"المواطنية" الكاذبة
لقد بلغ السكّين العظم...
هذا أهمّ ما يمكننا أن نستخلصه مما يحدث في لبنان، اليوم".
لقد طفح الكيل لدى اللبنانيين...
فملأت الوساوس صدورهم،
وأحاطت بهم الهواجس،
وسربلهم القنوط والإبلاس،
وغشيّهم الحرب من كل جانب، فانبرى أبطالها، وأهل البدع، والمصالح، وأصحاب العقول اليابسة، من داخل، ومن خارج، يملأون الشاشات، وينتضون الأقلام، وينصبون المصائد، ويقرعون الطبول. ويرسّخون الغرّ، ويضللون العباد، وخربون البلاد...
الذين، منّا، عاشوا فترة الحرب الأخيرة والتي لم تنعدم كليّاً حتى الآن، والذين قرأوا تاريخ بلادهم وحتى اليوم، تعلّموا في ما شهدوا وعبر ما قرأوا، حقيقةً مؤلمة، ومعيبة، ومخجلة، وهو بأن اللبنانيين، لم يحسنوا قط الوحدة، والتضامن، والتعايش، والخروج من الوهم الكبير، الذي كان يستولي عليهم، بصورة دورية، ومنتظمة، بأن لا حلّ في الداخل للخلافات المستحكمة في ما بينهم، وانّ القوى الخارجية ، وحدها، قادرة على إنقاذهم من الحروب، والارتقاء الى التفاهم، نهائياً، على متّحد إجتماعي مجموعة الأقليات الطائفية والمذهبية، التي تتمتّع كل منها بخصصياتٍ أحياناً مع حصوصيات سواها، وتتأثر بعوامل كثيرة، منها ما هو زمنيّ، ومنها ما هو روحي، وإلهيّ، يدخل في جوهر تكوينها، فيستغلّها أصحاب المصالح والكراسي، من داخل، ومن خارج، مدّعياً، حماية خصوصياتهم، وتأمين مصالحم، ولو أدّى ذلك إلى تدمير ما سميناه المتّحد الاجتماعي الذي سمّوه، تزويراً، المتّحد الوطني...
نعم،
لقد جعلنا لبنان، هذه الارض الحبيبة، التي ورثناها من الآباءوالجدود، متّحد جماعات من الناس، يعيشون فوقها، ثم يتجاذبها، كل مكوّن منها إلى جهته برعاية الذين يسوسونه، متناسين واجبنا في دبح كامل مكوّناتها، وصهرها في بوقفةٍ واحدة، بإزالة العوائق، والتواصل، بين هذه المكونات، دافعين بها الى التفكّك، والانعزال، والتزاور، والتصادم، بدل التفنّي، زوراً، وكذباً، بأسطورة العيش المشترك التي نسجنا حولها الآمال، مكتفين منها، بتقاسم المصالح وتبادل الحصص. والمغانم بعيداً عن الحقوق، والعدالة، والمساواة.
وبذلك، استمرّ لبنان، مقرّاً، ومصدر عيش، ومكان إقامة وعرضةً دائمة، من خلال تعريضه للإضطراب الأمني، والتأزم المعيشي، لأن يكون على أهبّة الاستعداء لهجرته تحت يافطة "لبنان الانتشار"، نرفعها ونتغنى بها. دونما خجل وقد شملت عبر العقود الثلاثة الماضية ربع سكان المقيمين، ولا تزال تغتصب طاقاتنا الشبابية المثقفة، بعد أن أهملنا بناء "لبنان الوطن" الذي بقي من خلاله دولته الحكيمة والقوية والعادلة، من الفقر والتصارع، والتباعد، ويعيد المحبة الى القلوب، والصفح الايدي، الرؤية الى العيون، والاستقرار.
لبنان الوطن،
لبنان الذي ينعم أبناؤه فيه "بالمواطنية" و"الانتماء"، وليس، فقط، بالهوية، وإخراج القيد.
فم هو لبنان الوطن،
وكيف تكون "المواطنية" الحقيقية؟
الإجابة، ليست بهذه السهولة.
فبناء "الوطن"، والتسربل "بالمواطنية" الحقيقية، تتطلب جهداً كبيراً، ولكنه غير مستحبل.
ونحن في لبنان، ندّعي بأن الحروب التي خفناها، عبر قرون، كانت لبناء وطن.
ولكن هل نسينا بأن هذه الحروب كان في غالب الأحيان يقودنا اليها، الاجنبي عندما يرى فيها خدمة لمصالحة واستعادة وسلام موجّه وعملنا على وقفها، عندما يتّفق ذلك مع مصالحة، لا عندما نسعى نحن الى هذا السلام، والسلام يبقى لدينا حلماً يحطّمه أصحاب المصالح المتباينة والعقول اليابسة من القيمون علينا، كلما بأن هذا السلام مهدوا لمصالحهم.
وعليه فإن السلام الحقيقي الذي ينشىء لنا "وطناً" نستحقّه من خلال "مواطنية" حقة، هو ذلك نسعى اليه بأنفسنا، ونؤمنه بجهدنا، وهو أمر محفوف بالمصاعب والعراقيل والافخاخ. وهنا نفهم ما قاله صادقاً الفيلسوف الفرنسي Alaih!: "الحرب سهلة، أما الصعب فهو تحقيق السلام"...
ولكن، هل نحن قادرون على بناء "الوطن" الحقيقي والحصول على المواطنية الحقيقية، وقد أتينا عير التاريخ، بأننا لم نحسن إقامة حكم ذاتي ولكن هل نحن قادرون على مقاولة الاجنبي في دعوتنا الى الحرب، ثم الى السلم، على النحو الذي مارسه ازاءنا دواجهنا، بالطاعة في تنفيذه، عبر حقبة تاريخية طويلة من الزمن.
