أحرق شبّانٌ راية ما تُسمّى بـ"الدولة الإسلامية"، في موقفٍ رافضٍ لممارساتها الإرهابية والمشوّهة للإسلام قبل غيره، فقامت الدنيا ولم تقعد، لأنّ الراية مكتوبٌ عليها شعار "لا إله إلا الله"، الأمر الذي دفع وزير العدل أشرف ريفي إلى اعتبار الحادثة "مسًا بالشعائر الدينية".
"انتفاضة" ريفي "الصادمة" و"المدوية" كما رآها كثيرون لم تمرّ دون تداعيات. سريعًا، انبرى البعض ليدافع عن "حرص" اللواء على عدم إثارة النعرات، فيما حمّله آخرون مسؤولية "تضخيم" الموضوع، لتتوالى "الدعوات" لإحراق المزيد من الأعلام، وبين الاثنين استيقظت "الطوابير الخامسة"، رافعة شعار "إيقاظ الفتنة" التي لم تكن نائمة أصلاً..
بين الرمزية والتفصيل..
وسط هذه "المعمعة"، يُطرَح سؤالٌ مشروع حول موقف الدين من كلّ ذلك. فهل مسّ بالفعل من أقدم على "الإحراق" بالشعائر وارتكب بذلك "جريمة" تستحقّ العقاب في ظلّ موجات "التطرف" و"التكفير" المنتشرة هذه الأيام؟
يتفق كلٌّ من مدير الأوقاف في دار الفتوى الشيخ هشام خليفة من جهة والعلامة السيد جعفر فضل الله من جهةٍ ثانية على أنّ الذين أقدموا على إحراق العلم لم ينطلقوا من خلفيةٍ دينية بل أرادوا تسجيل موقف من جماعة معيّنة يرمز إليها هذا العلم، وبالتالي فإنّ "المسألة ليست مرتبطة بالشعار الديني التفصيلي الذي يشتمل عليه العلم"، كما يقول فضل الله. إلا أنّ هذا الشعار التفصيلي هو "أغلى كلمة عند المسلمين"، يوضح خليفة، الذي يعتبر أنّ هذا التصرف مُدان لما قد يحمله من اعتباراتٍ تثير الناحية الدينية.
برأيه، فإنّ من أحرق العلم أخطأ الحكمة وأخطأ التصويب لأنّ هذا العَلم، إذا كان بإجماله يمثل مجموعة معيّنة إلا أنّ ما كتِب عليه شعار إيماني إسلامي يمثل كلّ مسلم. هنا، يدعو فضل الله إلى التفريق بين الجانبين السياسي والديني، باعتبار أنّ إحراق العلم هو مسألة رمزية مستخدمة عند الشعوب في تعبيرها عن موقفها السياسي تجاه الجهة التي تجعل العلم رمزا لها أو الدولة التي يمثلها العلم، وبالتالي عندما يتمّ إيجاد أفعال او ممارسات تجاه العلم إنما يراد تسجيل موقف ضد هذه الفئة او الجماعة بما تمثل.
تفادياً للحساسية..
يرى السيد فضل الله أنّ الحساسية الشعبية أو الدينية، لا السياسية، من إحراق العلم قد تكون نشأت من الفتوى الفقهية التي تعتبر أن إحراق لفظ الجلالة، ويضاف إليه اسم النبي، يمثل هتكًا لحرمة الذات الإلهية أو النبوية، لكنه يشدّد على أنّ هذا الموضوع متحرّك وليس ثابتًا وهو خاضعٌ لنوايا من أقدموا على الإحراق، وهو في مطلق الأحوال لا يبرّر ردّة الفعل الحادّة ضدّ من لم يقصدوا بالإحراق هتك الحرمة، وإنّما قصدوا رمزيّة العلم بكلّيته وليس لما فيه من تفاصيل.
لا يشكّك الشيخ خليفة بدوره بـ"حسن النوايا"، إلا أنه يعتبر ذلك دليلاً على أنّ "بعض التصرفات الرعناء قد تسيء أكثر ممّا قد يرغب صاحبها"، على حدّ تعبيره، وهو يرى أنّ حرق علم لن يقدم ولن يغير في مواجهة التطرف والإرهاب بل إنه بالعكس قد يزيد النار وقودا وحطباً. وهو لا يتردّد في طرح "خيارات بديلة" كان بالإمكان اللجوء إليها لتفادي هذه الإشكالية، باعتبار أنّ هناك إشارات كثيرة يمكن أن تدل على هذه الجماعات، وهو ما يؤيده السيد فضل الله أيضًا، إذ يلفت إلى أنّ بعضهم يلجأ لترميز العلم بخطوط معينة لتبقى الخطوط العامة للعلم موجودة.
