين إذا ما شاءَ. وبالتالي، ليس هناك من وجه حق على الإطلاق في عدم الاعتراف المتبادل، بل في التوصية بالتقييد بقاعدة المساواة أو التسامح في الحقوق والواجبات، بدون إجحاف أو تمييز بين مواطنين، أياً كان انتماؤهما الديني، وحتى الشخصي، والحزبي، والمناطقي، والثقافي.

والحرية هي لكل إنسان، مهما كان معتقده ورأيه وموقفه. وهذه الحرية يعترف بها المضمون الإنجيلي الداعي لحماية التنوع الإنساني، والاعتراف بتعدديَّة الآراء والمواهب في إطار رضى وهدى الروح الإلهية.

والتوحيد والتسامح هما من التراث المسيحي والإسلامي، حقيقة واحدة، تقر بإله واحد كلّي القدرة منحدرٍ من الأزل، واسع حليم، رحمان، رحيم.

ألم يقل المسيح: «ومن ضربك على خدك الأيمن فدر له الأيسر».

ألم يقل القديس بولس: حقاً أنه "حين أتى يسوع إلى الأرض كان عصر المحبة قد بدأ».

أَوَلا يلتقي ذلك عما ذكر في دستور المدينة:

«تعاهدوا على ألا تدعو في بطن مكة مظلوماً من أهلها أو من دخلها من غير أهلها»،

«وألا تكونوا مع ظالم حتى تزول مظلمته».

و«الإقرار، بالمساواة، بالحقوق، والواجبات، بين الجماعات المسلمة، والجماعات المسيحية، "إننا خلقناكم أدياناً، فلا تفرطنَّ بين دينٍ وآخر".. فقالوا "لقد سمعنا وأطعنا" تأسيساً على مبدأ الكرامة الإنسانية ورفض العدوان، والظلم والإثم».

إن ما يتضمنه التاريخ حول الظلامات التي تعرضت لها المسيحية المشرقية، منذ الخلافة الأموية، لم يكن ناتجاً عن حقيقة الدين الإسلامي الذي يخلو كتابه من أية إشارة إلى استعداء المسيحيين. بل يتضح من مواقف «الرسول الكريم» تعاطفه وتسامحه معهم، على نحو يجعلنا نتساءل عن الأصول التي ترتكز عليها بعض الأصوليات الإسلامية التي تنادي بتكفير المسيحيين واستعدائهم واحتقارهم مع الإشارة إلى أنه من هذه الأصول ما تعرض له الإسلام من المجموعات الاستثمارية على مدى التاريخ وصولا إلى اليوم، علماً بأنها ردات فعل بشرية، لا أصول ولا علاقة لها بالدين الإسلامي.

إن لبنان مدعوّ لأن يحمل رسالته ليس فقط إلى المشرق العربي، بل إلى العالم أجمع. والتقارب الذي هو مدعوّ لتحقيقه بين المسلم والمسيحي، في لبنان، هو خير مثال يقدمه للدنيا الممزّقة.

وترتدي هذه الرسالة طابعاً إنسانياً. فالمخلوق البشري، هو في اللغة العربية الإنسان الذي يؤسس ويستأنس. أي أننا جمعياً متكاملون، فإذا أصغيت لسواي أتقبل في نفسي فكره، وشخصه، فالحكمة تقضي بأن يتجاوز الإنسان التباعد، ويرتضي الجماعة، ويصغي إليها، ويحتملها بأعلى درجات الصبر.

فهل يكون المجتمع الإنساني والغاب واحداً؟..

وهل يجوز أن نكون غافلين عن رؤية الحق في غير قومنا، ونستخدم غفلات الجماعات الأخرى، وما أتى، ونتج عنها، من ذنوب لمواجهة ذنوبها بأخطاء مماثلة.

فعلى الإنسان أن يعتبر الناس مرآة له، يرى من خلالها الجانب الأفضل من نفسه، ما يجعله يشعر بالارتياح بما يقوم به.

والمسيحيون والمسلمون هم من أصل واحد، انطلقوا من الجزيرة العربية وأنشأوا حضارات مختلفة وتوالوا في اعتناق الرسالتين، وبقي المسيحيون العرب مرتبطين بأوثق رباط مع تاريخهم، وأبناء أمتهم، وقد ترجموا ذلك انحيازاً لهم بوجه الفرس، والبيزنطيين، والله معني بهم جميعاً، كما تؤكد الكتب المقدسة.

- ولا تختلفوا «فإن كان مثلكم اختلفوا فهلكوا».

- وبشروا ولا تنفروا.. ويسّروا ولا تعسروا.

- «وليس منا من دعا إلى عصبيّة».

- لعمرك ما الأديان إلاً نوافذ

ترى الله منها مقلة المتعبّد

- فألمح في القرآن عيسى بن مريم

وألمس في الإنجيل روح محمد.

وإثر ولادة المسيحية توجهت الدعوة إلى أقرب الناس. وهم العرب، فانتشرت أبرشية المخيمات، من الناصرة والأردن، باتجاه حوران، وصولاً إلى بعلبك، مروراً بدمشق، التي بشر فيها بولس الرسول بالمسيحية، وحتى مملكة «الرها» حيث يؤكد المؤرخ الألماني بلنيوس بأن ملكها راسل السيد المسيح ورحَّب بتعاليمه، وأيَّدها..

وإثر ولادة المسيحية توجهت الدعوة إلى أقرب الناس.

وبعد كم نحن بحاجة في لبنان، إلى فتح عقول صدأت، وطرق أقفلت؟..

ولكن هل الأمر ميسور؟.......

صحيح أنه غير ميسور، ولكن الطريق غير مقفلة. وقد آن الأوان للخروج من هذه الحلقة الجهنمية. حيث أصبحت تتوالى الأزمات والحروب الأهلية، وتترابط الأزمات السياسية والتجارية والدينية بدون أن نرى نهايتها.

فما الذي نبقيه لورثتنا، أولاداً وأحفاداً، غير المخاطر التي تجعلهم ضحايا المشاريع الأجنبية، والتواطؤ الداخلي السياسي والتجاري، وعبدة المال؟

ألا يفرض علينا ضميرنا وواجنبا، والرابط العائلي بألاّ نورث ابناءَنا ما ورثناه. وما نرفضه؟..