ولكن هل نحن قادرون على بناء "الوطن" الحقيقي والحصول على المواطنية" الحقيقية، بعد ان أثبتنا عبر التاريخ بأننا عاجزون عن رفض الحروب عندما يطلب منا خوضها، وخاضعون لسلام يفرض علينا، وفق شروط، وقواعد، وأصول، تنأو عن السلام الحقيقي النابع من واقعنا، والآخذ بالعبر التي تحول دون توالي الحروب بناءً لرغبات مفجّريها في الداخل وفي الخارج، والتي تؤدي الى إندماج العناصر المكوّنة لمجتمعنا بدل تركها مفككة مكشوفة لمشيئة هؤلاء، يعبثون بها ساعة يشاؤون؟
صحيح ان مجتمعنا خضع في الماضي، وحتى يومنا هذا، لقاعدة تناقض مكوناته التي تضم أقليات طائفية ومذهبية. يتمتع كل منها بخصوصيات يتعارض بعضها مع البعض الآخر تتأثر. بعوامل داخلية وخارجية، وزمنية وروحية، إضافة الى العوامل الاقطاعية والسياسية والانخراطات المادية والمصالح الناتجة عنها، وهو أمر طبيعي تعترف الابحاث العلمية المتعلقة بطبيعة الادمغة التي تتحكم بالعقول، وبتطورها مع الزمن، فلقد ثبت بأن التركيبة القديمة لهذه الأدمغة الإنسانية ترتاح الى التشابه، وترفض التباين بين الأشياء والأشخاص والمجتمعات، وان هذا التباين في جذوره يقود أصحابها الى العنف، على نحو ما هو معروف لدى الزواحف.
ولقد أظهرت تلك الأبحاث بأن ما يميز الانسان عن تلك الكائنات، هو في تركيبته الدماغية. التي تطورت، ولا تزال تتطور مع الزمن بحيث انه بأن يعترف، أكثر فأكثر، بوجود الآخر، ويتفهم وجهة نظره، وهذا ما يعني بأن لدى الانسان قدرات متناقضة، ولكنها قابلة للتبدل متأثّرة بالتوجيه والتنشئة لتقبل وجود الآخر، والاعتراف بقدراته المتباينة، وبالتالي بآرائه المختلفة.
اعتذر عن ذكر هذه الناتج التي توصلت اليها الابحاثالعلمية الداغية، والتي من شأنها ان تبعث بنا الاطمئنان الى انه مهما بلغت الخلافات والتحايزات والتناقضات في الآراء والمواقف بين الدول والمجتمعات، وحتى في المجتمع الواحد المتضمن عدة مكونات، يتميز كل واحد منها بخصوصيات تتعارض مع خصوصيات سواها، وتتأثر بعوامل كثيرة مختلفة أو حتى متناقضة، فإن الحوار، وتبادل الآراء والمواقف الواقعية والمتميزة بالصراحة والصدق، كان ذلك الحوار ثنائياً، أو إجتماعياً، وسواء كان بين الدول والمجتمعات، وعفوياً أو من خلال الارشاد والوعظ، والتنشئة من شأنه أن يوحد الرؤى على أساس المشاركة والجوامع المشتركة بما يخدم مصالح لكلّالفئات المختلفة، ويوحدها بين المكونات المتباينة على صعيد الدولة الواحدة، وبين الدول على اختلاف أديانها، وبيئاتها، وامنياتها، على نحو ما هو حاصل اليوم على صعيد المنظمات الدولية على مختلف الصعد السياسية والعلمية والاقتصادية الخ...
كل ذلك يقودنا الى توجيه مجتمعنا نحو المواطنية، التي تعي شرط وجود الوطن، الذي يكون بها، كياناً حراً، سيداً، ومستقلاً وموحداً وآمناً ومستحيلاً على أعدائه سواء كانوا من الداخل ومن الخارج، أو يكون، بدونها، كما هو الآن، وهماً، يقتصر على التعايش المؤقت، وتبادل المصالح، ومجتمعاً يسوده الشقاق، والتزاور، والتباين الخلافي على كافة الصعد الدينية، والثقافية، والسياسية، والاقتصادية، والادارية، الخ...
وكل ذلك يفرض إرادة صادقة حاسمة، يتعرض الجميع الى المخاطر، وربما الزوال بغيابها، ويطمئنون، بتوفرها، الى مستقبلهم ومستقبل أولادهم وأحفادهم، على نحوها يقول مارتن لوثر كنغ: "يجب ان نتعلم على العيش معاً كالأخوة، بدل أن نموت معاً كالمجانين"...
ولا بد من الاشارة الى ان "لبنان الوطن"، الواحد، والقوي، والمتمتع بالحرية والسيادة والاستقلال هو ضرورة، ليس فقط لابنائه، الذين تعرضوا بغياب هذه المواصفات للحروب الأهلية، وما زال آخرها يرضي بتداعياته السلبية الخطيرة والمتوعدة بالرغم من السلام الحالي المفخخ، ما يدفعنا الى بذل أقصى الجهود لجعله دائماً ونهائياً.
كما لا بد من الإضافة الى الطابع السلمي الاقليمي الذي يرتديه لبنان "الوطن الواحد" والمرتجى، لا تقتصر أهميته على حدوده الجغرافية، بل يتعداها الى المدى الاقليمي الواسع على نحو ما يؤكده الكاتب والادبيّ اللبناني أمين المعلوف الذي يشبهه "بالورد البرّي" الذي يحيط، بالعادة، بكروم العنب، والذي يستقبل الحشرات، والامراض القادمة من غربٍ، ومن شرق، ويمنح الكرّام الصالح الوقت الكافي، لاتخاذ الاجراءات اللازمة لمكافحتها، ما يتيح له إنتاج أفضل العناقيد ليس فقط في كرمه، وإنما أيضاً في كروم الجوار، القريب، والمتوسط، والبعيد.
ان ربّ البيت اللبناني هو لم بالدرجة الأولى الذي يفترض بأن تستيقظ فيه الذاكرة لأحداث العقود الأخيرة من الزمن، والتي يجب بأن يعززها بما يتضمنه تاريخ بلاده على امتداد القرون، من أحداث مماثلة، تماماً كما يفعل الكرام الصالح، من خلال خبرته الطويلة في زراعة الكرمة، فيبني المستقبل الضّامن لزريّته وافداً اياها بكامل عناصر المواطنية الصالحة، ويحول دون تعرّضها لويلات الحروب، وما تحمله من خوف، وذعر، ودمار، والاضطرار الى الموت، أو الهجرة كما حصل، ويحصّل منذ منتصف القرن التاسع عشر، حتى اليوم، حيث تقدر "ذريّة الكرام اللبناني المنتشرة" في أصقاع الدنيا، بما لا يقلّ عن عشرة ملايين لبناني، لا يربطهم لبنان، سوى الـ (ADN)...
