بات سهلاً على حيتان العقارات الاستيلاء على الملك العام. «الدالية» وقعت بالأمس في قبضتهم، واليوم جاء دور «الرملة البيضا». هذه المرّة اللعبة أدهى وأخبث. ففي الواجهة تاجر عقارات ذو انتماء طائفي وهوية سياسية «مختلفة»، والمشروع ذو حلّة جديدة أيضاً؛ شاطئ الرمل هو المقصود، فإما أن تستملكه البلدية بمبلغ لا يقل عن 120 مليون دولار (كما هو معروض)، وإما أن يصبح شاطئاً خاصاً. أصحاب المشروع هم أنفسهم الذين يعدّون من القيمين على المدينة، لكنهم آثروا أن يمحوا شاطئها من ذاكرة أهلها
آخر منافذ مدينة بيروت على البحر، الرملة البيضا، بات مهدّداً بالإغلاق على أيدي حيتان العقارات ذوي النفوذ السياسي. خلاصة كارثية بنتائجها في مجتمع يسكت عن الاستيلاء الممنهج والمتمادي على الحيّز العام، تماماً كما حصل مع «الدالية»، وهي أيضاً خطيرة بأبعادها التجارية ــ السياسية التي تعبّر عن تحالف العائلات السياسية التي امتهنت تجارة العقارات مع أصحاب السلطة المحليّة. الخيار الأول لهذه المجموعة هو السيطرة على شاطئ الرملة البيضا وضمه إلى منتجع سياحي ضخم يمتدّ من «إيدن روك» حتى حدود الـ«موفنبيك»، فيكون مخصصاً لأثرياء لبنان والعرب ويحقق أرباحاً خيالية للمجموعة. أما الخيار الثاني، فهو الانسحاب من هذا المشروع مقابل ثمن مناسب، ينطوي على ربح وافر، ولو بقوّة النفوذ المتفوقة على القانون الذي يحظر إغلاق الشاطئ أو البناء عليه.
حيتان العقارات
لم تنته قضية «الدالية»، حيث تسعى شركات مملوكة من ورثة رفيق الحريري إلى الاستيلاء على الملك العام (بمفهومه الواسع الذي يتضمن أملاك الدولة والأملاك الخاصة التي تتصف بأهمية عامة). ففي ذروة الاعتراض على تسييج الدالية والاستحواذ على صخرتها الشهيرة، انفجرت قضية مماثلة على «الرملة البيضا» مع تعديل بسيط في الشكل و«خبث» في الأهداف. ففي منطقة الرملة البيضا التي تمتدّ على طول شاطئ الرمل بين منتجعي «موفنبيك» و«إيدن روك»، أي «تحت الطريق العام»، هناك عدد من العقارات التي تقع ضمن المنطقة العقارية العاشرة ــ القسم الخامس. شمالاً، بينها عقار تملكه بلدية بيروت، وهو يمثّل نهاية شاطئ الرمل ورقمه 5069 ومساحته 7119 متراً مربعاً «ويحظّر في هذا العقار إقامة أي بناء من أي شكل كان، كما يحظّر تغيير وجه الأرض الطبيعي».
يمتلك الشركتان
وسام عاشور وورثة الحريري وفؤاد السنيورة
أحد العقارات مرهون
لبنك البحر المتوسط بمبلغ 19 مليون دولار
إلى جنوب هذا العقار ثمة ثلاثة عقارات على شاطئ الرمل نفسه كانت مملوكة من ورثة رفيق الحريري، أي بهاء وسعد وهند ونازك وفهد وأيمن، ويشاركهم في «الملكية» محمد الحريري وفؤاد السنيورة بالإضافة إلى أسهم قليلة بأسماء بعض الموظفين والمحامين الذين كانوا يعملون لمصلحة رفيق الحريري قبل اغتياله بغرض تسميتهم أعضاء في مجالس الإدارة للشركات «الصورية».