فلنمضِ إلى يقظةٍ تاريخية، من خلال عقول ثاقبة، وعيون ترى ما جرى، وما يجري، أسباباً ونتائج، فنستبدله بما يريح الضمير، ويفتح آفاق المستقبل على الحرية والكرامة، والمحبة، السعادة والاستقرار.

أو نلجأ إلى العلمانية التي هي الحل البديل لـ«إلغاء الطائفية» التي بعد أن عجز المسؤولون منذ عشرين سنة عن تطبيق دستور اتفاق الطائف للنص الذي أوجب البدء بتأليف هيئة وطنية لإلغائها، ولكنه إستمر في الجوارير المغلقة، ما يشير بصورة واضحة الى تحفظ البعض إزاءَه، وبالتالي إلى صعوبة الفصل بين الدين والدنيا، وذلك من خلال ردة فعل إسلامية سلبية عبر استيقاظ الوعي الإسلامي التاريخي، والتراكمي، حول اشتداد ظلم الغرب على الشرق الإٍسلامي، الذي قوى الأصولية المتطرفة التي تعطّل دور التقدميين والعلمانيين.

غير أن للعلمانية وجوهاً متعددة. فمن علمانية، الأب ميشال الحايك التي يرى فيها «وسيلة لتبقى المسيحية شهادة للشرق، ودعوة مستمرة للحرية، واختباراً للقاء الروحي وإرادة التجدد والإبداع».. إلى علمانية المطران غريغوار حداد التي يراها بأن تكون شاملة، إلى علمانية المطران جورج خضر، التي يراها مترادفة مع الدولة الدينية، إلى علمانية الكاتب التونسي لطفي حجّي، الذي يرى تطبيقها عبر إجماع القوى السياسية المختلفة، وذلك غير متوفر حتى الآن، خصوصاً وأن القوى المخالفة، باتت تبحث هي أيضاً، عن موقع الدين في برامجها السياسية.

وهكذا فإن العلمانية تواجه حتى اليوم عقبات كبيرة، وإن لم تكن أفق التغيير مغلقة تماماً في وجهها، فما هو مستحيل اليوم، ربما يصبح مقبولاً غداً، إذا ما تعاونا على إعداد الوسائل المسهلة له.

وإذا ما طال الانتظار فهل نبقى مرتهنين للآلهة السياسية والمطامع الخارجية، ونستمر في خطيئة التقوقع والجفاء والتصادم، أو نذهب باتجاه الهجرة كما فعل من قبلنا عشرات الملايين من لبنان ومصر وسوريا والعراق وفلسطين. ونكون بذلك قد تنكرنا لجذورنا في هذه المنطقة العربية التي كان مناخها يتميز بالاعتدال والتجانس، بالرغم من المغالطات المصدرة إلينا، لا الناتجة عنا، مما جعل منها ساحة عطاءٍ ثقافي، متميز، ومترابط، كما كان يؤكد ابن خلدون، وعلماء آخرون.

ألا فلننهض من هذه المغائر، ولنسع إلى التحاور الصادق، والعميق، فيما بيننا، مسيحيين، ومسلمين، لنشكل حالة لبنانية تصحيحية لمعطى روحي وحضاري وهو ما يستحقه وطننا، والمشرق العربي، فالحوار بينا هو حقيقة تاريخية، تقدّم نفسها للأخوة، والمحبة، والشراكة، وتجعلنا سعداء بالعودة إلى البدايات الصحيحة المتفقة مع لاهوت ومبادئ ديانتينا، مفوتين الفرص على المتربصين بنا، والجاهدين لوضعنا في مواجهة ما يتفق مع أهوائهم، ويخدم مصالحهم.

وإنه نداء عبرت عنه عدة مرجعيات روحية مسيحية، بدءاً من الإرشاد الرسولي الذي وجهه المغفور له قداسة البابا مار يوحنا بولس الثاني إثر سينودس الرجاء من أجل لبنان متضمناً عبارة لا تزال ماثلة في الأهان وهي: «إن مسيحيي لبنان يدعون إلى أن يبنوا مع إخوانهم المسلمين في لبنان والدول العربية مستقبل عيش مشترك، وتعاون، وحوار، يهدف إلى تطوير بلادهم تطويراً إنسانياً، وأخلاقياً، يساعد على تحقيق الخطوة ذاتها في دول الشرق الأوسط»... مروراً بالسينودس من أجل مسيحيي الشرق الأوسط في شباط 2011 الذي أكد الناطق باسمه الاب عبدو كسم بقوله: «تكمن ثورة مسيحيي الشرق انطلاقاً من لبنان في التمسك بجذورهم وتاريخهم المشرقي، وفي التعاون والحوار مع الطوائف الإٍسلامية. على اعتبار أننا جميعاً من أبناء هذه المنطقة». وصولاً إلى الشعار الذي أطلقه ولا يزال يكرره غبطة البطريرك بشارة الراعي وهو الانفتاح على الشركاء في الوطن ومع الإسلام داخل وخارج لبنان. فجذورنا واحدة وتاريخنا مشترك، ويجب بأن يكون مستقبلنا واحداً ومبنياً على "الشراكة والمحبة".

من جهة أخرى، ويقول أحد العلماء المسلمين، بأن الاسلام لا يقول بالدولة الدينية بمعنى الدولة التي يتولى الحكم فيها رجال الدين باسم الله، او بوكالة منه، او حتى بوكالة عنه.

وعدم القول بالدولة الدينية ليس جديداً. فهو سابق حتى لقيام الدولة العلمانية التي عرفها المجتمع الاوروبي منذ أكثر من مائة عام (1905) حول مبدأ فك الارتباط بين الدين والدولة.

فهنالك تجارب عديدة عرفتها الانسانية في الشرق وفي الغرب هي تعلّمنا درساً أساسياً هامّاً هو ان الضامن الوحيد لاستقرار ونجاح أي مجتمع متنوع، او متعدد، سواء كان في دولة صغيرة مثل لبنان، أو في دولة كبيرة مثل الهند، هو في اعتماد نظام مدنيّ، يحترم الدين ولكن لا يحكم به، ولا ينتهك أديان الآخرين، أو يضيّق على أهلها...