زانه رجل الذين، كاهناً كان، أو اسقفاً، أو شيخاً، أو مفتياً، الذي عليه ان يختار بين أن نكون وظيفة روحية، أو سياسية، أو وطنية أي روحيّة وسياسية في الآن عينه. وفي هذه فعليه أن يضمن عظاته وفرص تواصله مع المؤمنين، ليس فقط التعاليم والروحية والدينية التي تتضمنها الكتب المقدسة، ولكن ايضاً حث المتدين على الارتقاء الى مستوى القيم الدينية المثالية، التي لا تقتصر على النطاق الروحاني، بل تتعداه الى الحقيقة الزمنيةّ التي تتضمن علاقته، بالمواطن الآخر، أيّاً كان دينه، أو مذهبه، أو حتى نظرته الخاصة للدين، ولو كانت مختلفة عن معتقده الشخصي، انطلاقاً من حقيقة لا يجوز لوسيط الله على الارض بأن يتعداها، وهي وحدة الخالق، وحتمية الحساب في اليوم الآخر، وان احترام الانسان هو في راس تعاليم الله ووصاياه في جميع الاديان ويعود خاصة التوحيدية منها، وفي رأس هذه الوصايا تحريم العنف والقتل، والعلاقات الخلافية والتصارعية بالسيف أو بالسلاح المتطور. ولنا في تاريخ الاديان أدلّة لهذه العلاقات في قلب الدين الواحد بين من اعتبروا أنفسهم أصحاب الصراط المستقيم ومن خالفهم الرأي، ثم بين أهل دين معين وأهل دين مغاير، كما حصل بين النصارى والمسلمين، فكان بينهم قتال سمّي جهاداً مرّة، وحملة صليبية أخرى، وذلك لم تقتصر على زمن معين، بل استمر قروناً، من دون الوصول المنتجة، سوى ما شاءت الاقدار فتارة كان نصارى المشرق في ذمة المسلمين، أما اذلاء متضامين، وامّا اذلاّء صاغرين. وتارة كما في أزمنة الاستعمار الغربي حيث كان التعايش على نوعيه.
ان الأمل المعقود على رجال الدين اللبنانيين من مختلف الاديان والمذاهب وبقطع النظر عما جرى ويجري حتى الآن هو دور محوري في منح لبنان الفرصة بأن يكون النموذج والمثال في تكذيب نظريات صراع الاديان، لأنها تتناقض مع الربانيين المسيحية والاسلامية، وفي منح اللبنانيين الفرصة لأن يتحدوا ويعيشوا سلام، ويبنوا وطناً يحتضن أبناءَه، ويؤمن لهم فرص العيش بأخوّة تتجاوز إطار المشاركة بما يرضي الله الذي خلق الجميع على صورته ومثاله، وححصنهم بوصايا كلف ابنه الوحيد ورسوله الأكرم التالية عليها فأساؤوا تفسيرها، ولم يؤذ رجال الدين الواجب الذي اؤتمنوا عليه، ما يجعل مساءَلتهم في يوم الحساب أضعاف ما ننتظر وينتظرون.
الخريف العربي..
والقيوض المدمّرة..
الربيع العربي؟..
وددتُ الدخول بكلام حول هذا الربيع، ينأى عن الانشائية اللغوية، فلا يطغى فيه الشكل على المضمون، ليتّسم في الآن عينه بالوضوح، فيتبرّد ضميري، ويعتدل العلم في يديّ، وألقى منه الوضوح الذي أسعى إليه،
الربيع العربي...
هل هو حقاً ربيع؟
وهل نلمح خضارة ألوانه، وعبق رياحينه، واعتدال مناخاته في عالمنا العربي اليوم، الذي لم يشهد منذ قرون، باستثناء الحقبة الناصريّة، حقيقة ما يحمله ربيع الحياة الوطنية والقومية،
وهل نحن ذاهبون حقّاً لنشهدها؟..
من يقرأ التاريخ، يَرَ بأن المنطقة العربية عاشت وعوداً متتالية، كان يرسمها الاجنبي، فتصدقها، ولا تكاد تدرك بعض سماتها الباهية، حتى يطلّ أجنبي آخر، حاملاً إليها ألواناً مزوّرة، تزرع فيها الأمل، فالإرتياب لتكرَّ بعد ذلك الوعود الكاذبة، الواحدة منها، أكثر مرارة من سابقاتها.. وهكذا دواليك
لقد حفل "الربيع العربي" الحالي باستشهاد مئات الألوف من أبناء العالم العربي، أكثريتهم الساحقة من الأطفال والنساء، والشيوخ، والابرياء، كما أنجز عملية واسعة من التفتيت الطائفي، والمذهبي، والعنصري في العديد من الدول العربية، ودمّر المنازل والقطاعات العامة والخاصة، الاقتصادية منها والاجتماعية ليزيد عدد النازحين، والفقراء، والجياع، بنسبٍ مخيفة..
وكل ذلك كان يتمّ من خلال رزمة من الوعود الكاذبة، التي قدّمتها الحكومات الاجنبية، فيتبناها العالم العربي، دون أن تعمل على تطبيقها.
فعلى الصغير والسياسي، والحريات والعدالة والمساواة، تميز عالمنا بإفراغ هذه العبارات من مضامينها الحقيقية فكانت هنالك سلطات وأجهزة حزبية، تؤطر زبانيتها، وحكومات لا لون لها، تعتمد خطباً توافقية في ظاهرها فقط، وسلطات فوق الدولة تهيمن على الحياة العامة، وحتى على حرية التعبير، عبر أجهزة أمنية، واستخباراتية، حاذقة وكان كل ذلك يتم باسم الديموقراطية التي جعلونا نحلم بها، ولكنهم سعوا، ويسعون الى تطبيقها على النّحو الذي يتطابق ويتوافق مع مصالح أصحاب السلطة والمتحكمين بها.