تملّك هذه العقارات الثلاثة تم عبر شركتين: «عقارية البحر المتوسط» و«البحر العقارية». وتشير السجلات التجارية الحديثة لهاتين الشركتين إلى أن تاجر العقارات المعروف وسام عاشور أصبح يملك 99.9% من شركة «البحر العقارية»، فيما باقي الحصص يملكها ورثة الحريري والسنيورة وسواهم من خلال ملكيتهم لشركة إيراد للاستثمار التي يرأس مجلس إدارتها فهد الحريري. أما شركة «عقارية البحر المتوسط»، فقد أصبحت مملوكة من عاشور بنسبة 80% و4% لشركة إيراد للاستثمار.
الشركة الأولى تملك عقارين رقمهما 4027 و4026. الأول مساحته 5152 وهو متصل بالبحر، إذ إن الإفادة العقارية الصادرة عن الشؤون العقارية تشير إلى أنه «قطعة أرض رملية طغى عليها البحر»، ولا حقوق بناء مسموحة على هذا العقار ولا تأجير ولا أي نوع من الأشغال «لأي غاية كانت ومهما كان نوع الأشغال». أما العقار الثاني المملوك أيضاً لشركة «عقارية البحر المتوسط»، فمساحته 4635 متراً مربعاً، وهو أيضاً قطعة أرض رملية متصلة بالبحر ولا حقوق بناء أو تأجير أو أشغال مسموحة له.
الشركة الثانية، أي شركة «البحر العقارية»، فهي تملك العقار 2369 ومساحته 18040 متراً مربعاً، وهو يقع ضمن «القسم الخامس، ويُحظَّر إقامة أي بناء من أي شكلٍ كان كما يحظر تغيير أو تعديل الوجه الطبيعي للأرض» كما ورد على الإفادة العقارية. وهذا العقار مرهون لبنك البحر المتوسط بمبلغ 19 مليون دولار.
اتفاق بزنس
إذاً انتقل قسم مهم من ملكية أسهم الشركتين وديونهما المصرفية إلى عاشور. إلا أن هذا الانتقال لم يكن عشوائياً، بل كان خاضعاً لاتفاق بين الطرفين يجعل من الملكية القانونية للشركتين اللتين تملكان العقار ليست بنية نهائية. فبحسب بعض المطلعين على هذا الملف، إن الاتفاق بين ورثة الحريري وعاشور يتضمن التشارك في بعض الأعمال العقارية وأن يكون هذا الرجل ممثلاً لهم في بعض العمليات، وخصوصاً بعد قضية «الدالية» التي أضرّت كثيراً بصورة الورثة أمام الرأي العام البيروتي، الذي لم تنطلِ عليه قصة السياج حول «الدالية» وطريقة الاستيلاء على الأملاك العامة في تلك المنطقة ومنع فقراء بيروت من النزول إلى البحر... وقد حاول الورثة تلافي تكرار التصادم مع أهالي بيروت من خلال التشارك مع عاشور ووضعه في واجهة المخطط الرامي إلى الاستئثار بشاطئ الرملة البيضا.
قصّة التشارك مع عاشور، ظهرت عندما قدّم الرجل طلباً إلى بلدية بيروت يطلب منها الموافقة على تسييج العقارات الثلاثة. وقد أثار طلب عاشور نقاشاً مطوّلاً بين بعض أعضاء المجلس البلدي ورئيس البلدية بلال حمد. فمن بين الأعضاء من كان ينظر إلى التغييرات التي تطاول واجهة بيروت البحرية سواء «الدالية» التي قدّم مالكوها، أي ورثة الحريري، طلباً بزيادة عامل الاستثمار من 20% إلى 200%، مروراً بقطعة أرض مجاورة يملكها متمول نافذ من طرابلس كان قد استحصل في السابق على تعديل على عامل الاستثمار ليصبح 100% لكنه لم يكتف وقدّم قبل سنتين طلباً إلى البلدية لرفعه إلى 200% أيضاً، وصولاً إلى ما يجري على شاطئ الرملة البيضا، وطلب عاشور الذي اعتبر أنه يأتي في إطار الضغط على البلدية لإجبارها على الاستملاك ودفع مبلغ 120 مليون دولار ثمناً لأرض تعدّ «ميتة». كلفة الاستملاك نوقشت بين حمد وأعضاء في المجلس البلدي بعدما كان حمد يسوّق ليل نهار لاستملاك العقارات الثلاثة على أنها الحلّ الأفضل الذي سينقذ الشاطئ الأخير في بيروت من قبضة الحيتان ويعيد إلى البيارتة ما هو لهم أصلاً. ولا يعرف أحد أن عاشور هو مجرّد واجهة، لا بل إن الذين يتبنون هذه النظرية يشيرون، بخبث، إلى أن هناك تقسيماً للمناطق البحرية بغطاء سياسي، فورثة الحريري أخذوا الدالية، أي منطقة الروشة، وبالتالي فإن منطقة الرملة البيضا التي فرزت طائفياً للشيعة، وهي أقرب جغرافياً إلى الضاحية، ستكون من حصّة ممثلي الطائفة.
