أي كلام عن غير تنظيم «داعش» يعتبر خارج الموضوع هذه الأيام. لذا لا بد من المتابعة في نفس السياق حيث الأسئلة المطروحة أكثر من الإجابات المتداولة.
هل إن تنظيم «الدولة الإسلامية» ولد سفاحاً؟ أم أنه ابن شرعي أو غير شرعي لحرب العراق عام 2003؟
تنظيم «داعش» ليس حركة آنية أو مرحلية، بل هو عابر للحدود داخل الإقليم المترامي الأطراف وليس أقربه سورية ولا أبعده العراق، واللائحة طويلة على خريطة طموحات التنظيم الإقليمية منها وحتى الدولية.
لقد تحولت الأنظار ولو لساعات لمتابعة قيام التحالف العربي - الغربي الذي تعهد محاربة «داعش»، وفي هذا يستطيع «داعش» أن يعتبر أن العالم في جانب وهو في جانب آخر. وحول مؤتمر باريس لإنشاء التحالف، هنا بعض النقاط.
كانت إيران وسورية وروسيا من الأطراف الرئيسة الغائبة عن المؤتمر، وأعلنت الخارجية الأميركية أنها لن تنسق عسكرياً في الحرب مع إيران. إلا أنها تبقى منفتحة على مواصلة أي مناقشة ديبلوماسية معها في هذه المسألة.
لكن وزير خارجية العراق في التركيبة الوزارية الجديدة إبراهيم الجعفري، صاحب العلاقة الأساسي في الموضوع، قال: «لقد شددنا على مشاركة إيران، إلا أن القرار ليس في يدنا ونأسف لغياب إيران عن المؤتمر».
وترى أوساط عالمة أن استبعاد سورية وإيران وروسيا والصين ستكون له نتائج سلبية.
والسؤال الكبير: هل أن تنظيم «داعش» يمكن القضاء عليه بالقصف الجوي من الطائرات فحسب؟ طالما أن كافة الدول التي شاركت في اجتماع باريس عارضت المشاركة في حرب برية. لكن خلال مناقشة الموضوع أمام لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس، أشار وزير الدفاع الأميركي تشاك هاغل ورئيس الأركان الجنرال مارتن ديمبسي إلى احتمال إنزال قوات برية في العراق.
ونعود إلى التساؤلات الأساسية ومنها: كيف نما هذا التنظيم من دون أن ينتبه له أحد من أجهزة الاستخبارات العالمية المنتشرة في طول المنطقة وعرضها؟
إن الحرب على الإرهاب والذي بدأ فعلاً بشن بعض الغارات الجوية على تجمعات «داعش»، هو استكمال لعملية غزو الولايات المتحدة وبريطانيا (وتحالف الثلاثين دولة!) في 2003. هل في هذا الكلام من غرابة؟
لقد انتهت حرب العراق بعد ذلك الغزو بشكل غير طبيعي، فقُسّم العراق إلى ثلاث «دويلات» باتت معروفة لدى الجميع، وهي: دولة كردستان العراق في الشمال و«الكانتون الشيعي» في الجنوب، والجيب السني في الوسط. ولأن انسحاب القوات الأميركية والبريطانية من العراق تم لضغوط داخلية في البلدين، بقي الوضع في العراق مفتوحاً على كل الاحتمالات. وتقدر وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية عدد مقاتلي داعش ما بين 25 و31 ألفاً مزودين بمختلف أنواع الأسلحة وبعضها حديث ومتطور.
وفي سياق التعرف إلى آراء خبراء أميركيين عارفين بخبايا المنطقة نتوقف عند ما قاله الدكتور هنري كيسنجر (إياه) في ذكرى ميلاده الحادي والتسعين. فهو يرى أن على الولايات المتحدة أن «تشن» هجوماً كاسحاً على «داعش» على أن يكون لفترة محدودة كإجراء عقابي، واصفاً أفعال التنظيم بأنها «إهانة لقيمنا ولمجتمعنا، وتحتاج منا إلى عملية محدودة جداً»، داعياً إلى التوقف عن الخوض في كيفية قتال «التنظيم».