أما على الصعيد الاقتصادي، فلقد هيمن النفط والاقتصاد الريفي، والمضاربات العقارية، على حساب الصناعة والزراعة، فكان من المستحيل بان تدخل معظم الدول العربية في مأوى النّمو الاقتصادي الحقيقي وسط سيطرة أقرباء الحكم على مفاصل الاقتصاد، وصولاً الى نشوء سلطة إقتصادية، فوق سلطة الدولة يحكمها الفساد، والعهر، والأنانية، وبقرارات تتخذ بالخفاء، بدعم من الاجهزة الأمنية، بلباس شرعي، وأحياناً بجهد واضح، وبلباس الحاكم وحاشيته.
وأما على الصعيد الاجتماعي، فلقد كان من نصيب الدول العربية، الانفجار الديموغرافي، لتنشأ عبره، أجيال شبابية لا تتوفر لها فرص العمل المطلوبة، وإذا ما توفرت، تكون هشة وغير ثابتة، ما يدفع هذه الأجيال الى الهجرة للخارج، او لضواحي المدن الكبرى.
المكتظة بالسكان، وبالتالي إجلاء معظم المناطق الريية من أهمّ عناصر التنمية، بالرغم من كذبة عبارة "التنمية المناطقية" التي تتكرر منذ عشرات السنين، والتي أدّت الى فجوة كبيرة كانت تزداد عمقاً بين الحاكم والمحكوم، الى درجة انها تسببت منذ العقد السابع من القرن الماضي، إثر وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، مروراً بانهيار النظام السوفياتي، بتراجع الخطاب القومي، أمام خطاب المنظمات الدينية العدائي للغرب والمؤيد لإسرئيل، الذي ما شرع ان بمناخ عدائي للاسلام، حتى تحول الى الاعتدال، إثر انضمام تركيا الى الحلف الاطلسي، والالتزام بقراراته، وذلك ما ساعد على حصول تواصل بين الولايات المتحدة والمنظمات الدينية الاسلامية، التي وجدت فيه لبلوغ السلطة، وهي ر غبة وافقت عليها الولايات المتحدة الأميركية، والغرب بصورة عامة، شرط عدم الاضرار بالمصالح الاسرائيلية، وحتى لو تناقضت سياساتها المرتكزة على الشريعة الاسلامية مع أبسط المبادىء الديموقراطية، وقيم، ومبادىء الدولة الحديثة.
من هنا بدأ الحديث عمّا بات يعرف اليوم "بالربيع العربي"، الذي كانت بعض الدول العربية المتحالفة مع الغرب السّبّاقة الى الترحيب به، ودعمه بالرغم من بعدها عن الديموقراطية والمشاركة الشعبية في الحكم، واحترام حقوق الانسان، والأقلّ اهتماماً بالقضية الفلسطينية.
وترافق كل ذلك، توافق مع توظيف هذه الدول لثرواتها، وقدراتها، على تحريك الغرائز والهواجس الطائفية، والمذهبية، والعنصرية، وتجنيد، وتمويل الثائرين في الدول العربية الاخرى لدوافع ساعدت على رسم انتفاضات "الربيع العربي"، الذي لم يتمكن حتى الآن من تحقيق المؤسسات الديموقراطية في الحكم، وبالمقابل فان القوى العربية المعادية لاسرائيل، والمقاومة لمطامعها، أكانت مرجعيات دينية أو قومية، هي الضحية المستباحةلما سمي "مسار التغيير"...
إزاء كل ما عانته الدول العربية على امتداد العقود الماضية برعاية الدول الاجنبية لماذا تثور اليوم، وبعضها برعاية هذه الدول ودعمها؟..
وهل "ربيع" هو هذا الذي شهده منذ بداية هذا القرن في العراق، الذي أُصيبت دولته بالتفتُّت الطائفي والمذهبي والعرقي، ودمّرت عاصمته ولا تزال مئات آلاف الارامل والأطفال، تبحث عمّن يؤمن لهم العيش، بالرغم مما هو تحت ارضهم، وما فوقها، من خيرات وثروات؟...
وهل "ربيع" هو ما أمل به الثوار الكيبيون من تنشق نسمات الحرية، والعدالة، والديموقراطية خلال حكم القذافي على امتداد أربعة قرون، والحرب التي تلته، وإثر انهياره وبعده، وبالرغم من الدعم الاطلسي السياسي والعسكري، الذي انضمّ اليه مرغماً الدعم الاميركي؟..
وهل "ربيع" ما حصل في اليمن وفي البحرين، حيث تداخلت في ثورتهما القوى الاجنبية، وبعض الدول العربية، بحجة حمايتها من الاجتياح الايراني، شعار بالدعم ما تفقده هذه الانظمة من الديموقراطية والحرية والعدالة، فباتت في حالٍ من الانقسام، تعيش مخاضاً عسيراً بين إنجازات "التورة البناءة" من جهة وغلبة "التيارات المتشددة" من جهة ثانية؟..
واي "ربيع" هو هذا الذي واجهته، وتواجهه، تونس، ومن بعدها مصر، الدولتان الّلتان، عرفتا بعلاقاتهما الوثيقة مع الولايات المتحدة وفرنسا، واستطراداً ببعض العلاقة مع اسرائيل، وذلك بعد ان شَرَدَ حكامهما عن خطّي "بورقيبه"، "وجمال عبد الناصر"، فما كاد الثائرون ينقلبون على رئيسيهما بحجة الاستبداد والفساد، والعلاقة مع اسرائيل، حتى دخلوا في مخاضٍ مغاير لرايات الثورة ولانقسامات لم يتمكنوا من ضبطها حتى الآن؟..
واي ربيع هذا الذي يتهدد سوريا من خلال ثورة توزعت على قيادات متباعدة، ومتنافرة، ما لبثت الدول الخارجية الداعمة بالمال والسلاح والمسكن لها ان وحدت العديد منها، فاندفعت بشراسة غير آبهة بعشرات الآلاف من الضحايا والخراب، والانهيار الاقتصادي، والتفتت الشعبي، ونزوح مئات الآلاف من المواطنين. وكل ذلك تحت شعارات الحرية والديموقراطية والوحدة الوطنية، وما لبثت ان ترافقت مع الارتدادات الطائفية، والمذهبية والعنصرية التي لم تعرفها سوريا من قبل.
