في الوقت الذي تتجه فيه الأنظار إلى تنظيم "الدولة الإسلامية"، عبر سعي الولايات المتحدة إلى تشكيل حلف دولي من أجل محاربته، من المفيد العودة إلى أصل الخلاف بين تنظيم "القاعدة" وفرعه العراقي الذي تحول لاحقاً إلى "الدولة الإسلامية في العراق" من أجل التعرف على بعض الخفايا المهمة، لا سيما بالنسبة إلى إستراتيجية التنظيمين في التعامل مع "الأمة"، والأسباب التي تدفع الفصائل التي تدور في فلك التنظيم الأم إلى إتهام الإبن العراقي بـ"الغلوّ" أو الإستخدام المفرط للقوة.
هنا أيضاً من الضروري العودة في النهاية إلى الأزمة في أرض الشام، لأنها تجسد بشكل مبسط هذا الخلاف الذي أدى إلى الإنفصال التام، لا بل إعلان الحرب الشاملة بين "أخوة الجهاد"، خصوصاً بعد أن بات الكثيرون يعملون على تسويق "محاسن" فرع "القاعدة" هناك.
بين الزرقاوي وبن لادن
لم يبدأ الخلاف بين "القاعدة" وفرعها العراقي على الأرض السورية، كما يظن الكثيرون، بل هو ثمرة سنوات طويلة من التراكمات، منذ أيام أسامة بن لادن وأبو مصعب الزرقاوي، إلا أنها إنفجرت في عصر أبو بكر البغدادي وأيمن الظواهري، نظراً إلى تصادم إستراتيجية التنظيمين بشكل مباشر، وهذا الأمر يتناوله المتابعون لأخبار التنظيمات "الجهادية" على صفحات المنتديات الخاصة بهم منذ أشهر طويلة، والبحث به قد يكون من أهم المواضيع التي يُفهم من خلالها حقيقة ما يجري بشكل دقيق، بالرغم من محاولة نفيه من قبل بعض المسؤولين في التنظيم الأم.
في كتاب "الزرقاوي.. الجيل الثاني للقاعدة"، يوضح الكاتب الأردني فؤاد حسين أن الزرقاوي، الذي خرج من السجن في شهر آذار من العام 1999 نتيجة عفو ملكي عام أصدره الملك الأردني عبد الله الثاني بمناسبة توليه الحكم، لم يكن على توافق تام مع أسامة بن لادن بعد مغادرته إلى أفغانستان، الأمر الذي حال دون انخراطه في "القاعدة"، إلا أنه بدعم من محمد مكاوي، المعروف بأنه الرجل الثالث في التنظيم، بعد بن لادن والظواهري، تمكن من تأسيس معسكر خاص به على الحدود الايرانية الأفغانية، وبدأ مرحلة جديدة في مسيرته أواخر 1999، حيث توافد أتباعه الذين يعرفون باسم "جند الشام" في نهاية ذلك العام.
ويشير الكاتب نفسه إلى أنه قبل الحرب الأميركية على "القاعدة" في أفغانستان، تكرس استقلال الزرقاوي، حيث لم يكن راضياً عن أسلوب عملها، بسبب عدم قساوتهم في ضرب أعدائهم، لكن ذلك لم يقطع صلات المودة معها.
بعد الإنتقال إلى العراق، لم يكن الزرقاوي قد أعلن "البيعة" لتنظيم "القاعدة" وأميره أسامة بن لادن، وهذا الأمر متفق عليه بين التنظيمات "الجهادية"، بل كان يعمل بشكل مستقل ضمن تنظيم "جماعة التوحيد والجهاد"، لكن تطور الأمور دفعه إلى اعلان "البيعة" لأسباب عديدة، أبرزها السعي إلى الإستفادة من الدعم المادي الذي من الممكن أن يقدمه له التنظيم العالمي، إلا أن ذلك لم يمنع إستمرار الخلاف في الرؤية بين الرجلين.
