متى يحقّق المسلمون إسلامهم وهم لم ينجحوا في عقد السبحة السماوية المستحيل بين الدين والدنيا ولن ينجحوا؟ لقد تغيّرت الدنيا كثيراً بعد 1422 سنة من الرسالة وأنتم ما زلتم تتباسطون وتتعاركون وتتقاتلون على النصوص وتفتحون بلادنا العربية ملاعب للعالم كله شرقاً وغرباً، ملاعب تذابح ومدارج مصالح تتزاحم فوقها الدول تتفرّج علينا وتديرنا وتضحك منا وعلينا تصفّق لخيباتنا وتصفّر لنجاحاتنا.
ينسى الذين لا يعرفون قشرة إسلامهم أو قشرة الفكرة التوحيدية التي تعود الى الكنعانيين وقبل ذلك بعصور أنّ من يريد أن يتبع الله لا يتبعه حاملاً حياته وموته وحياة الآخرين وموتهم في خطاه بل يتبعه في الجماعة بمعنى الإنسان، لا الجماعة بمعنى جماعاتهم التي لن تصل الى صيغة المفرد. لن تتجبّر جماعة وتعود الى كهوف الماضي في هذا الشرق حيث دسم السماء طافح في النصوص ثمّ تخرج بسيوفها مثل أحجار قايين على البشر لتقول : أنا الجماعة. لماذا؟
لأنّ عمر الإسلام 14 قرناً وعمر الإنسان يتجاوز ال50 مليون سنة أولاً، وثانياً لأنّ الأزمات التي تنتجها تفسيرات النصوص الإسلامية اللامنتهية وتطبيقاتها التي لا تحدّ والتي تتحكّم بالسلوك والقول كما بالتقاليد الإجتماعية والدينية تدفعنا بسرعة فائقة نحو المخاطر المتراكمة والجاذبة للمجموعات الكثيرة الهائمة التي تموت على ضفاف المستنقعات الجافّة، وثالثاً لأنّ سلوكهم يجعلهم مرتاحين في شكل الكائنات الأولى التي لم يخرجوا منها بعد لكنهم يحملون أحدث الأسلحة وأعقد وسائل الإتصال ويهشّون على البشرية بسكاكينهم للعودة الى الحيوان الأوّل المنقرض. قد ينسى حكامنا في خطاهم الزاهية بالسلطة بأنهم يتجهون نحو الحلم بالسماء، وهو حلم ينام فوق وسادة كلّ إنسان وقد يفتقده الغرب فيوظّفه مساوياً الإنسان بالكائنات الحيّة. العلاقة مع الذات كعقل والعلاقة مع الآخر والعلاقة مع الحياة ثم العلاقة مع المصير أو الموت هي في أساس الوجود الإنساني والتاريخي. وعندما تتعثّر أي زاوية من زوايا هذه العلاقات أو تنكسر فإنّ التوازن يضيع وتفقد الحيوية والأديان معانيها الكبرى ويفرغ الزمان الحاضر من معناه وتتيه الأجيال وتندثر الحضارات وكأنها لا تعيش إلاّ في الماضي أي في عصورها الغابرة. لماذا هذه المقدمة؟
يصل الطيّار عند إقلاعه بالطائرة إلى نقطة تسمّى في عالم الطيران Point of never return أي نقطة استحالة العودة إلى الوراء. هذا ما يمكن قوله في تلبّد الغيوم العربية والإسلامية التي تحمل عواصف تحالف عنوانه ضرب "دولة الإسلام" أو دبلة الإرهابيين في بلادنا، والخوف ألاّ يتكرّر المشهد العراقي والسوري واللبناني والليبي فيقضّ مضاجع الشرق والغرب . فالإرهابيون أصحاب توليد معلن بعدما كان مخفياً لخواف عالمي وحلقات مفرغة لن تنتهي ولا يعود ينفع في خرقها كلّ طائرات العالم وأسلحته بطيّارين أو من دونهم. لقد بلغ هؤلاء وبعض رموز السلطة العربية نقطة اللاعودة من زاويتين:
