حتمًا لم يستقل مارتن يوسف لأن صقيع لايدسندام ما عاد يناسبه وهو المصريّ الذي كان قاطناً وعائلته في كندا قبل أن “تخطفه” المحكمة الدولية الى هولندا ليعمل ناطقاً رسمياً باسمها طوال ثلاث سنوات ونصف السنة.
لم تكن مهمّة يوسف سهلة في صرحٍ لا تعترف به شريحةٌ كبيرة من اللبنانيين لا بل تقاطعه من باب عدم إعارته أهمية لثقتها بأنه مجبول بملفاتٍ وأبعاد وحساباتٍ “مسيّسة”. طوال تلك الفترة كان يوسف حريصًا على تبرير عمل المحكمة وإبعاد كلّ الإشاعات والتسريبات التي تهزّها، لا بل تسويغ بعض الاستقالات المفاجئة منها وآخرها وليست أولاها تلك التي سجّلها القاضي روبرت روت، رئيس غرفة الدرجة الأولى. مهمّة الدفاع عن “سُمعة” المحكمة في غمرة تخبّطاتها والتشكيك في عملها بدت مقدّسة ليوسف، إذ قال لـ”صدى البلد” في حديثٍ سابقٍ: “في طبيعة الحال هناك أناس كثيرون معارضون لعمل المحكمة والمبادئ التي نلتزم بها ونعمل على أساسها ونحن نعترف بذلك. وهذه المعارضة هي نفسها تلك التي تواجهها كلّ محكمة دولية. المهمّ أنه على المدى الطويل، سيتم الحكم على المحكمة الخاصة بلبنان استناداً الى نزاهة الإجراءات التي انتهجتها والعدالة التي أرستها لا ركوناً الى شعبيتها الحالية في لبنان”.
ظهور اسم الحاج
اليوم ينهل يوسف مما كان يقوله عمن سبقه الى خارج لايدسندام ليشرح أسباب رحيله المفاجئ والتي تندرج -على ما أكد بنفسه- في خانة عودته إلى كندا لإنشاء شركته الخاصة. ولكن قبل ذلك، كانت بديلته الموقتة ماريان الحاج بدأت تستعدّ نفسياً لملء هذا الفراغ، خصوصًا أن اسمها بدأ يظهر أكثر فأكثر في الرسائل الإلكترونية المُرسَلة الى صناديق بريد الصحافيين من قبل المحكمة وآخرها باسمها “من قبل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان” في 13 حزيران الفائت مذيّل باسم ماريان الحاج (الناطقة الرسمية بالنيابة) وفيه معلومات عن جدول أعمال جلسة قبيل المحاكمة المنعقدة في 16 حزيران.
هامش التشكيك ضيّق
“أعزائي الإعلاميين، مرّت علي ثلاث سنوات ونصف السنة أمضيتها في العمل بصفتي الناطق الرسمي باسم المحكمة الخاصة بلبنان، وآن أوان مرحلة أخرى، وها أنا أستقيل من منصبي” بهذه الجملة الافتتاحية أعلن يوسف مغادرته المحكمة الدولية عازياً الأسباب الى بدء حياةٍ جديدة في كندا في شركته الخاصة، نافياً بذلك أن تكون لمثل هذه الاستقالة المفاجئة أسبابٌ سياسيّة. تلك الأسباب تستبعدها مصادر قانونية مطلعة على عمل المحكمة عبر “صدى البلد” مشيرةً الى أن “الصبغة السياسيّة كانت أقوى في الاستقالات السابقة التي سجّلها قضاةٌ مرموقون كانت لديهم من دون أدنى شكّ اعتراضاتٌ على آليةٍ من آليات عمل المحكمة أو وصلوا الى مرحلة كوّنوا فيها قناعةً بأن عمل ذاك الصرح مسيّسٌ وبأن المحاكمات الغيابية لن تجديَ نفعاً في ظلّ ما بدا وكأنه “استفحال” مكتب الإدعاء في القرارات مع دورٍ خجول لمكتب الدفاع حتى خلال جلسات الاستماع الى شهود الادّعاء، قبل أن تغرق المحكمة في هموم مسائل التحقير لتنسي أهل الحقيقة القضيّة المحور التي من أجلها أنشِئت”. وتشير المصادر الى أن “مجال التشكيك في انسحاب يوسف لأسبابٍ سياسيّة ضئيل نسبياً لأسبابٍ عدة: أولاً هو مصريّ الجنسية وبالتالي هامش الحديث عن ضغوطٍ تُمارس عليه ضيّق. ثانياً، من المفترض أن شخصاً مماثلاً كانت له مكانته في المحكمة وحصد شهرةً عالمية، هذا بغض النظر عن الراتب الذي كان يتقاضاه والذي يُفترض أن يكون مرتفعاً لشخصٍ في هذه المكانة. ثالثاً وأخيراً، لم يكن يوسف في موقع قرار كي يكوّن خشياتٍ سياسيّة فهو لم يكن سوى ناطقٍ باسم المحكمة وبالتالي الحديث عن إفلاسٍ في إيجاد الأحاجيج والذرائع غير مصيب في هذا المجال لا سيّما أنه كان ملاحظًا أن الرجل كان دقيقاً في ما يقول وغالباً ما يكرّر تصريحاته بين وسيلة إعلامية وأخرى حرصاً على عدم توريط المحكمة في موقفٍ يُفهَم في غير محله خصوصًا متى صرّح بالإنكليزية”.
مهمة غير وردية
حتى لو لم يعد يوسف مقتنعاً بعمل المحكمة الدولية فهو لن يجاهر بذلك حتمًا كي لا يصيبه ما أصاب صحافيين لبنانيين شكّكوا في عملها. وإذا كان الوقت المتبقي ليوسف قبيل عودته الى كنف عائلته في كندا هو 16 يومًا سيبقى مخولاً التصريح خلالها، فإن مهمّة الخلف لن تكون ورديّة إذ يكفي أن تكون لبنانيّة ناطقة باسم محكمةٍ يرفضها نصف اللبنانيين أقله ليتّضح حجم الإحراج الذي قد تواجهه الحاج لكن ليس طويلاً بعدما غدا انخراط اللبنانيين في عمل المحكمة، ولو كان ذلك في مكتب الدفاع، بمثابة أمر اعتياديٍّ بالنسبة الى رافضي عملها لأن أي رد فعل عكسي من قبلهم سيعني حكمًا الاعتراف بها.
لا تأثير
إذاً، الى أن يُعيَّن بديل ليوسف من الذين سيتقدمون بطلباتهم الى هذا المنصب بعدما فتحت المحكمة أبواب الانتساب، ستتولى الحاج التي كانت تهتمّ باللوجستيات النطق باسم المحكمة. ولكن الى حينها، لا يُتوقّع أن تؤثر استقالة مارتن على مسار عمل المحكمة وهو ما أكده بنفسه منذ ساعات، كما ولن تبدّل الكثير في نظرة بعض اللبنانيين الى المحكمة بعدما سبقتها استقالاتٌ أكثر دوياً، إلا أن كثراً ينظرون اليها على أنها صفعة جديدة لصدقيّة المحكمة وخيبة لأهل الحقيقة، من دون أن تكون ذريعة كافية للحكومة للتغيّب عن تمويل المحكمة هذا العام وإن كان لدى الكثيرين من الوزراء قناعة بأن أموال الدولة تُهدر سُدًى في هولندا فيما مجلس النواب عاجزٌ عن صرف أموال سلسلة رتب ورواتب مستحقّة.