أما في لبنان، فلقد شهد مسلسلاً طويلاً من المآسي والكوارث، كان له آثار مدمرة على كل الصُّعد الوطنية والاقتصادية والاجتماعية، مسلسلاً حلّ منذ بداية الربع الأخير من القرن الماضي، واستمرّ عبر حلقات متتالية بوجوه بعضها سياسي، وبعضها عسكري، فما كاد اللبنانيون يعيدون ترميم وطنهم، حتى بدأت الأحداث السورية، لتترك تداعياتها بسرعة الى لبنان، الذي عادت اليه بكل الم لغة التقاسم والإنفصام، بعضها تحت رعاية فريقي 8 و14 آذار، والبعض الآخر باسم الطائفية والمذهبية المقيّتين..
وهكذا فالذي ظنّ، من اللبنانيين منذ اتّفاق الطائف (1989) بأن الحرب قد انتهت الى غير رجعة ها هو يشهد تلاطم الغيوم من جديد، وفي سباق محموم، وإذا بالزمان الذي لمحنا السعادة في أفقه يعود لينسلّ هارباً، ململماً أوراقه، غافلاً عمّا تركه لنا من وعود...
هذا على الصعيد اللبناني،
أما على الصعيد العربي، بصورة عامة، فاننا نشهد بكل ألم، بأن الزمان الذي وعدنا به الغرب، من خلال ما أعربت عنه وزيرة الخارجية الاميركية، السيدة "كونداليزا رايس"، التي أكّدت لنا، بان ما يجري، قد يستمر من خلال ما سمته "الفوضى الخلاّقة" وإذا الواقع، وصورة المستقبل، لا يتفقان مع هذا الوعد.
فالفوضى هي "تخريبية"، لا خلاّقة والديموقراطية التي نعيشها، ليست من صنع بلادنا، وانما هي مزورة، ومستوردة...
والواقع ان المشهد العام في الشرق الاوسط بكامله بات في عين تلك العاصفة، وفوق فوهة بركان، فالاحداث والمستجدات والمعطيات التي توالت في الفترة الأخيرة بمستقبلٍ لا يمكن تحديد استشرافه، ليترك لنا تساؤلات، حول أزمات تخفيها الأوضاع الميدانية، التي تتبدل بسرعة ويعصي علينا إدراك ومعرفة تطورها على وجه التحديد لأنها من صنع الخارج وتحديداً الدول التي تساهم في صنع "القرار العالمي"...
وبعد،
اي ربيع هو هذا؟
وهل يكون "ربيعاً" ذلك الذي شاهدنا فيه تلك الثورات العارمة التي بدأت، ولم تنتهِ، وأوقعت مئات الآلاف من الضحايا، معظمهم من الأطفال، والنساء، والشيوخ، والابرياء، ولم تعد المشافي تتسع للجرحى والمصابين، ودمرت المؤسسات، والمنازل، والمواقع الدينية، فضلاً عن تهجير الملايين بكل الاتجاهات الاقليمية منها، والدولية؟
وأين القادة، المفكرون، والشرفاء العرب من جميع دول هذه المنظمة، فلا يبذلون ما يكتنزون من عقل، وضمير، ورجولة واحترام، ويعملون على الخروج من هذا الجحيم الداكن، ومعالجة هذه التعوم العميقة، وإعادة النقاء الى وجه أمّتهم الذي شوّهه هذا الربيع؟
وماذا يعدنا الغد؟
بقطع المنظر عمّا واجهه الشرق العربي حتى الآن من مخلفات تركها الطغيان الخارجي، واطماعه في استثمار ثرواته، فهنالك عناصر من الاستدلال والتحليل منها احتمالات تلوح في أفق السياسة الدولية، بعضها يخفي الكثير من مخططات التجزئة دول هذه المنطقة، وصولاًالى شرق أوسط جديد، يسهل على المؤسسات السياسية، والمالية، والنقدية بان تمسك بأجزائه الصغيرة المتناحرة وذلك تأميناً لمصالحها وخدمةً لاسرائيل، أما بعضها الآخر يشير الى تسويات ناتجة عن مخاوف الدول المخططة لذلك "الربيع" والمساهمة في تمويله، وتسليمه، من سيطرة الحركات الاصولية المتشردة وما تشكّله من مخاطر أمنية على هذه الدول بعد إنجاز مهامها، وامساكها سلطات الدول الشرق الاوسطية.
أما الاحتمالات السلبية المؤدية الى تجزئة المنطقة وصولاً الى "شرق أوسط جديد"، فهي ما اعربت عنها وزيرة الخارجية الاميركية السيدة "كونداليزا رايس" التي أكّدت لنا سنة 2006، بأن ما يجري الآن قد يستمر من خلال ما سمته "الفوضى الخلاّقة".
إن هذه الفوضى هي في الواقع "تخريبيّة ومدمّرة"، لا "خلاّقة". والذي نراه اليوم، عبر ما يسمى "بالربيع العربي"، انّما هو عاصفة "خريف عربي" كما لا نقول "نيازك" يهدّد بالاطاعة بالفصول الاربعة وليس فقط "بالربيع العربي"..
وإزاء هذه الفوضى العارمة وفي ظل تسارع التطورات في الميادين والساحات، يبدو استشراف المستقيل صعباً، ليس فقط في الدول العربية المصابة اليوم بالعاصفة وإنما ايضاً في الدول العربية الأخرى التي لا تزال حتى الآن بمنأى عن التحريض وإثارة القلاقل.
ان الساحات العراقية والمصرية والسورية، أهمية مركزية في قلب المنطقة العربيّة فعواصم هذه الدول الثلاثة تستخفر من ذاكرة التاريخ العربي وتجارب الدولة الفاطمية في القاهرة، والدولة الافوتية في دمشق، والدولة العباسية في بغداد، فلهذه العواصم الثلاثة دوراً حاسماً في اي مشروع إقليمي يهدف الى استجماع قوة الدول العربية وتحفيز العمل المشترك فيها فهي من مؤسسي جامعة الدول العربية، وهي تتمتع بنقل وازن في مختلف المعادلات والتوازنات والمحاور في دول المنطقة العربية، وحتى في سائر دول الجوار، وبالتالي فإن الأحداث التي جرت وتجري في هذه الدول الثلاثة تلقي بظلالها على كامل المشهد العربي فضلاً عن الاخطار المحدقة بالدول المجاورة.