1- الزاوية الأولى مقفلة بلغت حدّ الإستعصاء مع نوري المالكي كمثالٍ غير حصري تجده في كلّ زوايا الحكم العربي، وهو ليس سوى شخص في قاموس العلاقات الدولية السياسية. جاء فتح الزاوية بتفاهمات بهدف عزل الشخص ومحاولة(نعم محاولة!) المضي بالعراق بحثاً عن حلول دستورية للفراغات المتوالدة من بعضها البعض ستصب يوماً في تكريس المقسّم. زاوية مماثلة في لبنان وسوريا وغيرهما ترشدنا الى أنّ الحضور العربي في ما يحصل ثقافة إنتظارية تدور مثل أحجار المطاحن من دون إحداث أية فجوة في الجدار السميك ستتآكل الى تقسيمات جديدة أيضاً. وهنا نجد رموز الكثير من السلطات العربية مستغرقة بتلذّذ شخصي في ظواهر الكلام الكثير الذي لم ولن يقدّم شيئاً في بروز التغيير أو إيجاد منفذ يخرجنا نحو دائرتي الإتصال والحوار والتوحد وفهم ما يرسم لنا مجدداً. هناك فرق شاسع بين الكلام والإتصال والحوار. نحن في رقعة من كلام ومال وكأنّنا حفنات تراب تنتظر دفنها.
2- الزاوية الثانية ظاهرة دسمة تكفيرية وحشية تتكلّم الإنكليزية وتتلهّى بتمزيق الإسلام إذ تلبس عباءاته الأولى. يمكن حصرها ويمكن تعميمها في الوقائع والكلام والجغرافيا. زاوية إلتقطتها العين الغربية ثم سلّحتها وعلفتها وغمزتها وأفلتتها للفتك في الهلال والصليب والخصيب. تنزاح عين العالم اليوم عن الحرائق والخرائب الرسمية والتاريخية التي يصعب محو دخّانها أو سوادها في ديار العرب والإسلام. إنّها تذكّرني بالخطأ في القول أو الكتابة الذي كان يشبّهه أحد أساتذتنا في جامعة باريس بالذبابة الساقطة في سطلٍ من اللبن الطازج. وسواء أكان "نيرونات" العرب أو حكّامهم الساقطين في السطل أو الهابطين من رحم تشظيات أهل السلطة أو القابعين في تضاعيف الورش العالمية والمؤامرات العتيقة المدبّرة والموجّهة في الذبح والتخريب والدماء المفتوحة على المستحيل، فإنّنا نقرأ في ما ننتظر بطاقة دعوات للخارج كلّ الخارج نضجت بعدما خطّت بدماء الإبرياء للتدخل. الخارج موجود هنا أصلاً وسيأتي تدخلاً لسنوات من لململة الركام والأشلاء ودعوة الشركات العالمية لإعادة بناء "الداون تاونات" وتفريغ الجيوب العربية ودراسة فعاليات السلاح بعد تجريبه في جسد العرب، لا بهدف إجتثاث الإرهاب المستحيل، بل لقمعه ولربّما تأجيله ريثما تسحب الخرائط ويتفق عليها أو تفرض علينا أيضاً لدفع الإرهاب مجدداً نحو أقصى الشرق حيث تبزغ الشمس هناك لكنها تغيب في بلاد الغرب. أليس أقصى ما علّقته بريطانية العظمى فوق جبينها أنّها بلغت الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس؟ تتغيّر الأحوال والدول والإمبراطوريات وأسماؤها لكنّ الواقع الإسلامي يأنف التغيير وحيداً وهو يتحوّل الى صحوات و"ثورات" وتشوّهات إسلامية وأقليّات تعيش منقرضة أو مهددة بالإنقراض في أزمنة ذوت فيه العروبة.