فالعلمانية كانت في الاساس ضد الدولة الدينيّة في أوروبا. فيما العلمانية في الاسلام لا تحتاج لهذه الثورة، لأنها لا تحتاج لشيء لم يكن موجوداً أصلاً

ويقول الاستاذ محمد السماك الخبير في التاريخ الاسلامي بان الدولة في الاسلام مرّت في مراحل متعددة

فمنذ ان انشأ النبي الكريم دولة المدينة المنوّرة جعلها على قاعدة المجتمعين المختلفين اللذين يشكلان أمّة واحدة: مجتمع المسلمين الذين آمنوا بدعوته، ومجتمع أهل الكتاب، من مسيحيين ويهود، وهكذا فإن النبي الكريم مؤسس الدولة الأولى في الاسلام، لم يلغ الآخر المختلف دينياً، ولم يحاول تذويبه في بوثقة مجتمع المؤمنين به رغماً عنه، ولكنه اقرَّ له بخصوصياته المختلفة (لكم دينكم ولي ديني) واحترم ايمانه، لأنه في الاساس ايمان برسالة سماوية، كتاباً، ورسلاً، وأحكاماً، وتشريعات تشكل في الوقت عينه حيزاً اساسياً من الايمان بالإسلام. فالقاعدة الايمانية للدولة في الاسلام تقول بالعلاقة الوطنية على اساس احترام ايمان الآخر المختلف.

وهكذا حصل من خلال حكم الخلفاء الراشدين، فلمْ يبايَعْ أي منهم، على قاعدة انه مرجع ديني. ولم يجر البحث في لقاء "سقيفة بني ساعدة" عن المرجع الديني ليتبوّأ القيادة الأولى بعد وفاة الرسول، وكانت الدولة الاموية، ثم الدولة العباسية على هذا المنوال، فكان يدير شؤون الدولة وزراء ومسؤولون ومستشارون أساسيون من غير المسلمين، حتى ان صلاح الدين الايوبي، بعد ان حرر القدس من الصليبيين، عيّن يهوديّاً وزيراً للمالية، وفيما بعد التزمت هذه القاعدة الدول الاسلامية السلطانية، وان عرفت تراجعاً مع نهاية الدولة العثمانية.

وعليه فان قبول التعدد الديني منذ إنشاء الدولة النبويّة، هو مبدأ أساسي من خلال قبول الاختلاف والتعدد والتنوع الذي تقول به الدولة المدنية بمفهوم الدولة العلمانية.

ولا فارق كبير بين الدولة العلمانية والدولة المدنية، فانهما يكملان بعضهما البعض. فالدولة العلمانية تقوم على مبدأ فك الارتباط جملةً وتفصيلاً بين الدين والدنيا. أما الدولة المدنية فتقوم على مبدأ احترام الاديان، وإطلاق حرية رجالاتها وعلمائها تحت سقف سلطة لا دينية. فالاولى تعالج إشكالية العلاقة بين الدين والدولة، بالاستبعاد والعزل والالغاء، فيما تعالج الثانية، أي الدولة المدنية، هذه العلاقة، بالانفتاح، والتعاون، والتكامل.

ويؤكد الاستاذ محمد السماك بان الدولة تفسد الدين بتحويله الى أداة للتصارع اليومي على النفوذ والتنافس على السلطة، وفي ضوء كثرة المتنافسين. وتعدد أهوائهم، تطلعاتهم، فان استغلال الدين الواحد يعرّضه للانقسام، والتمزّق، وبذلك يصبح الصراع على السلطة صراعاً على الدين، ومن ثم صراعاً مع الدين. ولا يعرف التاريخ تجربة واحدة صنع فيها الدين دولة دينية. حققت العدالة بين الناس، على اختلاف عقائدهم وانتماءاتهم، واحترمت حقوق الانسان وكرامته كما يقول بذلك الدين نفسه، ولا يعرف بان ديناً ما استطاع بان ينجح في إقامة دولة، إلاّ وكانت تنتهي دائماً بمأساة على الدولة.

ان الاسلام يعرف دولة صنعها مؤمنون متدينون، ولم يعرف دولة دينية حكمها رجال الدين باسم الله او بتفويض منه، وهكذا فهو يميّز بين القول بدولة اسلامية دينية والقول بدولة مؤمنين بالاسلام.

وعليه، فان الاختلاط الديني، على المستوى العالمي كما هو على مستوى الدولة الواحدة، يعزز حاجة الانسانية الى الدولة المدنية التي تحترم الدين، وتصون حرية العبادة وتكفل احترام قواعد الاحوال الشخصية، من زواج وطلاق وإرث وسواها.

فالله واحد، وان تعددت الطرق اليه كما يقول الاسلام بأن الدين واحد والشرائع مختلفة كما يقول بتنوع الناس أجناساً وثقافات، ولذلك فان من حسنات الدولة المدنية، بل من مقوماتها، التي تؤكد على جدواها، بل حتى على ضرورتها، انها تفتح المجالات واسعة أمام المؤمنين، بجميع المؤمنين من أديان ومذاهب وعقائد مختلفة، لسلوك الطريق التي يعتقد كل منهم ان يمكن ان يوصله الى الحقيقة الإلهية، دون ان ينكر أي منهم على الآخرين حقهم في اختيار الطريق التي الذي يعبّر عن ايمانهم.

وفي ،الخلاصة، فإننا مدعوون جميعاً بدءاً بالمراجع الروحية العليا، ورجال الدين التابعين، لهم والمراجع السياسية الكبرى، والأحزاب السياسية، والجمعيات الشعبية، التي تضمّ المثقفين، والمنورين، والشباب الناهض، من دون أن نهمل الجمعيات النسائية إلى القيام بمهمّة تاريخية مشكلين مجلساً مسيحياً إسلامياً مشرقيّاً يقوم قادته من خلال حوار يتجاوز الطرق التقليدية، ليكون حدثاً سيترك أثره في سيرورة الزمن، ويفعل فعله في إنسانية الإنسان اللبناني والعربي، إلى جانب إيمانه بالإله الواحد المعظم، ويفتح أمامنا أبواب العزّ، والكرامة، والتسامح، والوحدة، والأخوة المستدامة. ويدخلنا مع المشرق العربي في عصر حضاري جديد طال حتى الآن انتظاره فيكون هدية نقدمها للعالم أجمع.

ثالثاً: وبعد؟.. نكون أو لا نكون؟..