عقارات «ميتة»
طبعاً، لا أحد يعلم لماذا وما هي معايير رفع عامل الاستثمار على واجهة بيروت البحرية إلى هذا المستوى، وخصوصاً أن الأمر لن يفيد سوى مالكي العقارات، لأنها ستسمح لهم بزيادة البناء عشرة أضعاف المساحات المسموحة، وهذا ما سيحقق لهم أرباحاً هائلة إذا احتسبنا أن سعر متر الهواء على هذه الواجهة يتجاوز 10 آلاف دولار للمتر المربع الواحد بالأسعار الرائجة. أما توصيف هذه العقارات بأنها «ميتة» فيعود إلى كونها تقع ضمن المنطقة العاشرة في القسم الخامس. فبحسب التصميم التوجيهي العام لمدينة بيروت الصادر بالمرسوم 6285 وتعديلاته، فإن القسم الخامس «يحظّر فيه البناء ويحظر أي تغيير أو تعديل للوجه الطبيعي للأرض». وهذا المرسوم يفسّر ما هو وارد في الإفادات العقارية لجهة منع البناء والتأجير والإشغال. وهذا يعني أنّ من غير المسموح استثمار هذه العقارات وأن يكون فيها أي تغيير أو حتى تأجيرها أو تغيير حبة رمل واحدة فيها. خلفية هذا الأمر أن هذه العقارات، مثلها مثل عقارات الدالية، تمثّل حيّزاً عاماً يشكّل الامتداد الاجتماعي بين سكان المدينة وبين تاريخهم وواقعهم، فلطالما كانت مدينة بيروت مفتوحة على البحر، ولطالما كان البحر هو سمتها التي تجعل منها مدينة تجارية مفتوحة على سواحل المتوسط... كذلك، ليس شاطئ الرملة البيضا مجرّد رمز يستخدم للإشارة إلى هوية المدينة، بل هو أيضاً يمثّل أحد عناصر نسيجها الاجتماعي بوصفه ملاذاً للفقراء الراغبين في السباحة في مكان عام ومجاني ومن دون أن يتكبدوا كلفة الانتقال إلى شواطئ أخرى مجانية بعيدة عن المدينة. لا بل إنه بعد المساعي للاستيلاء على «الدالية» لن يعود أمام المقيمين في بيروت سوى شاطئ الرملة البيضا... لكن الكابوس لحق بهم إلى هناك أيضاً! علماً أن البعض يخشى من أن تكون هناك محاولة لدفع أبناء بيروت إلى قبول خسارة الدالية بحجة إنقاذ شاطئ الرملة البيضا، وهذه الخشية تستند إلى تضخيم كلفة الاستملاك لعقارات يُحظر البناء عليها إلا بمخالفات فاقعة للقانون.