يصعب علينا الكتابة والإحاطة بمستقبل هذا الواقع المرّ الآتي. إفهوا أيّها العرب: مرّةً قال بوش الإبن لكوندوليزا رايس هو يقصد المسلمين: أطردوا هذا الذباب عنّي. لن تشبع مطابخ الدول من تلطيخ الأسطال والأديان وإفراغها ونقع شعوبها في الفوضى. لا همّ لهم سوى دفعنا مجدّداً الى تهشيم بلادنا الفخارية وإغراق مدننا وأرضنا باللبن المتعكّر بالدماء فقد بلغنا مراحل التوحش وفقاً للمصطلحات الداعشية الناتئة؟
ما هو الإقتراح المطلوب ؟
القفز من الكلام والكتابة الى الإتّصال فالحوار ولو كان متوتّراً فوراً وعلى الملأ بين السنة والشيعة وبين الفرس والعرب وبين إيران والسعودية وبين العرب والعرب وفي ملل الزمن الأميركي والأوروبي الذي يفتح شهيته وجيبه مجدداً لإلتهام العالم . نحن لم نبلغ ولن نبلغ عرباً نقطة اللاعودة بعد لأننا استغرقنا جدّاً في نبش صراعات القديم بروائحه فعطّلناه ولم نضف إليه جديداً. لا أتصوّر اليوم بأنّ العلاقات العربية الشخصية الرسمية وبلغة الضاد قد دفنت أو هي أكثر فقراً من الماضي لدى أجيال الآباء والأجداد. بالعكس أصبحت العلاقات ربّما محطات تاريخية تعميها وتبلبل ألسنتها ضغوطات الدولية وحاجات ومصالح وإنتظارات وآمال وبالتالي خيبات قومية وشخصية غير منتظرة. لم يبق لكم من هموم سوى الحفاظ على البقاء هرباً وخوفاً أو البحث عن الإرادات التي تفسخت في المجتمع الى مستوى المذاهب والعشائر والعائلات تحكمها الغرائز والرغبات الضيقة والخواف واشكال الغضب وردود الفعل والعيوب الكثيرة والطموحات الشخصية المتمحورة في الجماعات القريبة الصغيرة، الى درجة التلهي باللقاءات العابرة والشاشات والعلاجات النفسية بحثاً عن حلول. أيّ مصير يقودنا إليه التطور البشري الغيري المستورد الفرداني ونحن أرض القيم الموحدة التوحيدية نوفرها للجماعات في بقائها وتعاضدها وحضارة شعوبها وإنسانها؟
قضيت عمري مرسخاً إمكانية تدريس الحوار في الجامعات والمحاضرات وفي العائلة والحياة اليومية . الهدف أن نتلمّس ثقافتنا ونوقظ اللغات الخيّرة الموجودة فينا والتي غالباً ما تكون مجهولة أو محتقرة منّا ، والعالم يفغر عطشه بحثاً عنها. هي توصلنا بمعاني الإستقرارالمقيمة في كلّ فرد، وهي في ديارنا مواد خام تتجاوز الرغبات الآنية وتستبطن أفكاراً جميلة واقعية أكثرمن الحلم بالسلطة أو بالسماء. أرضنا مقلع كنوز عربية مشتركة للحياة بين البشر في حروبهم العالمية، لكننا نهمله ويدفعنا العالم المتوحّش الى أن نبقى مشغولين بالنكبات الدينية ومعصورين أمام رغبات لجوجة هي تأمين حياتنا وحياة أطفالنا وذريتنا. إنّ إطلاق قدرتنا على الحوار الى "الوحش الآخر" إنساناً أو دولةً يوقظ مشاعر حقيقية بالحرية والعاطفة والضحكات والدموع فيحكّ رأسه لنروّضه. متى؟
عندما يمسك الأطفال المقيمون في قلوب زعماء السنة والشيعة والعرب هواتفهم الخلوية ويوصلون أصواتهم الى قلوب العالم. لماذا الأطفال؟ لأنّهم منبع العفوية بالإتّصال والتحاور مع من حولهم. ولماذا القلوب؟ لأنّها الأمكنة الأكثر دفئاً وفيها تولد الحلول والأوطان لكنها لا تستورد. لا تنتظروا. لا تعني داعش سوى مظهر عابر في زمنٍ عابر؟
لا أظنّ أن المسلمين قد بلغوا نقطة اللاعودة بعد.