في هذا المجال، قد يكون من المفيد العودة إلى الرسالة النقدية، التي وجهها أحد كبار منظري التنظيمات "الجهادية" أبو محمد المقدسي، تحت عنوان "الزرقاوي: مناصحة ومناصرة"، والتي تؤشر إلى حجم الخلافات الناتجة عن ممارسات الفرع العراقي، التي وصفت من قبل أتباع "القاعدة" نفسهم بـ"المتشددة"، والبعض يتحدث عن أنّ الوثائق السرية التي كشفت عنها الأجهزة الأمنية الأميركية تؤكد إمتعاض بن لادن من تصرفاته، ومنها ما تم الإعلان عنه قبل أشهر قليلة، حيث تم الحديث عن العثور على خطاب من 21 صفحة يحذر فيها من "ظهور مجموعة جديدة وقاسية من المتطرفين قادرين على ارتكاب أعمال وحشية متطرفة"، وأوصى الخطاب بأنه يجب على "القاعدة" قطع جميع الروابط معهم.
واستطردت الوثيقة التي كتبت بواسطة أحد كبار المسؤولين في جماعة بن لادن عام 2011، بحسب ما ذكرت صحيفة "ديلي مايل" البريطانية، في سرد بعض الأساليب الوحشية لهذه المجموعات، بما في ذلك استخدام غاز الكلور كسلاح كيميائي والاعتداء على دور العبادة المسيحية منها والإسلامية، وقد فسر البعض أن المقصود من هذا الخطاب هو تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق".
أما بالعودة إلى رسالة المقدسي النقدية، فهو أكد ضرورة "المحافظة على أيدي المجاهدين المتوضئة من أن تتلطخ بشيء من دماء المعصومين ولو كانوا عصاة أو فجاراً"، محذراً من "التورط في اختيار وسائل غير مشروعة أو وسائل وأدوات مخالفة للاختيارات الصحيحة الراجحة عند المجاهد، أو التوسع بها كردود أفعال على إجرام الطواغيت"، ويعطي أمثلة على ذلك: "التورط بمشاريع غير ناجحة في بلدان خارج نطاق تواجد المجاهدين وإمكاناتهم لا ثمرة آنية منها غير الأعمال الثأرية أو النكائية تذعر الناس، أو استهداف غير المقاتلين من أبناء الشعب ولو كانوا كفاراً أو من النصارى فضلاً عن التورط في استهداف كنائسهم وأماكن عبادتهم ونحوها، أو الإنجرار وراء استهداف عموم الشيعة وحرف المعركة عن المحتل وأذنابه وصرفها إلى مساجد الشيعة ونحوهم مهما كان تاريخهم وعداوتهم لأهل السنة وأذاهم لهم"، معتبراً أن "إعلان الحرب على هذه الطوائف المحسوبة على الإسلام والمسلمين في ظل احتلال صليبي مجرم لا يفرق بين سني وشيعي ليس من السياسة الشرعية في شيء".
الصدام بين إستراتجية "القاعدة" و"داعش"
في ظل هذه المعطيات، قد يكون من الضروري التنبه إلى أن مُنَظِّري "القاعدة" يعتبرون أن من الضروري أن يترافق "الجهاد" في هذه المرحلة مع خطاب واعٍ يمنع التصادم مع المواطنين في الدول التي يعمل فيها التنظيم، ويرون أن من المهم في مكان أن يتصدر أبناء كل بلد لشؤونه في نظرة واقعية لخصائص كل مجتمع.
وهنا يمكن فهم الأسباب التي حالت دون الإعلان عن تبعية جبهة "النصرة" في سوريا، قبل وقوع الخلاف بين أميرها أبو محمد الجولاني وأبو بكر البغدادي، في حين يرى العالم أن "داعش" يتعمد بشكل لافت تسويق جرائمه ضمن إستراتجية هدفها كسب المعركة في شقها النفسي قبل أن تبدأ، وهذا الأمر بات واضحاً عند الجميع، أي أن "القاعدة" تفضل "المكر" في سلوكها في وجه "إعلامية" تصرفات "داعش".