وهكذا فإن الصراع الداخلي في العراق يمنع استعادته للمبادرة والخروج من ازمته الذي خلفها الاحتلال، والفوضى في مصر تؤدي الى فتنة تطيح بإمكانية عودتها الى لعب دورها الاقليمي البارز والوازنفي تجسيد المرجعية القومية العربية والحرب في سوريا تحول، او تؤخر، على الأقل، استمرارها في التوازن الاستراتيجي مع اسرائيل الى جانب ايران وحركات المقاومة في لبنان وفلسطين.
إنّ الصورة القاتمة التي تلوح في الأفق السياسي في المنطقة تخفي وراءَها الكثير من الحقائق التاريخية فيما يتعلق بمنطق التوسع الرأسمالي الخارجي، والسيطرة الاقتصادية والمالية والنقدية للمؤسسات والربط العضوي لاقتصادات الدول النامية في العالم الثالث بأسره بعجلة التطور والنموّ في السوق الرأسمالية الدولية، وعليه يمكن الاستدلال بما سبق بأن سحابة الازمات معرّضة لعدم الانقشاع في مصر والعراق وسوريا قبل انقشاع المصير الذي ستؤول اليه الشرق الاوسط.
ولكن هنالك دراسات أخرى تتضمن تحليلات معاكسة بل قد تكون أكثر إيجابية.
ووفق هذه التحليلات يبدو بعض ما يجري على الساحة حتى الشرق اوسطية بان المواقف الخارجية ذاهبة باتجاه الارتداد على نفسها وذلك ما يستدعي من شعوب الدول العربية الاّ تقتل، فتخسر ليس فقط أنفسها، وإنما أيضاً أبناءَها والأجيال الطالعة، ذلك ان بعض الأمور اختلطت في الفترة الأخيرة، وراحت تتبدل بوتيرة سريعة. فما كنّا نصفه "بالربيع العربي الواعد" قد أدّى الى استشهاد ونزوح مئات الآلاف في الدول العربية، وجعلتنا نلمس بأن الدول الغربية بعينها تواجه "خريفاً، يرتد الى أزمات اقتصادية متتالية، كما يبدو من خلاصات المشاركين في مؤتمر "اتحاد المؤسسات الدراسيّة حول الشرق الاوسط" في "دنغر كولورادو"، الذي عدد المشاركين فيه بثلاثية باحث وأربعماية طالب من كبريات الجامعات الأميركية، طرحوا على أنفسهم السؤال التالي:
"ماذا تعلمنا من سياساتنا في الشرق الأوسط.." وراحوا يدققون، ويتداخلون، ويسألون ويجيبون عمّا "قبل الربيع العربي"، وما "بعده"، لينتهوا الى الخلاصات التالية:
1) ان هذا الربيع كان فرصة مثمرة ومكننا فقدنا براعمه الاولى، فانتهى قبل ان يزهر، بدءاً من نهاية القرن الماضي وصولاً الى اليوم.
2) ان لدول هذه المنطقة مفهوماً غير ثابت، ولم ينضج بعد، كما انه لا يزال متأثر بالعائلة، والقبيلة، والطائفة والمذهب، ومفهوم الشعب منه واه، وسخيف.
3) ان دولة القانون فيها لها خطوط رغم قوة الاسلاميين المتصاعدة.
4) ثمة قضايا توجد في هذه الدول مستعصية على الحلّ بالنسبة الى "الصحوة الاسلامية" وقد تكون كافية لانهائها. ومنها الارهاب الاسلامي، الذي يتحوّل عبئاً على اسلاميي السلطة، بعد ان كان رافعةً لها في المعارضة، ومنها ما يختص بعملية السلام مع اسرائيل. ولا حلّ لذلك في العقل الاسلامي إلاّ بالديموقراطيّة.
5) ان منطق التدخل الخارجي لا يجري، فضلاً عن انه تحوّل الى "كتلة ثلج" تصيب راميها، سواء كان من خلال الاستعمار او من الانتداب أو الاصطفاف الى جانب الحكام "المرتزقة".
وهكذا يضيف المجتمعون: "إننا قد نكون دخلنا مرحلة جديدة من "التدهور التدخلي" في الكويت سنة 1993، بحجة اجتياح العراق لها. وفي العراق سنة 2003، لخشية بان تهدد جوارها، وفي ليبيا سنة 2011، بحجة تهديدها.
ولقد آن الأوان يضيف المجتمعون، ان نتعلّم ان حق تقرير المصير هو البديل عن انزلاق "فلسفة التدخل".
وان نتدخل بدون سبب، وحتى بدون ذريعة.
ولقد قال الاميركيون، بعد ساعات من البحث، والمناقشة، والمداخلات، "ان ما تعلموه من منطقة الشرق الاوسط هو ان اسرائيل هي خلاصة الفكر التدخلي والعنصر السكاني لتفجير كل الشرق، ولم يتعلموا من ممارساتهم سياسياً مع "تيوقراطيات" النفط، تشكل تبريراً لقيام اسرائيل، وتتسبّب بإهمال عصرنة المنطقة بكاملها".
بعد هذا المؤتمر، وإثر بداية ولاية الرئيس الاميركي الثانية: ظهرت ملامح جديدة يتكامل بعضها مع خلاصاته، ومنها مقيمين وزيري الخارجية والدفاع الاميركيين الجديدين عرف أولهما بعلاقة صداقة تربط بالرئيس بشار الاسد، والثاني عرف، كما أشير بأكثر وسيلة إعلامية بمواقعه السلبية من السياسة الإسرائيلية.
كذلك بدأت مؤخراً الصحف الاميركية تشير الى أن الوضع السوري يهدّد بتفجير صراع لا يخرج منه رامح، وان خسارة الاميركيين في هذا الصراع تفوق كل تصوّر، وانهم لا يستطيعون فرض أجندتهم على بلدان الشرق الاوسط فاللعبة تكاد تكون قد خرجت عن السيطرة، ولا بد للدول المموّلة او المسلّحة للثورة السورية بأن تراجع حساباتها.