يحرجني هذا السؤال كما قلت في مقدمة هذه المحاولة. ويعود سبب إحراجي إلى أنني قررت بأن تكون إجابتي صادقة صريحة وواضحة، ما قد يجعل هذا الصدق، وهذه الصراحة، وهذا الوضوح، أسباباً قد تنال من البعض في ماضيهم أو في حاضرهم، وفي ما يظنون أنهم يعدوننا بمستقبل يضمن للانماء والأحفاد، ما نأمل لهم من التفاهم، والتوافق، والشراكة في وطنٍ واحد، بالرغم من الخناجر التي تنحر جسده، وتشوّه صورته المضيئة، في قلب مشرق، لأبنائه في الانتماء إليه، وله الحق بأن نكون أوفياء له، فنجعله جسراً يربط الشرق بالغرب، موظفاً جهوده لردع المؤامرات التي تهدده، وقد تهدّده في الغد القريب. وعلى المدى البعيد، والأبعد...

وليعذرني من يتراءى إليه بأن ما أكتبه هو إساءة ناتجة عن حقد، أو عدائية أو طعن في وطنية. فأنا ربيت في عائلة مسيحية لبنانية لها ما يربطها بالقرى المسيحية المجاورة_ روابط جوار، وأخوة، وشراكة، لم تتمكن الحرب الأهلية، من النيل منها بل واجهتها، وأدارت رأسها عنها، فكان لها الشرف بأن تفوز بنأيها عن الحرب اللعينة. وعن ثقافة السيف والبندقية، فظفرت بعدم سقوط نقطة دم واحدة من أبنائها، من جميع الطوائف والمذاهب. والمعتقدات الحزبية.

أتشرف بأنني كنت ولا أزال، أحد الساعين فيها للوحدة والشراكة، وانني لا أزال، مسؤولاً عن "جمعية الحوار من أجل لبنان الواحد".

كما أتشرف بأنني من خلال ما تكلمت، وكتبت، كنت أدعو دائماً لهذه الوحدة، وأساهم في رسم خطة طريق للتنمية المستدامة في الريف اللبناني بجميع مناطقه.

ولماذا أسوق ذلك كله؟

لإطلاق صرخة بألاَّ يعطى له طابع شخصي، فهو لا يهدف إلا لقول الحقيقة التي انتهجتها من تجربتي على امتداد أربع عقود، في التصدي للأشرار، ووضع حدٍ للمطامع والتهديدات، التي تعرَّضت لها منطقتنا من الداخل ومن الخارج، مستنداً إلى قراءاتي حول تاريخ لبنان، ومقتنعاً بأن من يقرأ التاريخ، يرتاح وينتشي، فيستقرئ الماضي بنجاحاته وسقطاته، وينتشل منه أمثولات تحول دون تكرار السقطات، ويعزز مقابلها ما تم من نجاحات، وذلك عبر صرخةٍ، ونداءٍ، إلى الوعي والوحدة، والتضامن لدرء تداعيات الطائفية، وللخروج من كبواتها المتتالية، وإلى ممارسة «المواطنية» الصادقة والمنزهة من جهة ثانية، ومن خلالها نشر المحبة، والوحدة، والاستقرار...

وبعد، ومرّة أخرى، أطرح السؤال التالي:

أما من مخرج من الكبوات المتتالية، والسياسات المارقة، التي أحاطت ولا تزال تحيط بنا كلبنانيين، أبناء الوطن الواحد ؟...

أليس لنا من القدرة والإرادة لحماية أنفسنا، من كل ما يهدد بإلغاء وجودنا، وأمننا، واستقرارنا، وتاريخنا؟...

لعلّ الإجابة على هذه الأسئلة تتجلى بالوصف الذي أعطاه الكاتب والأديب اللبناني الأستاذ أمين المعلوف، عندما قال:

«إن لبنان يشبه الكرم المصوَّن بمصدات الرياح، والمعرّض في كل سنة للأمراض والحشرات، التي تستريح مؤقتاً في هذه المصدات. فإذا كان «الكرَّام» حكيماً، سارع لمكافحتها بالأدوية المناسبة، وإلا أتاح لها بأن تنتقل إلى الكرم وتنتشر فيه بكامله، فتطيح بدواليه والعناقيد، وتعرّضه مع عائلته للفقر، ولتوفير الحدّ الأدنى من متطلبات حياته»..

فلنبادر إلى قول الحقيقة، تماماً كما هي، وإلى الاعتراف بالإهمال وبالأخطاء التي اقترفناها، بحق "كرمنا"، ما أدَّى إلى الكوارث التي حلّت وتحلّ بنا، ونكف عن سوق المبررات لتقصيرنا عن القيام بما يتوجّب علينا لوضع حدّ لها، والحيلولة دون تكرارها..

أما السبيل الى ذلك، فهو في ممارسة «المواطنة»...

والمواطنة هي بالدرجة الأولى إخراج المسيحية والإسلام من نار التوظيف السياسي، وجعلهما منارة إشعاع للوحدة والوطنية الحقيقية من جهة. ومن جهة أخرى إلى إرتداء الثوب الديمقراطي الحقيقي القائم على الحرية والمساواة والعدالة، ومحاسبة الفساد، والمفسدين، وشراء الضمائر، ليتم بذلك تبدل رئيسي، وانقلاب شامل قائم على الوعي، والتفكير، والعمل، بعد أن تعرّض الوطن للضعف، والتلاشي، عبر التفريط بالوحدة، والتنوع، وتغليب الموت على الحياة، ما شكّل "عكازاً" لأصحاب المصالح، يتكئون عليه لإنجاز طموحاتهم، وتفسير هروبهم إلى الأمام بعد هذا الإنجاز...

إننا بحاجة لمراجعة ذاتية، بعد أن أصيب مجتمعنا بنكساتٍ قاتلة أوقعتنا في كبوات ومصادمات، فيما بيننا، ما دفع أبناءنا إلى الهجرة بإعداد تقدَّر بالملايين.

كم نحن بحاجة لفتح عقولٍ صدأت، وطرق أقفلت، فبتنا خرافاً يضحى بها، بصورة دورية.

فهل ننتظر أخطر ما أصابنا، أو نسعى بكل قوانا والوسائل المتاحة إلى تفاديه بسرعةٍ، بالرغم من العوائق والعقبات؟

الأمر ليس بميسور، ولكنه ليس مستحيلاً..