وحرص كيسنجر على مهاجمة الرئيس باراك أوباما ومواقفه بشدة فقال: «تحت رئاسة أوباما أصبحنا متفرجين في الشرق الأوسط»، ورأى أنه ينبغي عدم التفريق في التعامل مع «داعش» بين سورية والعراق، وأنه كان يفترض التعامل مع هذه القضية منذ وقت طويل.
أين لبنان من هذا التحالف، وهو الذي شارك في اجتماعي جدة وباريس؟ طبعاً ليس بالإمكان اعتبار لبنان من الدول التي ستشارك فعلياً في ملاحقة داعش، خصوصاً أن تورطه هو و«النصرة» في عرسال وجرودها لم ينته بعد. وقد سعى رئيس الحكومة تمام سلام خلال زيارته الخاطفة إلى الدوحة، إلى إيجاد حل مع أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، لاحتجاز العسكريين في جرود عرسال نظراً لما تتعرض له الحكومة السلامية من ضغوط شعبية من أهالي العسكريين المخطوفين، خصوصاً بعد إقدام المسلحين على ذبح جنديين لبنانيين وتهديد بذبح ثالث، وهذه طريقة همجية وجرائم مقززة لأناس يزعمون النضال في سبيل الإسلام والمسلمين.
ولبنان دائماً في الصراعات يلتزم موقف «المساند» وليس موقف «المواجه» عسكرياً، وهذا الواقع يتكرر اليوم. ففي مسألة التحالف، فإن أقصى ما يمكن أن يقدمه هو أن يكون «دولة مساندة». فلبنان في حال دفاع عن النفس، وليس في وارد الهجوم على داعش ولا في إمكاناته ذلك، سواء في سورية أو العراق. ومع ذلك أخذ البعض على لبنان أنه وقع على اتفاقات باريس ومن قبلها جدة؟.
ألم نقل أن لقيام «الدولة الإسلامية» إيجابيات ومنها: تفاهم الأضداد وتلاقي الأعدقاء في تحالف واحد (الحياة 2014-8-23). وفي سياق الحديث عن مدى فعالية دور قوات التحالف، يجري التساؤل حول مصير الإرهاب والإرهابيين بشكل عام في المنطقة. ففي رأي بعض الخبراء أن الحرب الجوية لن تكون حاسمة في القضاء على الإرهاب بل على العكس، فان هذه العمليات ستؤدي إلى قيام واستحضار المزيد من الإرهاب على اختلافه.
فما من حركة مقاتلة امكن القضاء عليها من الجو فحسب، أما إذا تقرر في النهاية إرسال بعض القوات الميدانية على الأرض، فلا شيء يضمن بقاءها وانتصارها على عناصر «داعش» الذين يعرفون المنطقة التي يقاتلون فيها حق المعرفة. وهذا النوع من «النضال التكفيري» على استعداد للتضحية بكل شيء في سبيل عقائد «تكفيرية بالية»، وهذه القوى مدربة على حروب العصابات، فيما القوات الأجنبية التي وُعد بإرسالها إلى العراق لم تعتد على حروب العصابات. كذلك يقيم مقاتلو «داعش» بين منازل السكان الأبرياء ويتخذون منهم دروعاً بشرية، ما يمنع الضربات الجوية من تحقيق ماهو مطلوب منها.