ومن الملفت ان تتضمّن وسائل الاعلام إشارات روسية تتطابق مع الموقف الاميركي، ومنها خشيتها ن التغيرات الحاصلة في المنطقة الشرق اوسطية. لا سيّما في ما يتعلّق بسيطرة الاحزاب الاسلامية على الحكم بأجنداتٍ ملتبسة بعضها يدعم القاعدة علناً، ومع عدم استبعاد ان يكون ثوار "الشيشان" مشاركين في أعمال الثورة السورية، واذا ما تأكد ذلك، فإنه سيكون معلّقاً للغاية، لأنهم سينتقلون بعد إنجاز "مهامهم، في سوريا الى الدول الغربيّة وهو ما كرره في منتصف شهر شباط الحالي وزير الخارجية البريطانية...
ان الدول العربيّة مدعوّة الى الأخذ مما يدور في أذهان المسؤولين عن الدول الغربية ما يلوح في أفق سياساتها وفي الوقت عينه من خلال الاحتمالات الايجابية والسلبية التي سردنا تفاحيلها، والبناء عليها بما يؤمن مصالحها ويقيها المزيد من المخاطر والاضرار التي لحقت بها حتى الآن، وذلك من خلال مقيم الدعوة للحوار والتعاون والتضامن بين حكامها وثوارها، متجارزين أخطاء الماضي، البالغة، ومخططين لإعادة الروح القومية التي تعكس الاعتبارات الدينية، تجمع ولا تفرق، وبذلك تستقرّ الاوضاع المحتقنة، وتهدأ المواجهات المحتدمة وفي ذلك ما يساعد على مواجهة تفكيكها البنيوي، وإعادة بنائها، وإحباط ما تصبو اليه الدول الخارجية من استغلال ثروات المنطقة العربيّة، من خلال تفتيتها، والتحكم بدويلاتها بالاضافة الى حماية اسرائيل من المخاطر التي تهدد وجودها مهما طال الزمن.
والى الجماهير الشعبية في جميع الدول العربية الثائرة، والرافعة الشعار الاساسي التالي:
"الشعب يريد..." نقول بأن ما نستشفّه من قراءاتنا حول ما يريد.
هذا الشعب، ومن اجتماعاتنا مع العديد من المفكرين، والواعين من نخب الشعب اللبناني، بأن حقيقة ما تريده الشعوب العربية، عبر انتفاضاتها الجماهرية الواسعة من المطالب. هي تحقيق الديموقراطية التي بعضهم يجهل بعضهم مضمونها الحقيقي، وذلك ما يستدعي التساؤل محتوياتها بصورة دقيقة وعلمية فما معي الديموقراطية التي يريدها الشعب؟
انها بمعناها اللغوي اليوناني "حكم الشعب"، وتستمد أصولها وجذورها، من تجارب العصور المختلفة، حتى ظهرت في العصر الحديث بشقيها السياسي والاجتماعي، واصبحت من أهم المسمّيات التي تحملها أنظمة حكم تختلف في ما بينها حول معنى الديموقراطية ومقوّماتها، ومظاهرها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وهكذا، فان الفقه الدستوري، والسياسي أظهر عدّة مصطلحات وتقسيمات خاصة بالديموقراطية مثل "الديموقراطية المباشرة وشبه المباشرة"، و"الديموقراطية الليبرالية"، و"الديموقراطية الاجتماعية"، و"الديموقراطية الصناعية"، و"الديموقراطية الشعبية"، و"الديموقراطية الاسلامية"، و"الديموقراطية اليهودية".
غير ان الديموقراطية من وجهة النظر المثالية هي شكل من أشكال الدولة او المجتمع، تتكوّن فيه الارادة العامة، وهي نظام اجتماعي يضعه دون سواة الشعب، وفي هذا النظام السياسي والاجتماعي تقوم العلاقة بين أفراد المجتمع، والدولة، وفق مبدأي المساواة بين المواطنين، ومشاركتهم الحرة في صنع التشريعات، التي تنظم الحياة العامة.
وهكذا، فإن أساس النظرة الديموقراطية، يقوم على المبدأ القائل بأن الشعب هو صاحب السيادة، ومصدر الشرعيّة وبالتالي فان الحكومة مسؤولة أمام ممثلي ذلك الشعب، وهي رهن إرادتهم، وممارسة حقهم في مراقبتها، وتنفيذ القانون بما يصون حقوقهم العامة، وحرياتهم المدنية.
لا بدّ من وجود المؤسسات الديموقراطية مثل الدستور، والمجالس التمثيلية، والقضاء المستقل، والادارة الحكومية النّـزيهة، والإعلام الحرّ والنـزيه، والمسؤول، الى جانب النقابات والتنظيمات المهنية ذات التمثيل السليم الجمهور هذه النقابات والتنظيمات.
والديموقراطية هي ظاهرة إجتماعية تنتج وحدتها وحكمتها الفرصة لوجود المناقشة الحرة المفتوحة، وعدم قدسية اية من فئاته المستندة الى الاقطاع، والإرث، وربوبية المال، وكل ذلك يستدعي قيام نظم تعددية تمثل كافة المكونات الاجتماعية، على اختلاف اتجاهاتها، ليكون القرار السياسي الديموقراطي الحقيقي ثمرة التفاعل بين هذه المكونات والاتجاهات، وصولاً الى الحلّ الوسط بينها، مع احترام مبدأ الأغلبية، اذا تقرّر الاجماع، في اتخاذ القرارات. وكل ذلك في إطار الدولة القانونية الذي حق خلاله تتحقق المثل العلي للديموقراطية والتي قوامها بالاضافة الى وجود دستور، الفصل بين السلطات، وخضوع الحكام للقانون، وإقرار الحقوق الفردية، وتنظيم الرقابة على الهيئات الحاكمة.
هذه هي الديموقراطية، التي تنادي بها الشعوب العربية، وبخاصة الشعب اللبناني، هي بالفعل شأن شعبي داخلي لا تقرره المراجع الخارجية.