إنه في التربية المواطنية الصالحة، وفي الديمقراطية الحقيقية، وكلاهما يتكاملان. فالمواطنية الصالحة بحاجة إلى الديمقراطية الحقيقية، والديمقراطية الحقيقية بحاجة للمواطنية الصالحة.

ماذا عن المواطنية الصالحة أولاً،

إننا مدعوون لحماية "كرمنا" من جحافل الغزاة ومجابهة المخاطر التي يتعرّض لها بدون كلل، بعد الاعتراف بالخطايا التي اقترفناها، ونكف عن سوق المبررات لتقصيرنا عمّا يتوجب علينا لمنعها، وذلك من خلال التنشئة المواطنية وهي تختصر في التوقيع على وثيقة المحبة والوحدة، والشراكة، بين جميع الطبقات الدينية والاجتماعية التي يتكون منها الوطن وذلك من خلال الانتماء إلى وطن واحد هو بمثابة إنتماء الإنسان الى ثدي أمّه، وفصيلة دمه، وسقف بيته.

فبالمحبة تقرّب البعيد، وتقفل الفجوات مهما كانت واسعة،

وبالمحبة يعود النور إلى أبصارنا، والحلول إلى عقولنا، والسمع إلى ضمائرنا،

ولا نعولنَّ بعد اليوم على الاندفاع وراء الشعارات التي تعوَّدها شعبنا والتي هي أكثر من بضاعة مغشوشة سقطت في الماضي، وتسقط اليوم أمامها، البالونات الوطنية الكاذبة.

فالمحبّة تمثل لنا السند والمدد، والضمانة والخيار الوحيد، الذي تسقط أمامه جميع الخيارات.

إنني أكتب هذه الكلمات بعصبيةٍ وطنية حارقة كأنها تطلق من فوهة بركان، فلا بد بأن يكون لها طعم الحريق، ولكنها بمثابة قناعة ثابتة، لا أخجل بها، بل أعتزُّ بها على العكس لأنها جزء، ليس فقط من فكري ومن قناعتي ومن خطي الوطني، وإنما أيضاً من إيماني المسيحي الحقيقي فلقد آن الأوان أن ننتقل كل طائفة إلى وجدانها الوطني والتاريخي، وإخراج المسيحية والإسلام من نار التوظيف السياسي الذي يهدد منارة الوحدة الوطنية، وذلك من خلال انقلاب شامل في الوعي والفكر والعمل لأنه يستحيل التواصل بدونه، ولأنّه يضفي على الحياة هدوءَها، واستقرارها، ويؤدي غيابها إلى تغليب الموت على الحياة.

كيف نحقق بصورة عملية هذه المواطنية؟

إن ذلك يتطلب «التنشئة الوطنية» التي تبدأ في العائلة من خلال سلوكية الأب والأم، وخطابهما اليومي باتجاه اللاطائفية، مروراً بالمدرسة والجامعة، وعبر رجال الدين المنوّرين، ومؤسسات الإعلام على اختلافها، وفي ذلك ما يؤكد إلزامية الوحدة الوطنية، والقبول باللبنانيين إلى أي ديْنٍ، أو مذهبٍ، أو حزبٍ انتموا، على أنهم أخوة لنا وشركاء في المصير.

-1- إن "التنشئة الوطنية تبدأ في العائلة" من خلال سلوكية الأب والأم، فخطابهما اليوم يجب ان يكون باتجاه اللاطائفية، والوحدة الوطنية، والقبول باللبنانيين، إلى أي دين، أو طائفة، أو مذهب، أو حزب انتموا، على أنهم إخوة وشركاء في الواقع والمصير.

ان تعاليم الأهل، هي بمثابة البذار الحقيقي الذي ينتج البنفسج الخلقي، والارزة الوطنية التي تبسط أعضائها فوق مكوّنات مجتمعنا المتعددة.

ودور الأم والأب لا يقتصر على احتضان أولادهما وتأمين الغذاء لهم والكساء، وهي خدمات لا تلبث ان يوفرها الابناء بانفسهم، وإنما هو في مدّهم بالينبوع الذي لا ينضب، والذي يقوم على توجيه السلوك الانساني، وتغذيته بالمعرفة، والحكمة، والاخلاق، ومتانة الروابط العائلية والاجتماعية، والتكامل، والتواصل، والوحدة، والشراكة، والتحابّ، وكلها تشكل ثقافة انسانية لا تلبث ان تمتدّ الى المستوى الوطني.

وفي ذلك يكون الاب والأم، قاما بتزويد الابناء بالوسائل الاخلاقية والانسانية المشروطة التي لا تكتفي بتأسيس العائلات، وبناء المجتمعات، وتأمين سبل العيش، وإنما أيضاً بتملّك السمات والمزايا الضرورية لمواجهة التحديات الكبيرة، من خلال الوحدة الوطنية، والتحابّ، والشراكة وتجاوز التعدد الطائفي والمذهبي، وبناء السقف الوطني الواحد الذي يحمي الابناء والاحفاد من المخاطر التي سبق ان دفعنا ثمنها غالياً كما دفع آباؤنا وأجدادنا في الماضي، فكنَّا، وكانوا ضحايا العواصف التي خربت بلدنا ومنطقتنا منذ فجر التاريخ حتى اليوم.

-2- وإلى جانب العائلة الوطنية، هنالك "التنشئة الوطنية في المدرسة".

فالشباب اليوم وبخاصة في لبنان، يبحثون عن تغيير حقيقي ينعكس على حياتهم، ومعيشتهم، إيجابياً ويقدم لهم فرصة الانطلاق والتعبير عن الذات، والاستفادة من ثروات بلادهم بشكل يجعل حياتهم سهلة ميسورة، ومكرمة، وهم يتطلعون إلى تقليص الفجوة التي تستمر في التمدد بينهم وبين المسؤولين، الذين لا يفهمون حتى الآن لغة الشباب ومتطلباتهم، ولا يزالون يستخدمون اللغة والمفردات الخشبية، التي لا تلائم الواقع، ولا تقنع الأجيال الجديدة التي تتكلّم لغة أخرى، وترغب في تحقيق تغييرات تواكب العصر، بعيداً عن ادعاء المثالية، وفي ظل واقع يزداد سوءاً.