في هذا الإطار، من الضروري العودة إلى كتاب "هكذا نرى الجهاد ونريده" لحازم المدني، من أجل التعرف على بعض النقاط الرئيسية في إستراتجية "القاعدة" التي يتم الحديث عنها، حيث يتم تناول هذا الكتاب بشكل لافت بين أتباع التنظيم، وهو يعتبر أن "الأمة الإسلامية تعيش مناخ التغيير ورياح الثورة والتحرير"، ويرى أن "أكثر التيارات استنشاقاً لرياح الحرية ونسيم التغيير هو التيار الجهادي".
ويوضح الكاتب أن "خلاصة الكثير من تجاربنا تحقيق أرقام ونسب نجاح عسكرية إلا أننا دائماً نسجل صفراً سياسياً"، ويؤكد أننا "بحاجة إلى وعي سياسي ورؤية مستقبلية وقيادة مخلصة مستوعبة"، ويرى أن "القيادة الواعية هي التي تدرك أن عملها هذا قد يستنفد عمرها، وأن ثمرة عملها قد تتناولها أيدي أبنائها".
والأهم من كل ذلك، يؤكد المدني أن "لا بدَّ أن نكون مدركين لأبعاد الصراع بين الحق والباطل منتبهين لموازين القوة والتحالفات الشرعية وفقه التحييد والمواجهة"، ويعتبر أنه "على الرغم من الخلافات هذه والتي قد تولد احتمال تحالف، إلا أننا نرغب في الحليف المخلص الذي يضحي لنا ولا يغدر بنا، وهو بإيجاز شعوبنا الإسلامية".
ومن هنا أيضاً، يمكن فهم الفرق بين نظريتي "العدو القريب" و"العدو البعيد" في فكر التنظيمات "الجهادية"، حيث كان بن لادن يجاهد من أجل إقناع أتباعه بالتركيز على أميركا "رأس الكفر"، ويحذرهم مع بداية أحداث ما يسمى بـ"الربيع العربي" من التورط في مواجهات مع القوى المحلية.
ماذا عن المستقبل؟
ما تقدم من الحديث عن خلافات في وسائل العمل، بين كل من "داعش" و"القاعدة"، لا يعني بأي شكل وجود إختلاف في الأهداف التي يريدان الوصول إليها، وبالتالي لا يمكن الفصل في النظرة إليهما من هذا الباب، ولا يجب الوقوع في فخ "المكر" الذي يمارسه التنظيم الأساسي.
من هذا المنطلق، ينبغي التنبه إلى محاولات البعض التسويق، في الحالتين اللبنانية والسورية، لتنظيم جبهة "النصرة" بأنه "معتدل"، بالنظر إلى الجرائم التي يرتكبها "داعش"، متناسياً أنها فرع أساسي من فروع "القاعدة" المعروفة التوجه، والتي قد تكون أنشأت أكثر من فصيل لها في سوريا يعمل وفقاً لتوجهاتها من دون الإعلان عن ذلك بشكل صريح.
ومن أجل التدليل على ذلك، ينبغي متابعة تطور الأمور في الأيام المقبلة بشكل جيد، حيث بدأ بعض أتباع التنظيمات "الجهادية" بالدعوة إلى التوحد من أجل مواجهة الحلف الدولي الذي يعلن الحرب على بعضها، مع العلم أن ذلك لا ينفي إرتباط بعض قياداتها بأجهزة أمنية إقليمية ودولية توجهها وتستفيد منها من أجل تحقيق بعض أهدافها.
في المحصلة، نحن أمام مرحلة جديدة من عمل ما يُسمّى بالتنظيمات "الجهادية" على الصعيد العالمي، ينبغي التعامل معها بشكل دقيق، من دون الغرق في بعض المظاهر الكاذبة التي تدفع البعض منا إلى التسويق لبعضها على حساب الآخر، ومحاربتها لا يجب أن تقتصر على النواحي العسكرية والأمنية لأن خطرها الأساسي في الأفكار التي تغزو المجتمعات مستغلة كل الوسائل الممكنة، ويوجد عمل كبير ينبغي القيام به للنجاح في هذه المهمة الصعبة، نظراً إلى أن المواجهة لن تنتهي في وقت قريب بل قد تمتد لسنوات طويلة.