إلاّ ان تطبيق هذه الديموقراطية في دولنا العربية بصورة عامة بما فيها لبنان، يواجه معضلات تطبيقية أهمها:
1) التخلف الذي يؤدي الى الابتعاد وعن التنظيم المهني الصحيح إضافة الى الحزبيّ السياسي، والى تخفيض حجم الطبقة التوسطة التي تقرب بين الطبقات الاجتماعية بكاملها، وتقليل حقيقة المشاركة والتمثيل الشعبي، وبالتالي الحيلولة دون الاستقرار في المجتمع، والقضاء على ازدهار الديموقراطية الحقيقية.
2) ارتفاع نسبة الأميّة والفقر اللذان يعملان على أضعاف الوعي الاجتماعي وقوة الرغبة في المشاركة، والتعرّض للاجتذاب المالي، الذي يعتبر من أخطر الاضرار في العملية الديموقراطية.
3) الانقسامات الاقليمية والطائفية والمذهبية، والعنصرية، والعشائرية وكل ذلك يعيق التصرف العقلاني والسليم، ويقف عقبة في وجه القيم والمُثل الديموقراطية.
4) فرض نمط المؤسسات القانونية والسياسية في دول العالم الثالث، من جانب القوى الخارجية، ما يخدم مصالح هذه القوى على حساب تلك الدول فلا تعود تعبّر عن خصوصياتها الاستقلالية، ولا عن خصائص مجتمعاتها.
5) تأثير المداخلات الاجتماعية في دول العالم الثالث على تحقيق الحدّ الآدنى من المسعمات والقيم التي تتضمن استمرار التنافس الديموقراطي في جوٍّ سلميّ، وبالتالي استقرار النظام الديموقراطي.
ان معالجة هذه المعضلات في دول العالم الثالث، ومنها الدول العربية، وبخاصة لبنان، تسجيل من خلال وصفة جاهزة. فالديموقراطية تتحقق عند إكتمال مقوماتها الاولية، وذلك بتوفر بعض العوامل التالية التي تساعد في خلق البيئة المناسبة لظهور الديموقراطية، وتعزيز مؤسسات الحكم الديموقراطي، ومن أهم هذه العوامل وضع دستور ديموقراطي للدولة، واحترام مبدأ سياسة القانوني والمساواة القانونية، واحترام حقوق الانسان، وحريّة التعبير ونشر التعليم وإنشاء تنظيمات إجتماعية ومهنيّة تمثل قواعدها تمثيلزّها من الشوائب، والفصل بين كافة السلطات التشريعية، والتنفيذية والقضائية وممارسة الرقابة على أجهزة الحكم، واحترام التعددية السياسية على أسس غير طائفية أو مذهبية وبثّ روح المواطنة انطلاقاً من الوالدين، مروراً بالمدرسة، وسائل والاعلام والمراجع الدينية المؤمنة، ونشر الثقافة الضرورية في المدرسة والجامعة من خلال مادة تعنى بترسيخ المفاهيم الديموقراطية الحقيقية.
والى الشعوب العربية، بئراً بالشعب اللبناني الحبيب نقول:
من حقكم بأن تنهضوا لتقديم حضارة جديدة الى العالم، نحن باشر الاجتياح إليها، حضارة لحلّ من خلالها السلام محل الحروب والتعاون محل الانقسام، والتفاهم محل القهر.
وإذا كانت الديموقراطية التي عرضناها، هي التي تقودكم نحو هذا المقام الرفيع، فانها لن تتحقق بين ليلة وضحاها، فهي تتطلب منكم جهوداً حثية، ومنظمة، واذا لم تسرعوا يحسنوا تحقيقها وتنظيمها، وإنجاز ما تشتمل عليه من مضامين وشروط، فان ثمن تحقيقها سيكون مرتفعاً جداً، فقد يتسبب بتوالي الانتفاضات التي تتحول الى ثورات بعضها مدمّر ودموي.
وعليه، فمن واجبكم ان تستبغوا هذه الثورات التي لها بثلاثة وجوه:
الأول: هو "الوجه الفوضوي" الذي يؤدي الى الخراب والبلواء.
والثاني: وهو "الوجه السياسي المعتدل"، وهو الذي يؤدي الى وعي مكونات المجتمع بما فيها المكون الحكومي. والسياسي، ما يساعد على تحقيق ما يؤمن حقوق الجميع. بالعدل والحرية والمساواة.
ويتكامل هذا الوجه مع "الوجه الثالث" الذي هو الوجه الفكري المعتدل والبعيد النظر المتوفر في رجال الاصلاح، والذي عرف "بثورة المفكرين والمؤرخين والفقهاء"، وهو ما يساعد على تحقيق الوجه الثاني من الثورة الذي يتفق مع مصالح أجيالكم، والاجيال المقبلة.. ومع ما يرضي الله، والضمير، والعقل الذي نأمل ارتفاع وتيرته لدينا جميعاً...
ولد نبيه غانم في بلدة صغبين بالبقاع الغربي، واتم مراحل دراسته من الابتدائية حتى الثانوية في مدرسة الفرير في الجميزة.
حاز غانم على 3 شهادات جامعية، فنال شهادة الهندسة الزراعية من المعهد الزراعي الوطني في غرينيون بفرنسا، كما نال اجازة في الحقوق من جامعة القديس يوسف في بيروت، اضافة الى شهادة دبلوم الدكتوراه في العلوم الاقتصادية من جامعة القديس يوسف ايضا.
شغل غانم عددا من الوظائف الادارية في لبنان وخارجه، بحيث تسلم رئاسة ادارة الثروة الزراعية في لبنان من العام 1958 حتى العام 1964 ، ورئاسة مصلحة زراعة البقاع من العام 1964 حتى العام 1970، ومن ثم رئاسة مصلحة التعاون في البقاع من العام 1973 حتى العام 1992، واخيرا تم تعيينه مستشارا لمجلس ادارة بنك بيروت للتجارة من العام 1992 حتى العام 1997.
كما عيّن غانم مندوبا للبنان لدى منظمة الدراسات الزراعية العليا لدول البحر المتوسط من العام 1980 حتى العام 1993، ونائباً لرئيس المنظمة نفسها من العام 1984 حتى العام 1986.