ان المدرسة، والجامعة، يشكلان البيت الذي يبحث فيه عن حقيقة الكائن البشري، كما وصفها البابا بندكتوس السادس عشر في صيف 2011، في "مدريد"، فهي تمثل بنظره "مثالاً أعلى ينبغي الاَّ يفقد فضيلته بسبب تجاوز الطائفية والحزبيات، والايديولوجيات الرافضة للحوار العقلاني، ولا بسبب الخضوع للشروط التي يمليها المنطق النفعي للسوق الذي يرى فيه الانسان مجرّد مستهلك".

وباختصار فإن الجامعة هي مجموعة "اساتذة وطلاب يبحثون معاً عن الحقيقة في المعارف كلها، وهي بيت ومقام رفيع للبحث عن الحقيقة".

وتوظيف المواطنية في تحقيق وحدة وإنماء الوطن، ما يوفر لأبنائه فرص العمل، والحياة الهادئة والمستقرة، كما يتيح لهم تحقيق العدالة والمساواة، وتجعلهم قادرين على صنع مستقبلهم بما يتفق مع طموحاتهم، والقواعد الوطنية السليمة، التي تبرز قيم المواطنة، والسلم الاجتماعي، وحريّة المعتقد التي نصّت عليها الاديان، وما يوفر توعيتهم لدورهم الديمقراطي الذي يرمي الى ممارسة حقهم ومساءلة ومحاسبة، المسؤولين، مهما علا شأنهم، لو أد الممارسات السيئة والسائدة في الوقت الراهن سواء كان ذلك على الصعيد المالي، أو السياسي، واستقرار الوطن، والتضامن الاجتماعي.

-3- ونأتي الى دور "رجال الدين في التنشئة الوطنية"، ذلك ان الشعب يعتبرهم، بحق، سفراء الله على الارض. وبناء "المواطنية" السليمة، ويطالبهم بأن يتعاملوا مع المسؤولين السياسيين. بما يتفق مع وحدة المواطنين، وتأمين حقوقهم بالحرية، والكرامة، والعدالة، والمساواة، التي غالباً ما ينادون بها. والتي هي من صنع الكتب المقدسة، والتعاليم الدينية، كما هي في صميم ممارسة حياة القديسين، والعلماء لأطهار، والأنقياء، وبالتالي، فالمطلوب منهم ان يعملوا على إخراج المسيحية والإسلام من نار التوظيف السياسي، وغمرهم بنشوة "المواطنية" التي هي معطي مقدس، ويتعيّن الانحناء أمامها، والتسليم بها على اعتبارها أساساً للسلطة الأكثر ثباتاً، والأرسخ جذوراً، ويجب أن تتساقط أمامها الدكتاتوريات، وتترسخ الأيديولوجيات، وترتجف الأنظمة، وبخاصة عندما تكون متسوّلة على أبواب الأنظمة الخارجية، وممسوكة بسلطة الرب الثاني، الذي هو المال، على حد ما قال السيد المسيح، بل أن تكون محتفظة بنقائها وشرفها، وعذريتها.

إن دور رجال الدين يبقى أمل الهادفين الوطنيين لتحقيق التنشئة الوطنية، بعيداً عن الضغوط المعاكسة، وهو الدور الأكثر تأثيراً في المجتمع، فرجال الدين يستطيعون التوجه يومياً إلى الكبار والصغار، والمثقّفين والبسطاء، والأغنياء والفقراء، وطبقاً لمضامين الكتابين المقدسين، الإنجيل والقرآن، ومن خلالهما، لمشيئة الإله الواحد، بحيث أنهما أوصيا بالمحبة والتسامح، والمعايشة، وهي وصايا منغرسة في تضامين الرسالة المسيحية، والدعوة الإسلامية، اللتين تحترمان القاعدة الأساسية في رعاية التنوع الإنساني، والاعتراف بتنوع المواهب، وذلك ما تؤكده الكتب المقدسة. أليس ذلك ما تتحدّث عنه الآيات التالية في الدين الإسلامي:

«والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا».

«ولا تنازعوا فتفشلوا ويذهب ربحكم».

« وكونوا كلكم في سلام مع العالم، لتكونون في سلام مع ذواتكم».

«سالموا جميع الناس فالسلام مصالحة مع الله».

« ولا تدعوا ببطن مكة مظلوماً من أهلها، أو من دخلها، من غير أهلها، إلا ان تكونوا معه على ظالمه حتى ترد مظلمته».

«انشروا الحب وسيكون العالم أفضل».

فالإسلام الحقيقي هو الدين المتسامح، والواعي لدوره الاجتماعي، إلى درجة أنه ذكر السلم ومشتقاته في 138 آية من القرآن الكريم.

أمّا المسيحية، فقاعدتها الصلبة هي في التسامح والمحبّة. "فحين أتى يسوع كان عصر المحبّة قد بدأ" كما يقول بولس الرسول، كذلك فهي في العلاقات المتوازنة والمساواة والعدالة في الحقوق والواجبات: وأن الحرية هي للجميع وهي تعتمد الاعتراف بأن الإنسان هو أخ الإنسان مهما كانت انتماءات المجموعات البشرية، الطائفية منها، والثقافية، والحزبية.

وهكذا فإن الدينين المسيحي والإسلامي، يقولان بحقّ الاختلاف كضمانة للسلم الأهلي، وقد قال غبطة البطريرك بشارة الراعي: " علينا أن نقرّ أننا نحتاج واحدنا للآخر وان أحداً منا لا يملك الحقيقة الكاملة التي هي عند الله وحده"، وما خالف ذلك فهو مخالف للاهوت الديني، وهو كفر، ومن يكفر بنفسه لا حق له بتكفير سواه.

-4- أما "التنشئة الوطنية" من خلال الإعلام فإنني وقد كنت خلال العقد العاشر من القرن العشرين في قلبه، أكتفي بتوجيه تحية إكبار لمعظمهم، ولكنني، وبروح أخوية، أرجو منهم أن ينظموا استطلاعاً جدياً في أوساط الشعب اللبناني، بدون تمييز طائفي، أو مذهبي، أو فكري، ليطلعوا على موقف اللبنانيين الحقيقي من دور الإعلام الحالي، وهو دور، ليصدقني الأخوة الإعلاميون، بأنه يوازي الأدوار الثلاثة المؤثرة التي سبق أن ذكرتها، ولا يجوز إفساح المجال لإيذائه أو إتاحة الفرص للنيل من دوره الإجتماعي، والوطني، والإنساني.