وبعد، فهذه تساؤلات المرحلة:
أولاً: هل الحرب المعلنة على «داعش» (جواً) ستقضي على الإرهاب المتمثل به وبشـركائه؟ أم تكون النتائج عكسية فتفضي هذه الحملة إلى «استحضار» المزيد من الإرهاب عبر خلاياه النائمة و«المستيقظة»؟
وفي التاريخ المعاصر غير مثال. فعندما أعلن الرئيس جورج دبليو بوش الحرب على العراق (2003) كانت النوايا المعلنة القضاء على صدام حسين وأنصار «القاعدة» ليتضح لاحقاً أن هذه العلاقات بين الرئيس العراقي الأسبق وإرهابيي «القاعدة» لم تكن كما توقع بوش وشركاؤه من «المحافظين الجدد»، وإذا بالعراق وبعد أكثر من عشر سنوات يبرز من جديد ساحة للمبارزة مع كتائب تنظيم «داعش». والنتيجة أن الحرب الأميركية على العراق انتجت أجيالاً جديدة من الإرهابيين أشرس من «الإرهابيين السابقين»، فماذا كانت نتيجة غزو العراق؟
ثانياً: بعد قيام التحالف العربي- الدولي والذي يضم 40 دولة على حد تعبير أوباما، بإمكان «داعش» أن يزعم وهو على حق، أن العالم بأسره اجتمع لمحاربته. لكن استبعاد بعض القوى الرئيسة المؤثرة مباشرة كإيران وسورية سيشكل ثغرة كبرى قد لا تجعل الحملة العالمية ناجزة وكاملة.
وسبق للولايات المتحدة ولغيرها من الدول الغربية التعاطي الجديد مع إيران على أساس أنها جزء من الحل وليس فقط من المشكلة، فما الذي تغير؟
ثالثاً: إن قرار أوباما وزميله الفرنسي فرنسوا هولاند واستعدادهما الحماسي لتزويد «المعارضين السوريين المعتدلين» بأسلحة نوعية ومتطورة، يطرح أكثر من سؤال:
ما هي «القيمة اللوجستية» والعملانية لقوى المعارضة «المعتدلة» والفاعلة على الأرض؟ وأين هو الائتلاف الذي باستطاعته أن يزعم انه يمثل غالبية المعارضين لنظام الرئيس الأسد. ثم إن هذا التطور إذا ما حدث فمن شأنه أن يطيل أمد المواجهة العسكرية في سورية، إذ إن المعادلة لا تزال قائمة: لا النظام استطاع السيطرة على كامل أجراء الجمهورية السورية ولا المعارضة، بل المعارضات، تمكنت من إسقاط النظام. الأمر الذي يعني بقاء سورية وبعض الدول المجاورة في حرب غير حاسمة من جانب الأطراف المتداخلين.
رابعاً: بالنسبة إلى لبنان وصراعه مع مقاتلي «داعش» والنصرة»، فعليه إنهاء هذا الوضع الإشكالي والخطير لأنه ليس باستطاعة اللبنانيين أن يتحملوا جرائم «الداعشيين» وشركائهم، خصوصاً الأسلوب الهمجي المعتمد وهو الذبح.
خامساً: يبدو واضحاً التردد الأميركي حيال كيفية مواجهة إرهاب «داعش»، من دون التورط العسكري من جديد في العراق. وهذا ما ينعكس على الرصيد الشعبي الذي بلغ مستوى متدنيا في أوساط الشعب الأميركي. ويتجلى هذا التردد في العديد من المظاهر والمؤشرات، كإصرار أوباما على الاكتفاء بـ»التدخل من فوق» من دون الوقوع في الخطأ القاتل الذي وقع في العراق عند عملية الغزو المعروفة... أو ما يطلق عليه «لعنة العراق».
ويعتبر أوباما أن المسؤول الأول في مواجهة ومكافحة «داعش» هم العرب السنّة، لذا فهو يلقي عليهم اللوم أولاً، ثم بقية الدعم تأتي من الدول الأخرى المشاركة في التحالف الدولي.
وفي الكلام الأخير من منطلق ما نشهد وما يجري: أن المنطقة ستغرق من جديد في أتون حارق لن يوفر أحداً من شروره وضحاياه الكثر. فـ«داعش» و«النصرة» و... هي تعدد في التسميات بينما الإرهاب واحد مع هذه العودة إلى الجاهلية الجديدة.