مشاريع الحيتان
يقول المطلعون إن مالكي الأرض يخطّطون لمشروعين متوازيين؛ فهم وضعوا وسام عاشور في واجهة كل هذه الأحداث لإبعاد الشبهات عنهم، فيما الاتفاقات بين الطرفين قائمة منذ فترة طويلة، وقد أدّت إلى الكثير من العمليات العقارية على أراض كانت مملوكة منهم وباعوها، أو أراض اشتروها وطوّروها في سبيل المتاجرة بالشقق. وفي هذا السياق، إن المشروع الأول بالنسبة لهم يأتي بعنوان طلب التسييج من أجل ضمّها إلى قطعة أرض مملوكة من ورثة الحريري تقع جنوباً إلى جانب منتجع «إيدن روك». فإذا تمكن الورثة من تعديل التصميم التوجيهي لهذه الأرض بما يتيح لهم بناء سور يفصل رواد الرملة البيضا عن العقارات الثلاثة المذكورة، فإن هذه الأراض ستكون «جنّة» زوار المنتجع المذكور بسياراتهم الفارهة ويخوتهم الكبيرة وستحقق عوائد خيالية على الاستثمار وستكون منافساً لكل المنتجعات والمرافئ الخاصة التي تحتل شواطئ لبنان وربما في المنطقة أيضاً.
وإذا كان الرأي العام ضدّ التسييج وثار الناس على اعتبار أن هذه المنطقة هي مسبح شعبي بالضرورة وليست مجرد نظرية فارغة، فإنه يجب على البلدية استملاكها تحت ستار «المنفعة العامة» ودفع ثمن الأرض الذي تنص عليه لجنة التخمين.
لكن ثمة الكثير من الأسئلة التي تقع في إطار قوّة أصحاب العقارات ونفوذهم. فهل ستنظر لجنة التخمين إلى كون هذه الأرض غير قابلة لأي نوع من البناء أو التحوير في وجهة استعمالها، أي تعديل كونها شاطئاً؟ ألا يعني ذلك أن قيمة الأرض بخسة وهي شبه مجانية؟ لماذا يسوّق رئيس البلدية أمام الأعضاء أن الاستملاك ودفع مبلغ لا يتجاوز 120 مليون دولار هو أمر حتمي وضروري، أليس هناك حلّ آخر؟
في الواقع، إن تعديل التصميم التوجيهي لهذه الأرض في اتجاه جعلها قابلة للبناء يتطلب موافقة التنظيم المدني والمجلس البلدي لمدينة بيروت ثم مجلس الوزراء. إلا أن أصل تصنيفها بأنها «Non Acdifivandi»، أي إنه «يحظر فيها البناء وتغيير أو تعديل الوجه الطبيعي للأرض»، يأتي في إطار ضبط الأملاك العامة التي تحوّلت إلى أملاك خاصة بفعل النفوذ والقوّة في أيام الانتداب وما تلاها. وقد عولج هذا الأمر بالمادة 17 من قانون التنظيم المدني التي تشير إلى أنه يستحق تعويضاً عندما يكون لارتفاق البناء طابع نهائي من شأنه أن يجعل قطعة الأرض غير قابلة للبناء، وفي هذه الحال يجب تعويض يساوي نصف الفرق بين قيمة قطعة الأرض قبل إنشاء الارتفاق وبين قيمتها بعد إنشاء الارتفاق بتاريخ صدور المرسوم... ويجب المطالبة بالتعويض تحت طائلة سقوط هذا الحق، في خلال خمس سنوات من تاريخ إبلاغ المرسوم الذي صدّق التصميم أو التصنيف إلى صاحب العلاقة، ويحدّد هذا التعويض وفقاً لأحكام قانون الاستملاك، ويجب دفع التعويض المستحق بالتقسيط على ثلاث سنوات على الأكثر.
اللافت أن هذه العقارات الثلاثة متصلة بشاطئ البحر، وهي كانت محور أكثر من مشروع للحريري الأب الذي كان يملك عقاراً شرق الكورنيش بالقرب من الحديقة المخطّطة في تلك المنطقة وكان يعتزم إنشاء نفق منه إلى العقارات الثلاثة لتكون مسبحاً خاصاً... وفي عام 1983 أصبح شاطئ الرملة البيضا مسبحاً عاماً بقرار من مجلس بلدية بيروت في عهد حكومة شفيق الوزان. القرار كان يدرك حقيقة الأهمية الاجتماعية لهذه المنطقة وكونها عنصراً رئيسياً في النسيج الاجتماعي للمدينة وضواحيها.