خطة جهنمية شيطانية؟!
بعيدًا عن الحساسية الدينية التي يتحدّث عنها الشيخ خليفة ويقلل من شأنها السيد فضل الله، يبدو مسلّمًا به أنّ ممارسات ما تُسمى بـ"الدولة الإسلامية" هي الداء، باعتبار أنّها جماعة موصوفة بالإجرام والقتل الوحشي وانغلاق العقل، وبالتالي، يجب وضع إحراق علمها في إطاره الرمزي وليس أبعد من ذلك.
بيد أنّ "تداعيات" حادثة الإحراق هي بيت القصيد، في ضوء ما يصفها فضل الله بـ"الخطّة الشيطانية لتشظّي المجتمع اللبناني"، أو "المخطّط الجهنّمي بإحداث فتنة إسلامية مسيحية" كما يرى خليفة، وهي فتنة برزت أولى تجلياتها في كتابة شعائر مثيرة على الكنائس، الأمر الذي يستهجنه كونه "يدخل بإطار الإثارة وتحريك الغرائز والعصبيات".
يشبّه خليفة لبنان بالجسد المريض الذي يحتاج إلى عناية فائقة، ويرى أنّ ما يحضر للبنان من مخاطر يفرض على الجميع أن يترفعوا وأن يبعدوا عن المجتمع اللبناني ما يسمّيها بـ"جراثيم الإثارة والعصبية"، ويقول: "يجب أن نكون واعين ولا نترك مصيرنا ومصير البلد للمصطادين بالماء العكر". ولا يخالف فضل الله هذه المقاربة، إلا أنه لا يعزل مسألة إثارة الفتن عمّا يجري عموماً في المنطقة، ويقول: "إذا كان يراد للبنان أن يدخل في مرحلة اهتزاز ولو جزئي، فمن الطبيعي ان نشهد نوعا من الاثارة العاطفية والغرائزية في سبيل ايجاد جو متوتر".
المواجهة سياسية..
في مقابل النوايا الحسنة التي انطلق منها على الأرجح من أحرقوا العلم، هناك نوايا شيطانية لدى آخرين يسعون لاستغلال وتوظيف هذه الأمور لتحقيق مشروعهم الفتنوي الذي لم يعد خافيًا على أحد. "الأمر مدروس ومخطط له"، يجزم الشيخ خليفة، الذي يتحدّث عن تصرّفات في بعض المناطق لاثارة المسيحيين، يقابلها بعض الاقوال والاعمال ضد بعض المسلمين، ويسأل: "هل نسلّم بهذا المخطط تحت اسم شباب متحمّس أو غيرة رعناء لا تؤدي الى نتيجة إلا للضرر؟"
لا بدّ من المواجهة إذًا. وهذه المواجهة سياسية بالدرجة الأولى، يقول السيد فضل الله، موضحًا أنّ الخطاب المذهبي المتوتر حتى من قبل السياسيين لا يزال يتحرك في اطار تسجيل النقاط واثارة النعرات بطريقة مذهبية لا تراعي الوضع الحساس الذي تمر به المنطقة. برأيه، المطلوب ضبط هذا الخطاب التوتيري لضبط حركة الشارع وأن يكون هناك عقلانية في تفكيك أي مشهد. أما خليفة، فلا يرى مواجهة إلا عبر وحدة الصف، وهو يدعو لاجتماع طارئ واستثنائي بين القيادات السياسية والأمنية لتدارك ما يُحضّر على مستوى الخلل الطائفي في لبنان.
القصّة قصّة فوضى!
لا شكّ أنّ القصة أكبر من إحراق علم أو تسجيل موقف، خصوصًا أنّ هناك أعلاماً أخرى تمّ إحراقها سابقًا وفيها لفظ الجلالة وجزء من آية قرآنية، ولم تثر ثائرة أحد كما يحصل اليوم..
القصة أكبر من شعارٍ دينيٍ لم يسئ له أحد بقدر ما أساء له أولئك الذين يقومون بممارساتهم الوحشية باسمه، والذين يقطعون الرؤوس وينحرون الرقاب تحت صيحات "الله أكبر".
القصّة قصّة فوضى، فوضى في المفاهيم أولاً وآخرًا..