هذه هي المواطنية الحقيقية التي نطمح إليها...

إنها مواطنية علمية تقوم على أدوار محددة للمؤثرين فيها، وهم الأهل، والمعلمون، ورجال الدين، والإعلاميون، وبهذه الصفة الجامعة، تلعب المواطنية بكافة أشكالها دوراً كبيراً في ترسيخ المبادئ الديمقراطية التي نصبو إليها جميعاً.

فما هي الديمقراطية الحقيقية ؟

لقد بدأت الديمقراطية في العصر اليوناني، ثم تطورت فأصبحت ممارسة شعبية برأسها وجمهورها، ينتج عنها سلطة تتشكل من حكومة، تنبثق من الشعب مباشرة، أو بصورة غير مباشرة، من خلال مجلس تمثيلي يختاره الشعب بحرية مطلقة، عبر أشخاص، يكونون قد خضعوا، مع الوقت، لامتحان، وتجربة، ومن خلال تقييمهم، تقييماً صادقاً وحراً، وبعيداً عن المؤثرات الشخصية على اختلافها، لا قلّة متخمة تعتبر الإنسان وسيلةً يضحي بها على مذابح مصالحه، فتغدق له الوعود، ثم يتحول بعد ذلك الى أدوات قهر وظلم وفساد.

فالديمقراطية الحقيقية، هي التي تمثل الشعب، من خلال إرادة الشعب، ولمصلحة الشعب، وبمشاركة الشعب، وذلك باتخاذ القرارات، ومراقبة تنفيذها، والمحاسبة على نتائجها كما أنها علامة مضيئة للعصر، وهي رسالة، وغاية.

إنها العملية التي تربط الفرد بالوطن، والمواطن بالدولة، ليكون من خلالها المواطن قيمة كبرى في الحياة الوطنية، وإلا يصبح جسماً غريباً مقطوعاً عن أية جذور تربطه بالوطن.

والمواطن يكون مواطناً بالمفهوم الديمقراطي الأصيل، إذا كانت انفعالاته صادرة بصدق ووضوح، وناتجة عن اطلاع وكفاءة، وإذا كان ذا عقل راجح، واضحٍ، بعيداً عن الترّهات، وذلك ما يدفعه إلى النضال من المجتمع الذي ينتمي إليه، محققاً ديمقراطية، هي من فعله، وليست من فعل أصحاب السلطة المستغلّة له، عبر الموبقات الطائفية، والمذهبية، والقمعية، وبخاصة المالية، فلا يحوّل إلى سلعة تباع وتشترى.

فالإنسان غاية في ذاته، وهو قيمة تمتلك طاقات يستطيع من خلالها، أن يجابه أهل السلطة القمعية وغير العادلة، ويروّض الطبيعة وسائر الكائنات، ويتحمل مسؤولياته فينصرف بوعيه إلى توعية الآخرين، ليصبحوا على مثاله أحراراً وواعين، وقادرين على تحمل مسؤولياتهم. ولعب أدوارهم الوطنية القاضية على الجهل.

وهكذا فإن «المواطنية» و"الديمقراطية تتكاملان" لتجعلا من المواطن سيداً يختار ما يتلائم مع مصلحة مجتمعه متجاوزاً المطامع الداخلية والخارجية، رافعاً رأس بلده، ومشاركاً في صياغة السياسيات الوطنية، التي تتواءَم مع مصلحة المجتمع، وتؤمن حقوقه في الحرية، والعدالة، والمساواة، والديمقراطية تبقى المصدر الوحيد لبلوغ الإنسان في هديها حقوقه الكاملة، وكرامته، لأنّ فيها بالذات دينامية تصحيح ذاتها فحيث تفتقد الديمقراطية تنعدم هذه الحقوق...

إن التنشئة الوطنية تحول دون تحطم آمال اللبنانيين على صخرة الاستبداد الفردي، والقبلي، والعسكري، وهي تستوجب إلى جانب ما ذكرناه دعوة المجتمع المدني، الذكوري والإناثي، وبخاصة المثقفين منهم، الى إقامة مشاركة شعبية في الرأي والمشورة، ذلك عبر إنشاء جمعيات أهلية تعنى بالتنمية الاجتماعية، والاقتصادية، والصحية، والثقافية، وفي كل ما يتعلق بالبعد الإنساني، كما تدعوا إلى حلقات حوار بين نخب الشباب والمثقفين، تعمل على توحيد الرؤية من خلال مراجعة ذاتية حول ماضيها، وما تأمله لمستقبل الوطن، فتقلع بمعظمها عن العمل والسعي، في ركاب أصحاب السلطة، الذين يعملون بكل جهودهم لتغييب الحقائق، وحجب الرؤية الوطنية عنها، كما يساهمون في تزوير الوقائع، وتقديمها، بصورتها البشعة، بغية تأمين منافعهم الذاتية.

الحوار بين المسيحي والمسلم هو حقيقة ملزمة تاريخياً، تقدم نفسها «للأخوّة والمحبّة والشراكة» والتوافق على الكليات، من دون الاختلاف على الجزئيات، فتجعلنا سعداء بالعودة إلى البدايات الصحيحة – المتفقة مع لاهوت ومبادئ ديانتينا، ونزع الغبار المتراكم فوق صفحات تاريخنا، مفوّتين الفرص على المتربصين بنا، الجاهدين لوضعنا في مواجهة تتفق مع أهوائهم ومصالحهم.

وإننا بذلك نكون قد وضعنا أنفسنا على الطريق الصحيح الذي اكتشفته قلة من رجال الدين المتنورين في الماضي، ورجال الدين المتنورين اليوم وغداً، والمؤهلين والمدعوين لشرف القيام بهذا الدور التاريخي – بصفتهم سفراء الله على الأرض في هذه المنطقة العربية، التي تميز مناخها بالاعتدال والتجانس – ولا ينقلب عليها أحيانا إلا بسبب المؤامرات المحيوكة عليها والمصدرة الينا بين الحين والآخر، لا المنطلقة منها، مما جعل منها ساحة عطاء ثقافي يتميّز، كما يقول ابن خلدون وعلماء آخرون.

وبإنتاج نخبة مثقفة ذات تأثير وازن، تنتج طبقة حاكمة من صنع الشعب، وتعمل من خلال قوانين انتخابية، لا تستخدم في إيصال مسؤولين "غبّ الطلب" الطائفي أو المذهبي، بالقمع أو ببيع الهوية في سوق النخاسة، صُنعُهم خارجياً كان أو داخلياً، وذلك بشراء الأصوات، بمبالغ باتت خيالية.

وعلى الطبقة الحاكمة أن تبذل جهدها لتطبيق اللامركزية الإدارية، التي نصّ عليها اتفاق الطائف منذ عقدين من الزمن. والتي بقيت حتى الآ، أوراقاً مرصوفة في جوارير المسؤولين حتى الآن.

وأهمية هذه اللامركزية هي في نقل البلاد من الإنمائية المركزية إلى الإنمائية المتوازنة حتى تطال جميع المناطق اللبنانية، التي فقدت اهتمام الدولة. لا أن تنحصر في العاصمة. فينـزح من المناطق معظم سكانها لتبقى صالحة فقط، للجنازات، ومواسم الانتخابات النيابية والبلدية، ما همّش القطاع الزراعي ودفع إلى استيراد ما لا يقل عن 80% من حاجات لبنان الغذائية.

وأخيراً...

أنبقى؟ أو لا نبقى؟...

أنريد أن نبني وطناً، أو أن نقيم "خيمةً" مفتوحة لمطامع الغرباء الآتين إلينا من كل حدب وصوب ؟.

ألا نخجل بأن نكون قد عجزنا على امتداد التاريخ بأن نحكم بلادنا بأنفسنا، ولم نعرف الاستقرار فيها، إلا من خلال "المتصرّفية" و "الإنتداب" و "الوصاية" ؟.

يقول الفيلسوف الألماني "هيغل": "صحيح بأن التاريخ يعيد نفسه بشكل مأساة للمرة الأولى، أما في المرة الثانية فيشكّل مهزلة...، أمّا في المرة الثالثة...؟ وقد أجاب الكاتب اللبناني، جوزف مسعد، بقوله: "يتّضح ممّا يجري حولنا اليوم، بأن التاريخ يعيد نفسه للمرة الثالثة، لا كمهزلة، بل ككارثة،...".

لقد بات من حقّنا ان ننهض من عَفَن الوادي، الذي أوصلنا إليه المسؤولون، متطلّعين الى "بهاء" القمم.

تعالوا ايها اللبنانيون،

ولنضع ايدينا، قبضةً واحدةً، ولنضاعف الجهود، أكثر مما فعله آباؤنا وأجدادنا، فنرفض التفريط بقداسة، وشرف، وكرامة ومجد وطننا لبنان.

لقد آن الآوان بأن نتجاوز خطابنا السياسي الذي يفرّق، ونندّد بكل ما يدعو الى الإنقسام، والإنشطار، ونقرّ بحاجة "واحدنا الى الآخر".

ولنجلس الى طاولة واحدة، بثقة وأخوّة، وترابط، متحاورين، بكل شفافية، وصدق، وصولاً الى الوحدة والشراكة، ومستعيدين عيشنا الجميل المشترك، ومواصلين رسالتنا المقدسة في لبنان، والشرق، والغرب.

أيها الاخوة اللبنانيون ،

إنَّ بقاء الوطن هو من إرادتنا، ومن قرارنا، ومن فعلنا..

فاذا يئسنا، يسقط...

واذا عاندنا، ينتفض، ويرتجف، ويثور... ويبقى لنا "الوطن الموحَّد"، السيِّد، الحرّ، الديمقراطي، والمستقلّ...

لا لبنان "المتصرّفيّة"، ولبنان "الانتداب"، أو لبنان "الوصاية".

ولد نبيه غانم في بلدة صغبين بالبقاع الغربي، واتم مراحل دراسته من الابتدائية حتى الثانوية في مدرسة الفرير في الجميزة.

حاز غانم على 3 شهادات جامعية، فنال شهادة الهندسة الزراعية من المعهد الزراعي الوطني في غرينيون بفرنسا، كما نال اجازة في الحقوق من جامعة القديس يوسف في بيروت، اضافة الى شهادة دبلوم الدكتوراه في العلوم الاقتصادية من جامعة القديس يوسف ايضا.

شغل غانم عددا من الوظائف الادارية في لبنان وخارجه، بحيث تسلم رئاسة ادارة الثروة الزراعية في لبنان من العام 1958 حتى العام 1964 ، ورئاسة مصلحة زراعة البقاع من العام 1964 حتى العام 1970، ومن ثم رئاسة مصلحة التعاون في البقاع من العام 1973 حتى العام 1992، واخيرا تم تعيينه مستشارا لمجلس ادارة بنك بيروت للتجارة من العام 1992 حتى العام 1997.

كما عيّن غانم مندوبا للبنان لدى منظمة الدراسات الزراعية العليا لدول البحر المتوسط من العام 1980 حتى العام 1993، ونائباً لرئيس المنظمة نفسها من العام 1984 حتى العام 1986.

الى جانب الوظائف الادارية، عمِل غانم في مجال التدريس الجامعي، فعمل كأستاذ محاضر بمادة الاقتصاد في كلية الحقوق بالجامعة اللبنانية من العام 1978 حتى العام 1995، وكأستاذ محاضر بمادة الاقتصاد في كلية الزراعة بجامعة القديس يوسف من العام 1978 حتى تاريخه، اضافة الى تدريسه مادة الاقتصاد الزراعي في كلية الصيدلة في الجامعة اليسوعية منذ عام 2003 حتى تاريخه. كما عمِل غانم كأستاذ زائر بمادة الاقتصاد،في معاهد الدراسات الزراعية العليا في "" ايطاليا ، "" اليونان، و"" فرنسا، خلال فترة عضويته في منظمة الدراسات الزراعية العليا لدول البحر الابيض المتوسط من العام 1985 حتى العام 1993.

للدكتور نبيه غانم مؤلفات كثيرة منها، المشكلة السكرية في لبنان عام 1966، الزراعة اللبنانية وتحديات المستقبل عام 1972، التسليف الزراعي في خدمة التنمية عام 1984، الزراعة اللبنانية بين المأزق والحل عام 1998، مشروع قانون الزراعة عام 1996، خطة "التنمية الزراعية" للبناني عام 2009، و مشروع بحيرة الليطاني السياحي.